عودة الى من وحي سحماتا

ابنة سحماتا لطفية سمعان:
"نفسي ارجع ع سحماتا ولو ساعة واموت هناك في أرضي"

*وجيه سمعان: "في سحماتا حلّت مجزرة، لا يمكن نسيانها، مهما طال الزمن، طالت 16 شهيدًا" *"بقينا نحن أبناء سحماتا ونسبتنا لا تزيد عن 7% في البلاد، بينما تحوّل 93% بفعل النكبة الى لاجئين في لبنان وسوريا وسائر دول العالم"

تقرير: غادة أسعد



سكنت سحماتا في قلب الجليل الأعلى ووقفت قبالتها قرية ترشيحا من الغرب وجاورتها قريتا كفر سميع والبقيعة من الجنوب، ومن الشرق سبلان وحرفيش، بينما وقفت قريتا دير القاسي وفسوطة شمالها.

لكنها نُكبت في العام 1948 فأزيلت وسويت بيوتها بالأرض. وتم الاستيلاء على أراضيها البالغة مساحتها 16900 دونم، وأقيم على أراضيها المسلوبة "موشاف حوسين" عام 1949. عام 1922 بلغ عدد سكانها حوالي 632 نسمة، ارتفع إلى 796 نسمة عام 1931 وإلى حوالي 1130 نسمة عام 1945 .

عن النكبة والوجع الذي ما زالَ يرافق المهجرين سمعنا من عائلة سحماتية الكثير من الشجن وباقاتٍ من الأشعار سجّلها التاريخ وسُطّرت من أجل عيون سحماتا.

التقيتُ مؤخرًا بعائلة سمعان، واحدة من العائلات التي أبعدت عن سحماتا قسرًا، واستقرت في مدينة حيفا: ثلاثة أشقاء يعيشونَ معًا، ويبكون معًا إلى هذه اللحظة فراق أحبائهم، ويعودون معًا بذاكراتهم الى الأيام العصيبة التي طالت مسقط رأسهم يوم النكبة.

لطفية مبدا سمعان (77 عامًا)، وجيه (70 عامًا) وحنا (67 عامًا) ثلاثة أشقاء يروون حكاية التهجير.

بدأت لطفية بسرد الحكاية، وشاركها شقيقاها بتأكيد أو تصحيح ما تقوله: في ساعات المساء بتاريخ 28-10-1948 ضربت الطائرات الإسرائيلية دير القاسي وترشيحا وسحماتا.

عاد الضرب ليُسمع من جديد ليطال سحماتا ظهر اليوم الذي يليه، وكنتُ قد انتهيت من تجهيز الخبز، نزلنا واختبأنا في مغارتين، أنا وأمي في واحدة، واختي واخي الصغير منعم ودفعهم عمي من الخوف في المغارة الثانية المليئة بالماء.. خرجتُ وغلّفت الخبزات بغطاء رقيق ووضعت "البقجة" على رأسي وسرنا نحو فسوطة، خلف أمي، حواء جريس سمعان، ذهبنا لملاقاة اخوتي الثلاثة الصغار الذين يدرسون في قرية فسوطة، ويومها قالت امي: "اذا ظلت فسوطة منظل وان ما ظلت منوخذ اخوتك ومنرحل ع لبنان"، فبقينا في فسوطة.

ودون أن أقاطعها، جادت لطفية بهذه الأبيات التي سمعتها من أمها، يومها:
نِزِل دمعي يَيمّا عَخدّي وحابِسْ
وشبه السيلْ في الوِديان حابِسْ
أمانَة يَيمّا إن مُتِتْ حُطّوني بنواعِشْ
واقِبروني بِالوطن عدروب لِحباب

أجيت داركُن يا دار عمّي
غريب ومسِّحْ دموعي بِكُمّي
نِذْرِنْ علَيّْ ان رْجِعْنا عَسحماتا وزال همّي
لعمّرِكْ يادار وْعَلّي لِعتاب
سكتت لطفية، وعيونها تترقرق بالدمع.

فأكمل وجيه حكاية سحماتا، وتطرق الى سيرة والده: "كنت في الحادية عشرة من عمري عندما سمعت قصف الطائرات، كنت في فسوطة في تلك الأثناء، لكن والدي حدثنا كيف نجا من الموت مرتين، فوالدي كان يختبئ تحت أشجار الزيتون فما كان من الطائرة الا ان اسقطت قنابلها للمرة الأولى "متعمّدة" باتجاه الزيتونة التي كان يستظل أبي تحتها، وقبل سقوط القنبلة هرب الى الشجرة التي بجانبها، فلم تصبه الطائرة، فضربت مرة اخرى الزيتونة التي بجانبها، لكن والدي كان قد هرب قبل ان تطاله الضربات، فخرج من تحت الأشجار وصرخ بأعلى صوته أن عمر الشقي بقي".

تعود روح لطفية اليها عندما تسمع سيرة والدها فتقول: "كنتُ يوماً في فسوطة، ووالدتي وبعض النساء عدن الى سحماتا عشية عيد الميلاد، وحين دخل الجيش حمّل بعض النساء ورمى بهن بجانب كفر برعم، وبينهن والدتي حوا سمعان وزوجة خالي ندى سمعان، وفي الطريق توفيت عجوزان. وواصلت القافلة مسيرتها باتجاه الرميش اللبنانية، حيث حطت النسوة هناك وامضين بضع ليال، وعندما التقين ابن البقيعة شفيق متري ألححن عليه بإعادتهن الى فلسطين، فوافق وساروا عائدين الى الوطن".

وإذ تصمت لطفية، يتابع وجيه: "عندما طوّق الجيش الاسرائيلي سحماتا في 29/10/1948، أغلق الطريق من ثلاثة اتجاهات وترك الجهة الشمالية مفتوحَة للذين يريدون الرحيل الى لبنان، وكان الجيش يصرخ في وجوه الأهالي "اذهبوا إلى القاوقجي"... وفي سحماتا حلّت مجزرة، لا يمكن نسيانها، مهما طال الزمن، طالت 16 شهيدًا منهم: الشاب الشهيد محمد عبد الرحمن قدّورة قتله الجيش لأنّ في يده جرحًا فظنوه جنديا في جيش الانقاذ، فأردوه قتيلاً على مرأى من عيون والده وأهل بلدته. ومصطفى علي قدّورة قتل في حاكورة بيتنا "حاكورِة السوس" وهو عائدٌ ببقراته وعبد الوهاب سلمون كان شيخا مّسنا قتلوه في بيته، وقتلوا حسن موسى في بيته في الحارة الشرقية، أما خليل سلوم فقد أصابته قذيفة طائرة، واستشهد عطاالله موسى بِرصاصة، أما أحمد حمودة فقد أصيب بشظية من الطائرة فاستشهد، أما خليل عبود وهو بقعاوي استشهد اثناء وجوده في سحماتا، كذلك استشهدت كلٌ من موزة موسى وسمية عامر زوجِة توفيق العبِد قدّورة، أما زوجِة الشيخ فتح فقد شهد كامل سليم السمعان أنه شاهد الكلاب وهي تنهش لحمها وهي مستشهدة".

مختار سحماتا لاجئًا في لبنان
يقول وجيه سمعان: "كان ابن الخال جريس قيصر سمعان أحد المخاتير الثلاثة في سحماتا لغاية سنة 1948، ثم أصبح لاجئًا في لبنان، واتيحت له فرصة العودة لكنه فضّل ان يبقى مع أهل بلده سحماتا، فقد أعلنها صراحة وأمام الجميع "لن أعود لوحدي، إذا عاد جميع أهل سحماتا فسأعود معهم"، وتوفي لاجئًا في لبنان.

يتابع وجيه: "بقينا نحن أبناء سحماتا ونسبتنا لا تزيد عن 7% في البلاد، بينما تحوّل 93% بفعل النكبة الى لاجئين في لبنان وسوريا وسائر دول العالم، وبفضل التكنولوجية الحديثة نتواصل معًا عبر الانترنت وعبر الرسائل، حيثُ يشعر أبناء سحماتا بالشوق والعشق والحنين الى قريتهم، ويحلمون بالعودة الى ديارهم".

ويقول: "تجمع أبناء سحماتا ذكرياتٌ موجعة، واخرى حلوة، وسنويًا نلتقي على ارض سحماتا لنحيي ذكرى النكبة، عبر فعالياتٍ ثقافية، سياسية ويلتقي الأطفال في فعالياتٍ خيّرية ويتشارك الأبناء في تنظيف المقدسات والمقابر التي ظلت شواهد على هول جريمة التهجير التي نفذتها اسرائيل".

يبدو الحماس واضحًا في عيون لطفية، وهي تصر على المداخلة فتقول: "كانت العلاقات بين المسلمين والمسيحيين ممتازة، رغم أنّ عدد المسلمين كان يفوق عدد المسيحيين هناك فأهل سحماتا شكلوا حوالي 1200 نفر، وعدد المسيحيين 65 نفرًا، الا اننا لم نشعر يومًا بالغربة والتمييز، بل على العكس، فضّل المسلمون في الكثير من الأحيان انتقاء مختار مسيحي، لتأكيد أواصر اللحمة بيننا"...

تتوقف لطفية عن الحديث لتلملم جراحها وتقول:
نِزِل دمعي على خدّي وهوَّدْ
عاللي رَحَل من سُحماتا وما عوَّد
يا رايح عَلِبنان هيي يا مْعوَّدْ
سَلِّمْ عاهِلْ بلدنا ولِصحاب

يا جُرن القهوِة وين أهاليكِ
واحد وستين سِنِة ما دارْ الدقّْ فيك
راحَت مُحْماصتي تِِشكي لَلِبريق
بِِكي الفِنجان عَفراقِ لِحبابْ

تلتقط أنفاسها، وتحاول تغيير أجواء الحزن منتقلة الى بعض الذكريات عن سحماتا: "كنا نعيش ع البركة، لا براد ولا اشي وايام احسن من اليوم، يذبحوا الذبيحة ع المرفع، بشبكة يعلقوها، مرت خالي قيصر تذبلها مع نتفة بهار، تقعد شهر شهرين تعملها قاورما، الخابية اللي عندها كانت تمليها عسل... خابية فرنجية، تعصر قرص تشيلو والقرص الثاني تفرقو للجيران، كانت الناس اللي معندهاش عسل توكل من اللي عنده. ما تنساش من الجيران حدا شيلي، انا بدير بالي.

سألتها عن سرّ بكائها المتواصل فقالت: "بنمش، كل يوم الا ما ابكي، بفطن باخوتي وكيف عشنا في البلد وشو صار فينا، بتضايق من الحياة اللي عايشينها.... بلدي راحت، بتيجي واحدة بتسألني "ما عوسيم بو؟" (شو بتعملو هون)... واحدة حدي بالباص، قالتلي " مزمان ات بآرتس بو؟" (من زمان انت بهاي لبلاد!) قلتلها "اني نولدتي بوه" (انا ولدت هون). خافت نقلت من حدي... قلتلها للقرد".

يتوقف وجيه سمعان عند مسألة انتقاله الى حيفا فيقول: "جئت الى حيفا عام 1958 للبحث عن فرصة عمل، ولأننا كنا في أيام الحكم العسكري فقد منعنا من الخروج من حيفا إلا بتصريح، حصلنا على اقامة في حيفا، وعملت في الصحافة، وبقيتُ وأبناء سحماتا على علاقة وطيدة بقريتنا".

وعن حلم العودة يقول وجيه: "صار حلم العودة قريبًا بعد تأسيس لجنة الدفاع عن حقوق المهجرين عام 1995، وفي 17/تموز 1996 أسسنا جمعية ابناء سحماتا وهي جمعية عثمانية، تعمل وفق القانون... والقانون بالنسبة لنا ان لا نتنازل عن حق العودة، إنه إصرار أبدي أن لا نحيد عن هذا الدرب، نحن لا نبكي على الاطلال، لدينا نقمة، ستزول بزوال الاحتلال وبعودتنا الى أرض آبائنا وأجدادنا".


أما لطفية فظّل في جعبتها الكثير مما تقوله: "ع لوا ارجع ع سحماتا، نفسي ارجع ولو ساعة واموت هناك. عقلي سارح في سحماتا، كل اشي في قريتي بتذكره. جبت حجرين من بيتنا، وحجرين من الساحة، وين الكنيسة، دايري بالي عليهن.. صدقيني انو الحيوان كمان بحن. كان عنّا في سحماتا عمّال تهجّر معانا. أخذو مرّة أخوي عاكرمنا.. لمّا وصل صار يجعّر ويحفر في الأرض وعيونو تدمّع .. كيف الانسان ممكن ينسى "

رددت لطيفة هذين البيتين وبكت طويلاً:
بلاد الغربة يا يما وذلتنا
كلاب النذل شالتنا وحطتنا
برجعـــوعنا ع بلدنا
من قرار البــير نشـلتنا

وعندما سكتت ألححتُ عليها بالمزيد من الأبيات التي قالتها والدتها وجعًا على سحماتا فقالت:
اجيت اصبر والقى الصبر مرّ
وريقي عقد بحلقي يا يمّا مر
كل ما اجي صوب بلدنا وأمرّ
واقول وين اهاليها والصحاب

ورحت صوب سحماتا حتى اسلّي همومي
لقيتها خالية ومليانه هموم
سايرتك يا سحماتا وين اهاليك عمومي
هدوك هاجروا وما منهم حدا

ورحت صوب سحماتا واحسبها الزمن الاول
ويا دمع عيني ع حيطانها هوّد
وسألتك يا سحماتا وين صحابك الاول
هدوك رحلوا ورحيلهم طوّل

واختتمت:
يا دارْ يا دارْ إن عَوَدْنا على ما كُنّا
لَطيْنِكْ يا دار واجْعَلْ طينتكْ حِنّا
وَجيبْ شُقّة حريرْ واخْلَعْها على البَنّا
واقولْ يا عَدَوّ إِرفَعْ صايْبَكْ عَنّا


عن صحيفة فصل المقال
7/5/2009





® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com