على طريق العودة - مالك أيوب



لقد استيقظت من جديد. نفضت من حولي برد الشتاء القارس وبدأت أتنفس شعاع الشمس الواصل إلى ساقي النحيلة ببطء شديد. إن همتي قوية وعزيمتي راسخة ويجب أن أحيا ... فأمامي طريق طويل مليء بالمخاطر والصعاب. لقد قضيت فترة شتاء مظلمة في قوارة صغيرة أحاطت بها جدران عازلة مدة اشهر طويلة ثقيلة. كنت أعلم أن مَن وضعني هنا حرص على إبقائي حيًة . فلطالما شعرت بالمحبة والعناية منذ اللقاء الأول. كنت أدرك أني سوف لن أكون مهملة دون عناية.

وبنظرة في الاتجاه القريب أرى جارة أندلسية اخضرت أوراقها وكبرت حتى صارت زينة للناظرين، غير أن ذلك لم يثر غيرة في قلبي. فأنا أدرك أن وجودي هنا في زوريخ كان مجرد مرحلة عابرة وأن مكاني الصحيح هو بين أبناء قريتي سحماتا الذين شردوا في أماكن بعيدة متفرقة في لبنان.

بدأت أتذكر ..... لقد وُعِدتُ أني سوف أعود إليهم حين أقوى وتشتد ساقي وها أنا قد أمضيت سنة ونصف من عمري الرقيق في هذا المكان البعيد. إني أشعر أن موعد العودة قد قرب. إنني أستجمع قواي و يا شمس أمديني بطاقة تساعدني على تحمل ما هو قادم.

..... ها هي قد مرت أسابيع بل أشهر وهاهي أوراقي تخضر وأنا أنام وأصحو على حلم العودة مع إدراكي التام أن العودة الحقيقية هي إلى سحماتا !.

لم أكن حزينة جدا حين فارقت قريتي القابعة فوق التلتين. لقد كانت مأساتكم أن طُردتم من قريتكم رغم إرادتكم. أما أنا فقد غادرتها راضية لكي أعيد لكم جزءًا مما فقدتموه وأذكركم بأشياء غطاها الزمان بكثير من غباره. أتيت إليكم كي أقول لكم إن سحماتا لم تمت وأن هناك خضرة وماء وحياة ... وأطفالا بين الحين والآخر يلعبون. ومن أهلنا من يأتينا ليُسلينا فنذكر الماضي ونتذكر وتسيل دموع نحيا من بعدها على أمل العودة الطويل. هكذا تستمر الحياة وهكذا نبقى نحن معشر النبات. فلا النار تحرقنا ولا الجرافات تفنينا. فمن جذور الأرض نخرج ومع ضوء الشمس نكبر وفي لائحة الأزل نسجل أسماءنا.

لم أكن وحيدة، ولم أكن غصنا كسرته الريح فوقع على الأرض وطمرته الأوحال. كانت أمي شجرة عالية تعانق السماء، تطل بأغصانها الشاهقة على الحارة الفوقى وتستمع إلى الصلوات من الكنيسة والمسجد في الحارة التحتى. كانت جذورها تشرب الماء من البركة فتزين بخضرتها عيون الناظرين، فترقص معهم في الرحبة يوم أعراسهم وتحنو عليهم بنسمات رقيقة كخالاتي من الرمان والسرو والزيتون.

و تبقى الدعوات والصلوات أن أصل إلى الأحبة في سلام وأمان. فمشكلتي مع السفر ليست بأقل من مشكلتكم، وإن مَرَرتُ من هذه الحدود اليوم فلا آمن أن أمر من تلك غدًا. غير أني قد كسرت حاجز الخوف. فأمامي مهمة صعبة، إلا أنني بإذن الله سوف أكملها وسوف أكون أجمل تينة رأيتموها. سوف أكبر بسرعة وأعطيكم من الثمر ما لم تستطعموا مثله منذ عشرات السنين. فرائحة سحماتا في ثماري ورطوبة هوائها في ماء أغصاني ولون بساتينها أحمله في أوراقي. سوف أعيدكم بالذاكرة ستة عقود ولن يطول بقائي عندكم حتى نرجع سوية بإذن الله.



سويسرا - سحماتا
27/9/2008












® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com