|
تين سحماتا بقلم: مالك ايوب
إهداء خاص
للطفية سمعان ووجيه سمعان كان والدي رحمه الله في عام 1958 في حيرة من امره، فالمولودة الجديدة بحاجة الى اسم، وها هي لائحة الاسماء طويلة عريضة تتسلسل في خاطره لا يستطيع ان يختار منها اسما واحدا. مرّ ثلاثة أيام، والكل يطلق على المولودة الحديثة اسم" البنت إج جديدي اي البنت الجديدة". كانت فرحة امي عارمة لدرجة نسيت معها ان "البنت إج جديدي" بحاجة الى اسم. أمي التي بقيت بعد زواجها مدة سنتين دون انجاب، حتى اعتقد بعضهم انها لا تنجب أطفالا، ها هي ترزق الآن بمولود ثالث. لم تكن تعلم والدتي في ذلك الوقت أن هناك ثمانية مواليد جدد في انتظارها بعد هذه المولودة. وأن المولود الخامس قد امتشق قلمه أستعدادا لكتابة الاسطر التالية: كان مخيم غورو القريب من قلعة بعلبك في الشمال الشرقي من لبنان ضيقا كأحوال المعيشة فيه. ويبدو ان اسم هذا الجنرال الفرنسي المشؤوم، الذي بنى هذا المعسكر قبل ان يصير مخيما، قد انعكس شؤما على معيشة أهل المخيم. وكيف لا وهو الجنرال الذي قرع في عام 1920 بعصاه على قبر صلاح الدين الأيوبي في دمشق بعد احتلالها وقتل وزير دفاعها يوسف العظمة بعد موقعة ميسلون قائلا: "ها نحن قد عدنا هنا يا صلاح الدين". كانت اوضاع اللاجئين في مخيم غورو بعد سنوات عشر من النكبة، مزرية. فمعظم اللاجئين لا يجدون عملا يسترزقون منه، ومن يجده، فقد كان يعاني الامرّين من الظروف الشاقة والعمل المرهق والبرد القارس الذي يلف المنطقة في فصل الشتاء لشهور عدة. ولكم تذكر اهل سحماتا في مثل هذه اللحظات قريتهم الحنون الدافئة وهواءها العليل وتينها وزيتونها اللذيذين. استقل والدي سيارة التاكسي، المارسيدس الخضراء، التي يملكها الحاج البعلبكي ابو راجح وقد صادف دخوله السيارة وجود ابو احمد يجلس على المقعد الخلفي، حيث كان هو الآخر في عجلة من امره، يريد تسجيل مولودته الجديدة، و قد ترك عمله اليوم في زراعة البطاطا على غير عادته، حيث امهله ابو عباس صاحب العمل في سهل البقاع مدة ساعة لاتمام اجراءاته في دائرة تسجيل النفوس التي لا تبعد سوى خمس عشرة دقيقة عن المخيم. غير ان الرحلة في سيارة ابو راجح استمرت اكثر من نصف ساعة، فدعسة البنزين قد فلتت مرة اخرى اثناء الطريق، كعادتها في كل يوم، وها هو ابو احمد ينفجر غضبا ويصرخ من كرسيه الخلفي "والله لو اجينا على الحمار كنا وصلنا اسرع". ويرد ابو راجح من خلف مقوده الممزق بكل برودة اعصاب "دعسة هالبنزين هيدي خربت سمعة قلعة بعلبك". كانت اسماء الجدّات والعمات ما زالت تتواتر في ذهن والدي دون توقف. فكل منهن سوف ينالها الفخر اذا ما سميت المولود الجديدة باسمها. وبعد خطوات متسارعة، عادت خطوات والدي الى التباطؤ من جديد. فقد انتصف النهار ولائحة الاسماء لم تستقر على قرار. وما هي الا خطوات قليلة اخرى حتى وجد والدي نفسه يقف امام موظف تسجيل النفوس سائلا اياه "شو نسجل اسم المحروسة؟". "سحماتا" أجاب والدي دون تردد. نظر الموظف الذي ارتسمت على جبهته ازواج الخطوط المتعرجة المتوازية وغطّت حواجبه البيضاء نصف عينيه، مستغربا، وهو الذي لم يسمع طوال حياته بمثل هذا الاسم سائلا: هذا اسم بنت؟. "لا، هذا اسم قريتنا في فلسطين" اجاب والدي. ضحك الموظف وأغمض نصف عينيه وقد بدت عليه ملامح الفطنة والذكاء. وكيف لا وهو الذي حنكته السنون وتابع اخبار النكبة. ولربما عاشر فترة هجرة الحاج امين الحسيني الى جنوب لبنان بعد ان حكم عليه الانجليز بالاعدام، ولربما رأى ايضا وفود الفلسطينيين تتدفق على لبنان دعما وتأييدا للحاج امين قبل ان يغادره الى مصر. .. قرابة خمسون عاما قد مرت على ميلاد "سحماتا"، وها انذا اقف على اطلال البيت الذي احتضن ميلاد ابي. شجرة صنوبر عتيقة قد غطّت ركام البيت ولم أعد ارى من بين الحشائش المتشابكة سوى اجحار صغيرة تشهد على جريمة التدمير. اشجار التين القديمة التي طالما سمعنا من جدتي عنها تنبت هنا وهناك. من هذه التينة أكلت جدتي، هنا إستظل جدي. ورأيتني انحني وأتبنى غصنين منها، اقبلهما واضعهما في حقيبة الظهر التي احضرتها معي من زيورخ. عند عودتي الى الناصرة اخذت منشفتين صغيرتين وبللتهما بالماء ولففتهما بحنية حول الغصنين. كان همي الوحيد ان يبقيا على قيد الحياة، فرحلة العودة الى زيورخ لن تكون قبل اربعة ايام. وفي نفس الوقت دارت بخاطري هواجس كثيرة، فدخول النباتات المحضرة من الخارج الى سويسرا ممنوع. فهل خروج النباتات من فلسطين ممنوع ايضا؟ لا.. ليس ممنوعا. ليس هناك قانون في الارض يمنعني من تبني تينة من ارضي.. من قريتي. بدأت اقنع نفسي بهذه الحقيقة وادعو الله ان يكون الخروج من فلسطين والدخول الى سويسرا مسهلا وان يكتب الحياة لتينتي سحماتا. ما ان تركت شباك مراقبة الجوازات في مطار زيورخ حتى ايقنت ان غصني التين قد اصبحا في مأمن فحمدت الله على ما كتب. وفور وصولي الى البيت كانت هناك قوارة جميلة وتربة جديدة في انتظار تينتي سحماتا. في اليوم التالي اتصلت بأختي "سحماتا" في صيدا جنوب لبنان وسردت لها قصة غصني تين سحماتا، ووعدتها اذا ما كتبت الحياة للغصنين ان اهديها أحدهما ليكبر قريبا من اهل سحماتا، عسى الله ان يصبح شجرة كبيرة كثيرة الأغصان. وكأني والله ارى اهل سحماتا يزرعون اغصانا بعد اغصان ويأكلون من تين سحماتا حتى يمن الله عليهم بالعودة الى ديارهم. لقد دبّت الحياة في غصني تين سحماتا وأصبح كل غصن يحمل اليوم خمس وريقات.. ما أجمل النظر اليهما في كل يوم وهما يكبران. ليتهما يعلمان كم من اهل سحماتا في انتظارهما. ليتني استطيع ان اخبرهما ان احفاد الذي زرع شجرتهما الأم في انتظار وشوق لرؤيتهما. 25/8/2007 - (سويسرا - سحماتا) include ('facebookshare.php'); ?> |
® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com |