حواشي الظلال

* يوم الجمعة الماضي ذهبت الى مسرح الميدان في الناصرة لمشاهدة مسرحية سحماتا، ومما لا شك فيه ان الانسان يحمل في داخله فكرة المستقبل حول اي حدث او فعل مقبل عليه، اللهم الا ان يكون الشيء جديدا عليه، لذلك فقد ذهبت لمشاهدة المسرحية وانا أعي تمام الوعي بأن القائمين على المسرح هم محط ثقة جميع رواد المسرح، ثانيا ان الممثلين هم ايضا يمتلكون مساحات كبيرة في قلوب مشاهديهم، ثالثا انه العرض قبل الاخير للمسرحية اذ انني لم اشاهدها من قبل، والسبب الرابع والاهم هو اسم المسرحية ومدارها.
لا اريد التحدث عن الديكور في المسرحية لأنني غير مختص في هذا المجال ولا اعرف عنه شيئا ولكن حالما دخلت الى القاعة ونظرت الى المسرح خفق قلبي خفقة سريعة وشعرت بفجوة بصرية قد ابتلعت المنظر المفتوح امامي لتعود به الى قريتي اندور وبقايا بيوتها المتناثرة على مسطحها الجميل الذي يغازل كل ليلة جمالية الافق المنتشر على شموخ الطور.

كان عرضا كبيرا بكل ما تعنيه الكلمة مع قلة عدد الممثلين، ولكن قوة وعظمة الممثلين لطف نويصر وميسرة مصري استطاعت ان تملأ الدور ومن ثم المكان الزمان، استطعت ان ازيل تراكمي الانوي وأن البس دثار المرحلة الحساسة من
تاريخ طويل يسير بمحاذاة اشواك القمع الهمجية، استطعت ان أتبين خلجات القلب الفلسطيني على ايقاع عكازة الجد ومن اهتزازها عرفت لوعة الاقتراب من الحجارة ومن بقايا التين والصبر.

رأيت المداعبة الجميلة من الجد لتلك الزيتونة المزروعة في اوردة الوجود الفلسطيني، رأيت الارتباط بين الثابت والمتحرك بين التراب والتراب كحفلة وصل اندلسية.

ومما رأيته ايضا حفل الليل المتمايل بين الكلمات وبين بيوت الاهل المهدومة، ان النقاش الحاد بين الجد والحفيد استطاع ان يولد موقفا موحدا ليس بقوة الفعل الكلامي القائم على الجدل الممجوج انما بقوة الايمان بالحق وقوة التمسك بالشاهد المزروع على ارض الوطن.

ان المسرحية بكل ما تحويه من ابداع هي ايضا مؤشر تاريخي وهي شاهد على قوة الذاكرة الفلسطينية المشبعة بالارتباط الوثيق بالأرض، وبالانسان حيا وميتاً.

ان الفكرة الاساسية لعمل كهذا هي فكرة خرجت من صخر الجليل ومن صدر قد امتلأ عِزًا حتى فاض على سواقي البلاد ما بقي منها وما جففته أيد تحاول ان تغور منابع الشعب الفلسطيني الممزوج مع أرضه وسمائه وما بينهما مشكلاً نسجا حقيقيا لواقع يؤكد هذا العشق المتبادل بين الفلسطيني وأرضه.

ان هذه المسرحية قائمة على حوارية ذاتية تنشئ ذاتها من ذاتها وتعيد الحوار كلما استبد بها هاجس الانتقال من كينونتها الى حواشي الظلال، تحاول ان تبني جسراً ممتدا بين الزعفران ولونه وبين الخروب واشجار اللوز.

لقد سعدت جدا في مشاهدتي للمسرحية وحزنت اكثر، سعدت لأن حبل الامل لا يزال موصولا بأوله ولأن الذاكرة الجماعية للأهل في ديارنا ما زالت تدور حول محورها، ما زالت ترفض ان تسافر الى جزر الواق واق تاركة وراءها اهازيج الوطن، وحزنت لأن واقع الحال يوقظني على حقيقة تشرف على منحدر الفترة الراهنة بكل ما تحمله من ألم التغريب داخل الوطن.

شكراً لمسرح الميدان- لفؤاد ورائد، شكرا لطف شكرا ميسرة، شكرا لكم وللجميع، للصبر للزيتون، للتلال التي نستريح عليها كلما أتعبتنا حلاوة الامل.


غسان مناصرة
صحيفة " الأيام " - عام 1999







® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com