|
"قيامة لولا".. البرازيل عادت إلى العمل -محمد مهدي عيسى
تمكن الزعيم اليساري لولا دا سيلفا من أن يصنع إنجازات في ظروف صعبة، جعلته "السياسي الأكثر شعبية على الأرض"، وفق تعبير الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما.
كان السجين في الطابق الرابع من مبنى الشرطة الفيدرالية في مدينة كوريتيبا البرازيلية في حكم المنتهي لكثيرين، فهو لن يتمكن من فعل شيء بعد خروجه من غرفة مساحتها 160 قدماً مربعاً سوى الزواج من حبيبته الملقبة "جانجا" - في أفضل الأحوال - وتحويل الحب السري المغلف في رسائل ينقلها محامي السجين يومياً إلى آخر علني يمضي به الرجل البالغ 73 عاماً نهاية عمره. بعد 580 يوماً من السجن، أضحى الرجل حراً. صار قادراً على الزواج من حبيبته، ومؤهلاً للترشح للرئاسة. هو نفسه لم يتوقع أن تبرئه المحكمة العليا البرازيلية من الحكم القاضي بسجنه 12 عاماً، وأن تعيد إليه فرصة ممارسة نشاطه السياسي الذي أُقصي عنه قبيل انتخابات عام 2018 التي أدت إلى فوز نائب متطرف ومؤيد للحكم العسكري الذي ناضل البرازيليون طوال عقدين (1964 - 1985) ضده، اسمه جايير بولسونارو. سيرة لويس إيناسيو لولا دا سيلفا لا تعدو أن تكون محاولة تمرد مستمر على المتوقع. ليل الأحد، وقف لولا، الذي كان مسجوناً منذ 3 سنوات، أمام أنصاره المحتفين بفوزه على منافسه بولسونارو في ساو باولو، وخاطبهم قائلاً: "أنا مواطن جرّب القيامة. حاولوا دفني حياً، لكن ها أنا ذا". إنّه "طائر فينيق" البرازيليين، تقول إحدى المشاركات في احتفالية ساو باولو. لولا لم يكن ذلك السجين الذي نال رئاسة ثالثة وهو في الـ77 من العمر فحسب، إنما هو الخروج المتكرر من رماده، فالرئيس الذي لم ينل تعلمياً جامعياً، ولم يصبح قادراً على القراءة إلا في سن العاشرة، لم يكن سوى طفل لعائلة فقيرة مهاجرة من شمال شرقي البلاد، أكثر المناطق تهميشاً وفقراً في ذلك الوقت، إلى ضواحي ساوباولو، حيث اختبر هناك مختلف المصاعب العائلية والمهنية، متنقلاً بين قيادة شاحنة والعمل في مصبغة ومسح الأحذية، قبل أن يحصل على أول بطاقة عمل وهو في الرابعة عشرة من العمر في أحد المصانع، ويصبح منذ ذلك الحين عاملاً متمرساً في صناعة التعدين. لو لم يكن لولا محارباً منذ فتوته لما شقَّ طريقه من عضوية نقابة التعدين عام 1969 إلى رئاستها عام 1975، ثم ترأس عشرات آلاف العمال في ذلك الحين إلى ترأس حزب جديد بعد 5 أعوام سيحمل اسمهم (حزب العمال). عرف لولا أن التراكم يصنع القوة، لا من خلال النظرية، بل التجربة، فهو حين قرأ الكتاب السياسي الأول "ما هو الدستور؟" عندما كان في الرابعة والعشرين، بتوصية من أخيه الماركسي شيكو، لم يكن ينظر إلى الأمر إلا كما لو أنه تسلية، ولم يراجع أفكاره بشأن السياسة وأهمية ممارستها إلا بعدما اعتقل النظام العسكري أخاه وعذبه. أحدث لولا تغييراً في عمل النقابات. كانت الأخيرة بعيدة عن الهموم اليومية للعمال، وتهتم بأمور هامشية، كإعداد المخيمات الترفيهية ومتابعة الشؤون والإدارية. نزع لولا الطابع التحزبي من النقابات، وجعلها أكثر اهتماماً بمعالجة مسائل الأجور وحقوق العمال، ليساهم بقيادته بعد ربع قرن من عصر التصنيع في تحرير طبقة العمال وإبرازهم إلى الواجهة، مستخدماً لذلك أساليب سلمية وديمقراطية، كالإضرابات العامة والتفاوض مع أرباب العمل. دشّن لولا في ذلك الحين مشروعاً سياسياً عنوانه حماية الفئات الضعيفة؛ مشروعاً سيظل بلا عناوين أيديولوجية عريضة. عام 1980، أسس حزب العمال وترأسه. وعندما انتهت الديكتاتورية عام 1985، كان المرشح الطبيعي لأول انتخابات رئاسية مباشرة من قبل الشعب في عام 1989. هُزم وخسر الانتخابات في ذلك العام، ثم فشل أيضاً في انتخابات عامي 1994 و1998، ما أكسبه صفة المرشح الأبدي. استطاع لولا أن يحافظ على تواصله المباشر مع الشعب، فهو في الأساس معارض لحكم النخب التي جاء من خارجها. لولا واحد من قلائل البرازيليين الذين يعرفون بلدهم ريفاً ومدينةً، فهو يعرف أزمات سكان ريو دي جانيرو، كما يعرف أزمات السكان في باهيا أو الأمازون، وخصوصاً أنّه بدأ بناء مشروعه الرئاسي منذ بداية التسعينيات بإجراء جولات ميدانية، وإنشاء فرق مختصة تدرس واقع مختلف المناطق وتقدم تقاريرها، وكان مشروعه الأبرز تنظيم "قوافل المواطنية" عام 1993 التي قطعت آلاف الكيلومترات، وعاينت المناطق الأكثر فقراً وحرماناً، واستمعت إلى الناس وحاجاتهم، في أكثر من 350 مدينة موزعة على 26 ولاية. أخيراً، تمكّن لولا من الفوز بانتخابات عام 2003. المرشح الأبدي صار رئيساً لبلد ستوصف إنجازاته في عهده (2003 - 2010) بأنّها معجزة. كادت البرازيل تعلن إفلاسها قبل توليه الرئاسة، لكن بعد نحو 7 سنوات أصبحت البرازيل إحدى الدول المقرضة لصندوق النقد الدولي. الاستقرار الاقتصادي والنمو والحد من الفقر في عهد لولا سبب حراكاً جديداً في السوق المحلي في البرازيل، وكان لذلك الفضل في دمج فئات جديدة من السكان في سوق العمل الرسمي والاستهلاك، وهو ما جعل البرازيل أقل حساسية لصدمات الطلب الاقتصادي الخارجي، بل جعلها قادرة على تحقيق نمو رغم الأزمات المالية العصيبة، كما هو الحال في أزمة 2008 العالمية، حين بلغ معدل نمو البلاد نحو 5.1%. وفيما كانت البرازيل توصف بأنّها "دولة خامدة" في القرن الماضي، عزز لولا مساعيه لبناء علاقات سياسية دولية ساهمت في إحداث تنمية اقتصادية؛ ففي عهده، ارتفعت الصادرات البرازيلية إلى العالم العربي بأكثر من 200%، وإلى أفريقيا بنسبة مماثلة، وإلى الأرجنتين بنحو 400%. وفي الولاية الرئاسية الأولى وحدها، تضاعف حجم الصادرات البرازيلية ككل. أما على مستوى القارة الأميركية الجنوبية، فأطلقت البرازيل عام 2004 مبادرة "الأوناسور" (UNASUR) لضم كل دول أميركا الجنوبية. وفي آذار/مارس 2008، اقترح دا سيلفا إنشاء مجلس دفاع أميركا الجنوبية، بهدف بلوغ تحالف دفاعي شبيه بالحلف الأطلسي. وأحدثت المبادرات الإقليمية التي أطلقها دا سيلفا انتقالاً من سياسة خارجية يحركها الاقتصاد والتجارة فقط، إلى تركيز سياسي أو إستراتيجي يهدف إلى بناء قاعدة قوة إقليمية تقوم عليها دبلوماسية عالمية جديدة قوامها التعاون بين القوى الكبرى وكسر الهيمنة الأحادية. ولهذا، نجده واحداً من الزعماء القلائل الذين حافظوا على علاقات قوية مع الرئيسين الأميركي جورج بوش والصيني هو جينتاو في وقت واحد. يقف لولا اليوم أمام تحديات صعبة. التضخم يأكل رواتب البرازيليين، وبلاده شبه معزولة بسبب سياسة سلفه، والفساد يهدد مكاسب الدولة خلال العقدين الماضيين، والبولسونارية حسبما يصفها تهدد بتمزيق المجتمع، وأزمة غابات الأمازون قابلة للتدويل، لكن الرئيس الذي جرّب طعم الهزائم قبل الفوز يعرف كيف يدير التسويات، وهو في سبيل ذلك يعرب عن استعداده للعمل مع خصومه السابقين، مثل الرئيس الأسبق فيرناندو أنريك كاردوسو، من أجل الدفاع عن الديمقراطية في مواجهة قوى اليمين. سيكون لولا مضطراً إلى التنازل أحياناً من أجل تحقيق ما وعد به بشأن إعادة إنعاش الاقتصاد، وخصوصاً أنّ معارضيه يسيطرون على المجالس التمثيلية. هو في وضع مشابه للوضع الأميركي غداة استلام بايدن الحكم، إلا أنّه لن يتمكن من طباعة ورقات الدولار، كما فعل الأخير. يتقن لولا لعبة التغيير حين يصبح ذلك ضرورياً. عام 2007، عندما سُئل عن سبب تأييده مشروع قانون الضرائب الذي حارب ضده لسنوات في صفوف المعارضة، قال: "لا أخجل من تغيير رأيي. أنا أفضّل أن أتغيّر كلما تغيرت الحقائق". ما الذي سيتغير في لولا وسياسته خلال ولايته الثالثة؟ حتماً، ليس جموحه وعناده ضد الواقع والمتوقّع. من الميادين 1/11/2022 include ('facebookshare.php'); ?> |
® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com |