|
تشيلي تختار الاشتراكية على الفاشية: نحو قبر النيوليبرالية في مهدها الأول - حسن مصاروة
أي تراث ثوري عظيم تحمله تلك البلاد، "تشيلي"، أي معركة ملحمية تاريخية لا زال يقودها هذا الشعب منذ الشهيد سلفادور الليندي ضد الفاشية والنيوليبرالية، بتحولاتها التاريخية، المدعومة من الامبراطورية الأمريكية والناهب الدولي إلى اليوم، أي شعلة لا تنطفئ هذه. وأي تبصّر نبوي حمله الشهيد الليندي في آخر خطابته قبل الاغتيال حينما قال: "بالتأكيد سيتم إسكات راديو ماجالانس، ولن يصلكم صوتي بعد الآن. لا يهم. فسوف تسمعونه دائمًا. سأظل دائمًا بينكم.. هذه كلماتي الأخيرة، وأنا على يقين أن تضحيتي لن تذهب هباءً، وأنها على الأقل ستكون درسًا أخلاقيًا يعاقب جريمة الجبن والخيانة". فها هو بعد عقود يتردد صوت الشهيد بين الجماهير المنتفضة، تحت هراوات قوى الفاشية ورصاصهم، يعاقب الجبناء والخونة في انتفاضة الجماهير الشعبية في عام 2019 التي قادت إلى تغيير الدستور النيوليبرالي الموروث من عهد ديكتاتوريّة الحكم العسكري، وها هو صوته يتردد اليوم بعد 50 عامًا على استشهاده بين الجماهير المحتفلة بنصرها الانتخابي على أحفاد بينوشيه، وها هو صوته يتردد عبر حنجرة الرئيس اليساري الشاب المنتخب، غابريبل بوريك الذي يصرح من على منصة النصر: "مثلما كانت تشيلي مهدًا للنيوليبرالية، ستكون قبرها".
كان الخيار الذي وضع أمام شعب تشيلي في هذا الانتخابات، خيارًا مصيريًا يحدد شكل مستقبل هذه البلاد، الخيار بين مرشحين رئاسيين على طرفي النقيض، كل منهما يحمل مشروعًا يمكن أن يغير الطبيعة السياسية للدولة بشكل جذري: أحدهما يمكن أن يكون الرئيس اليساري الأكثر راديكالية منذ سلفادور الليندي، وهو غابرييل بوريك، الآخر رجعي ويميني متطرف بدرجة دكتاتور تشيلي الفاشي أوغستو بينوشيه، وهو خوسيه أنطونيو كاست. ولهذا وصفت صحيفة الـ"ايكونيمست" البريطانية الليبرالية الشهيرة، هذه الانتخابات التشيلية على أنها، "انتخابات بين متطرفين".فالاعلام الليبرالي يساوي بالـ"تطرف" بين مرشح يحمل توجهات ديكتاتورية فاشية واضحة وبين مرشح يحمل برنامجًا ديمقراطيًا اشتراكيًا، لأنه يعترض على المنظومة الاقتصادية النيو-ليبرالية، قُدس أقداس الفكر الغربي السائد. غابرييل بوريك، الذي فاز أمس بالانتخابات هو قيادي طلابي سابق، وصعد نجمه خلال قيادة الانتفاضة الاحتجاجية الشبابية ضد الإصلاحات النيوليبرالية في منظومة التعليم عام 2011، ويأتي انتخابه رئيسًا اليوم على رأس حركة شعبية واسعة كانت تتويجًا لأكبر موجة من الاحتجاجات في أميركا اللاتينية شهدتها تشيلي عام 2019، الاحتجاجات التي خرجت آنذاك ضد واقع عدم المساواة الصارخ والسياسات النيوليبرالية. الاحتجاجات التي حقق عبرها المتظاهرون مطلب، صياغة دستور جديد يستبدل ذاك الموروث من عهد ديكتاتوريّة الحكم العسكري. أما كاست، المرشح اليمني المتطرف والرجعي، الذي يجاهر بالحنين لمرحلة الديكتاتورية البينوشية، هو نجل ضابط ألماني سابق له صلات بالحزب النازي. وكان هذا المتطرف هو المرشح الرئاسي الرئيسي الوحيد الذي وقف ضد عملية إعادة صياغة الدستور التي فرضتها احتجاجات عام 2019. وله سجل واضح في معارضة حقوق الإنسان والحقوق الديمقراطية والرعاية الاجتماعية، ويحمل برنامجًا رجعيًا يذكر بميراث بينوشيه المظلم. في الحقيقة، ففي نظر اليسار في أمريكا اللاتينية وحتى في الغرب، ليس هناك أي بند في برنامج غابرييل بوريك يمكن أن يوصف بأنه "متطرف"، كما فعلت الـ"ايكونميست"، فهو برنامح اشتراكي ديموقراطي يحمل إصلاحات اجتماعية واقتصادية يسارية. أما بالنسبة إلى كاست، فكل جانب من جوانب برامجه تنضح بالتطرف اليميني الخطير. المرشح الذي تعرض خطابه وتكتيكاته الشعبوية اليمينية في أمريكا اللاتينية في أسوأ صورها. مثل صديقه وحليفه الرئيس البرازيلي جاير بولسونارو، فإن حملته الانتخابية عبارة عن خليط من الأخلاقية الرجعية المحافظة والعقائد النيوليبرالية المتوحشة. بالنسبة للتيار المحافظ في تشيلي، الذي يقوده كاست، فإن النيوليبرالية ليست مجرد نظام اقتصادي، بل هي عبارة عن "دين"، حتى أكثر من الولايات المتحدة ذاتها، ففي النهاية كانت تشيلي وبقيادة الديكتاتور بينوشيه، هي مهد النيوليبرالية الأول، ومختبر تجارب لهذا النظام الذي غزا العالم بعد ذلك بقيادة ريغان في الولايات المتحدة وتاتشر في بريطانيا. فمنذ القرن الماضي كان المتحدثون باسم النيوليبرالية في تشيلي يفترضون أن "قدسية الملكية الخاصة" هي ذروة نظامهم الأخلاقي، وبالتالي دمجوا الروحانية الكاثوليكية في النيو ليبرالية الاقتصادية، وهي الايديولوجيا التي حمل كاست رايتها في هذه الانتخابات. وكان من أكبر مجسدي هذا المشروع الأيديولوجي في القرن الماضي هما معلم كاست المنظر خايمي جوزمان وشقيق كاست الأكبر ميغيل. ففي حين أن الأخير صمم دستور تشيلي لعام 1980 الذي سنته الديكتاتورية العسكرية، فإن الأول ساعد في تنظيم التحول النيوليبرالي في تشيلي من خلال الموقع المركزي الذي تولاه في جهاز بينوشيه للتخطيط الاقتصادي. مع أن الوضع الراهن في تشيلي هو تركز متطرف للثروة في أيدي الأوليغارشية المكونة من عدد قليل من العائلات القوية والشركات الدولية. ومع أن البلاد تصدرت مؤشرات عدم المساواة المخزية لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية لسنوات عديدة. مع كل ذلك، شن كاست وأتباعه حملة على برنامج بوريك الذي يحمل شعارات مثل "إعادة توزيع الثروة" ووصفوها في دعايتهم الانتخابية على أنها "مشاريع هدامة" التي تهدد "أعمق أسس الوطن"، لأنها في الحقيقة تعترض على أسس "دينهم" النيوليبرالي. وبسبب برنامج بوريك الاشتراكي الديموقراطي الذي يدعو لإعادة توزيع الثروة وسد الفجوات الاجتماعية- الاقتصادية ومنع تركيز الثروة في يد قلة غنية وحرمان بقية الجماهير المسحوقة منها، حملة كاست الانتخابية استخدمت شعارات مثل "الولاء أو الشيوعية" و"الحرية أو الشيوعية"، لزرع الخوف بين الجماهير من برنامج بوريك. لكن شعب تشيلي كان يعرف بين أي خيارين وضع، بين الاشتراكية والفاشية.. واختار الاشتراكية. الصراع بين المرشحين، كان صراعًا بين مشروعين متضادين، لم يولد التعارض بينهما في هذه الانتخابات، بل هو صراع مستمر منذ عقود، وقد دخل هذا الصراع أحد أهم محطاته في عام 2019 في الاحتجاجات التي توجت بنتيجة الاستفتاء على صياغة دستور جديد للبلاد، ينهي العمل بآخر موروث من عهد الديكتاتور أوغستو بينوشيه. فاستبدال الدستور، مثّل أحد أبرز مطالب الحراك الشعبي الذي انطلق، احتجاجًا على رفع أسعار بطاقة مترو الأنفاق، لتتّسع في ما بعد إلى موجة غضب استهدفت الرئيس المحافظ سباستيان بينيرا ونظامه، ومن ثم تحولت إلى احتجاجات على الدستور الذي لا يقرّ بمسؤولية الدولة عن الخدمات الاجتماعية، مثل التعليم والخدمات الصحية وغيرهما والذي أسس لترسيخ النظام الاقتصادي النيوليبرالي الذي أدى إلى نشوء هوة اقتصادية-اجتماعية كبيرة. ومع أن غابريبل برويك كان مدعومًا في هذه الجولة من الانتخابات من الحزب الشيوعي في تشيلي، إلا أم الحزب قد نافس بقوة من خلال مرشحه الخاص في الجولة الأولى من الانتخابات، وكاد مرشح الحزب الشيوعي دانييل جادو أن ينتقل إلى الجولة الثانية من الانتخابات لينافس المرشح اليميني على رئاسة البلاد، لكن المرشح الديموقراطي الاشتراكي غابريال بوريك تفوق عليه. ليعلن المرشح جادو والحزب الشيوعي التشيلي دعم بوريك في انتخابات الجولة الثانية والتحالف معه. وفي مقابلة مع جادو، قبيل انتخابات الجولة الثانية، مع مجلة جاكوبين اليسارية الأمريكية، موضحًا أسباب دعم الحزب الشيوعي لبوريك، قال: "الآن نحن ندعم غابرييل بوريك، وأنا مقتنع بأنه سيكون الرئيس القادم لشيلي. عندما يتولى غابرييل منصبه، ستحدث أشياء مهمة للغاية في تشيلي، بدءًا من الحقيقة البسيطة المتمثلة في أنه سيكون مسؤولاً عن الإشراف على تنفيذ الدستور الجديد. هذا وحده هو أمر جلل - هذا شيء إصلاحي وثوري للغاية في آن. لقد أمضينا ثلاثين عامًا نحاول التخلص من دستور أوغستو بينوشيه، والآن بعد أن وصلنا إلى هنا، من المهم أن يكون رئيس مثل بوريك هو من يوقع على الدستور الجديد ليصبح قانونًا ويشرف على تنفيذه، سيتم تنفيذ الدستور الجديد في نظام لا يزال رئيس الجمهورية يقود المبادرات التشريعية. لذلك، من الضروري تمامًا أن يؤمن الرئيس فعلاً، كما يؤمن غابرييل بوريك، بالتغييرات التي يجلبها الدستور الجديد. قد لا تتبع حكومة غابرييل الإصلاحات بنفس المعدل الذي كنا سنقوم به لو كان في الحكم"، لكن غابرييل يتحرك في نفس الاتجاه الذي نسير فيه". وأضاف حول رئاسة بوريك ودعم الحزب الشيوعي له والعمل معه حينما يصل إلى المنصب: "إلى جانب كل الإنجازات التي قد تتحقق في السنوات المقبلة، ستكون رئاسة غابريبل بوريك بداية الطريق الذي يتعين علينا أن نكمله. الشيء الأكثر إلحاحًا في الوقت الحالي هو العمل مع الإرادة الشعبية، بحيث يمكن بعد حكومة غابريبل بوريك أن تأتي أخرى وتتابع من حيث توقف، مما يمنع المحاولات المستقبلية لتفكيك ما حققناه. نحن نعلم أن التحولات التي تحتاجها تشيلي لن تحدث في غضون عامين أو أربعة أو حتى اثني عشر عامًا؛ إنها عملية يجب الحفاظ عليها في الوقت المناسب، وبدون دعم شعبي لا مستقبل لها". ويأتي انتصار التحالف اليساري في تشيلي، في سياق نهوض جديد لليسار في القارة اللاتينية، فهو يعود إلى الحكم في عدد من دول هذه القارة، فبعد عودة اليسار إلى الحكم في بوليفيا، قبل عام، عندما عاد ورثة الرئيس اليساري السابق إيفو موراليس إلى الحكم إثر فوز مرشح "الحركة نحو الاشتراكية" لويس أرسي بالانتخابات الرئاسية وفوز مرشح اليسار بيدرو كاستييو، هذا العام في انتخابات الرئاسة في البيرو. وكل استطلاعات الرأي تشير إلى تفوق الرئيس الاشتراكي البرازيلي السابق لولا دا سيلفا في انتخابات الرئاسة القادمة عام 2022 على رئيس البرازيل الحالي اليميني المتطرف جايير بولسونارو. ليعطي فوز اليسار في تشيلي دفعة معنوية لكل معاقل اليسار في القارة. بعد اغتيال الليندي وتولي الديكتاتور الفاشي ودمية واشنطن بينوشيه الحكم في تشيلي ليصنع منها مهد النيوليبرالية بتوجيه من "صبية شيكاغو"، ألقت قوات العسكر الانقلابية القبض على المغني اليساري الأسطوري فيكتور جارا ومئات من الطلاب الجامعيين اليساريين، وقادتهم إلى استاد تشيلي وحجزوه هناك أربعة أيام، وحُرِم من الطعام والنوم، وتعرَّض للتعذيب: كسر الجنود أصابعه، وأعطوه غيتاره وأمروه بأن يكمل الغناء، كانت آخر أغنية غنَّاها جارا في المعتقل، قبل مقتله، هي "سننتصر". اليوم بعد 50 عامًا، أحفاد سيلفادور الليندي يملأون شوارع سانتياغو، ويغنون بصوت واحد يتردد عبر أنحاء القارة اللاتينية، "انتصرنا"، وفي أعينهم إصرار على قبر الفاشية النيوليبرالية في مهدها الأول. عن الاتحاد 20/12/2021 include ('facebookshare.php'); ?> |
® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com |