أذربيجان: عراقة الشرق وسحر الغرب وتسامح الأديان - زياد شليوط


ما أن أخبرت بعض أصدقائي وأبناء عائلتي بأني مسافر الى أذربيجان، حتى علت الدهشة وجوههم وبدت الحيرة في عيونهم والبلبلة على ألسنتهم. منهم من استصعب لفظ اسم البلد ومنهم من لم يسمع باسمه ومنهم من استهجن السفر الى وجهة مجهولة، ونقلوا لك مشاعرهم القلقة وكأنك مقدم على مخاطرة غير محمودة العواقب. قد يكونون على حق فأذربيجان وعاصمتها باكو أسماء غير متداولة بين الناس عندنا، فهم يعرفون اسطنبول وأنطاليا ورودس وسواها من المراكز والمنتجعات السياحية، والانسان عدو ما جهل كما اعتدنا على القول، فهل باكو وجهة مجهولة تستدعي كل ذلك القلق.

ان زيارتي الى أذربيجان الأسبوع الماضي، ضمن مجموعة إعلامية وسياحية جعلتني أكوّن رأيا مختلفا ومغايرا. فأنا أيضا لم أعرف عن أذربيجان الكثير وكان لديّ رأي مسبق عنها، لكن طرح فكرة زيارتها أثار عندي حب الاستطلاع والمعرفة ووجدتها فرصة لمعرفة البلد عن قرب، وساعدني على ذلك بعض الجولات "الجوجلية" لتكوين فكرة بسيطة عنه، لكن تبقى حكمة أجدادنا وآبائنا بأن الحكي ليس مثل المشاهدة، أصدق تعبير عن هذه الحالة.

باكو: بلد التعددية والنظافة والأمان والحضارة الإنسانية

ما أن يدخل أي زائر غريب الى بلد وخاصة لأول مرة حتى تشغله بعض الهواجس والأفكار، لكن ما أن تطأ قدماه أرض باكو حتى تبدأ تلك الهواجس تتطاير من ذهنه، فأول ما سيلفت نظر الزائر تلك النظافة فوق العادية في الشوارع والمطاعم والأزقة والفنادق كلها سيان، لا قاذورات، لا أوراق، لا بقايا طعام، لا زجاجات أو علب متناثرة وما شابه. والأمر الثاني الذي سيثير الاطمئنان ذلك الأمان السائد المتفق عليه دون تواجد للشرطة، تسير في الشارع العام أو الزقاق الضيق في البلدة القديمة أو كورنيش قزوين أو في الأسواق الشعبية المزدحمة أو المجمعات التجارية الحديثة، فلا تحتاج لأن تلتفت يمنة ويسرة أو تتمسك بحقيبتك خشية أن يخطفها شاب شارد من يدك، لا وجود لتلك المظاهر الأوروبية في باكو. الجميع يسير دون مضايقات، النساء الى جانب الرجال، الشاب وصديقته، الأم وابنتها، الكهل وزوجته، لا مضايقات، لا تحرشات، لا تدخلات، وان سألت أحدا حاجة هب لمساعدتك رغم أن سحنات أهل البلد المتجهمة لا توحي بالألفة، وربما ذلك يعود لانعكاس البيئة على وجوههم وليس نفوسهم.

أذربيجان بلد معظم سكانه من المسلمين ( الثلثان شيعة والثلث سنة)، لكن لا يوجد للدولة ديانة رسمية ( اعتمادا على كتاب أذربيجان: 100 سؤال وجواب) وفيه أقليات مسيحية، وفيه كنائس وكنس ومعابد بهائية وهندوسية الى جانب المساجد، مما يعكس حقيقة هذا البلد المتسامح والمتعدد، الذي يعيش حياة عادية وإنسانية من الطراز الأول فلا تشاهد النساء محجبات ومنقبات من سكان البلد ( انما من تراهن فهن من منطقة الخليج)، فالناس يحترمون الأديان لكنهم لا يمارسون الطقوس تقريبا، ولا أحد يفرض على الآخر كيف يعيش دينه، كما عبرت عن ذلك مسؤولة في أحد الفنادق في حديث معها.

على غرار الكثير من المدن في العالم فان باكو تضم في قلبها المدينة القديمة المسورة بسور قديم جميل الشكل، وفي داخلها الأبنية القديمة والبيوت العتيقة والتي تشرف منظمة اليونسكو على الحفاظ عليها، وتحتضن المدينة القديمة والتي تعرف باسم ( ايجري شَهَر) عدة معالم هامة ومنها: قصور ملوك شيروان، الذين حكموا البلاد واتخذوا باكو عاصمة لحكمهم في القرن الثاني عشر. برج العذراء وهو أحد معالم باكو ويعتبر رمزا لها ولأذربيجان، لكن المؤسف أنه لا تتوفر معلومات عن هذا البرج وتاريخه وتسميته، لكن يعتقد أن تاريخ بنائه يعود للقرنين السادس والسابع ق.م. ويعتقد أيضا أنه بالقرب من البرج تم صلب القديس بارثولوميو عام 71 م. وهو الذي قام بنشر الديانة المسيحية في الهند وآسيا الصغرى وقبض عليه من قبل شقيق الحاكم. مسجد باب الهيبة ويعتبر أحد أبرز المساجد التاريخية، ويعرف باسم مسجد فاطمة ابنة الإمام موسى الكاظم وفيه مدفنها، لذا تحول هذا المسجد الى مزار للتبرك والصلاة.

أما معالم باكو الحديثة عديدة منها المتاحف ومن أشهرها المتحف الوطني، والذي صممته المهندسة العراقية العالمية المشهورة زهى حديد ومتحف السجاد وقد صمم على شكل سجادة. فينيسيا الصغيرة التي تتيح للعائلات جولات في القوارب بثمن زهيد، شارع نيزامي الرئيسي حيث يمكن التجول فيه خاصة في ساعات المساء وبجانبه شارع المشاة الجميل والأنيق والذي تكثر فيه المطاعم والمقاهي. كورنيش قزوين الجميل والواسع يتيح لك سيرا رومانسيا عصرا وليلا بهدوء وصفاء.

أبراج اللهب وهي ثلاثة أبراج أحدها يشغله "فندق فيرمونت" الفخم والثاني مكاتب وشقق سكنية والثالث مجمع تجاري، تتراوح ارتفاعاتها بين 140- 190 مترا ويمكن مشاهدة الأبراج من أي مكان في المدينة، وتحلو مشاهدتها في ساعات الليل حيث تنبعث منها الأنوار بأشكال وألوان مختلفة مرة على شكل لهب ومرة على شكل علم الدولة.

معبد النار: حضارات قديمة ماثلة للعيان

من أجمل الأماكن وأكثرها اثارة للاهتمام خارج باكو هو جبل النار الواقع في شبه جزيرة أبشيرون، حيث تشاهد فيه النار تخرج من أسفل الجبل وهي دائمة الاشتعال نتيجة لتوفر الغاز داخلها ومن هنا أطلق على أذربيجان تسمية" أرض النار".

وزيارة معبد النار (أتشكاه) في سوراخاني، الذي يرمز للديانة الزرادشتية، لا بد منها حيث تتنقل بين الغرف التي كان يرتاح فيها التجار وهو سائرون على طريق الحرير قادمين من الصين والهند، وتشاهد تماثيل لأولئك الأشخاص في عدة حالات، وتطلع على قصة بناء المعبد الذي ما زال ينبض بالنار حتى اليوم.

وهناك بحيرة نهور بالقرب من مدينة جيبالا، ومقام ديري بابا وهو صومعة الصوفي ديري بابا الذي بقي فيها سنوات طوال حتى مماته. ومسجد حيدر علييف وهو الأكبر في البلاد. ومسجد الجمعة شماخي الذي تعرض للزلزال مرتين وللحرق وتم إعادة ترميمه قبل سنوات قليلة.

تلك هي أذربيجان التي دخلتها قلقا، مزروعا بالهواجس منها، وغادرتها معجبا، متشوقا للعودة اليها.

28/6/2018







® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com