شَعْرٌ منْبوش؟ - د. حاتم عيد خوري
إبتدأت قبل اسبوع السنةُ الدراسيةُ الجديدة. بدايةُ هذه السنة الدراسية، كغيرها من بدايات السنوات الثلاث والعشرين الماضية التي مرّت منذ ان انهيتُ عملي في وزارة المعارف سنة 1993، تُذكرني بمشواري الطويل في خدمة التعليم العربي، وتستحثُّني مرة اخرى للكتابة عن تلك التجربة. كنتُ اصرف النظر، والأصح "أطنّش"، عن هذا الموضوع، سنة بعد اخرى، ربما لكثرة انشغالاتي الرسمية في إدارة بلدية حيفا، على امتداد عشر سنوات متتالية(1994-2003) ولكثرة التزاماتي التطوعية الاجتماعية فيما بعد، او ربما لاني خشيتُ ان تبدو كتاباتي بهذا الصدد، مجردَ سيرةٍ ذاتية افرضُها على القراء فأثْقِلُ بها عليهم.

نعم كنتُ "اطنِّش"، لكنّ أركان هذا "التطنيش" أخذت تهتزُّ إزاء ردود قراءٍ كرامٍ عديدين، على ما نشرتُه حتى الان، من مقالات وقصص، بوتيرة كادت تكون اسبوعية. أما "الضربة القاضية" التي قوّضت تلك الاركان، فكانت قبل اسبوعين، في ردهة فندق HAULING في مدينة تبليسي عاصمة جورجيا. التقيتُ هناك مجموعةً صغيرة من المعلمين المتقاعدين المستجِمّين بينهم طارق ووليد اللذين كان لي شرف تعليمهما في دار المعلمين في حيفا، في سنوات النصف الثاني من الستينات، وشرف ارشادهما إبان عملي مفتشا في السبعينات والثمانينات ومطلع التسعينات. تمحور الحديثُ بطبيعة الحال، حول ذكرياتنا المشتركة في الكلية العربية للتربية (دار المعلمين آنذاك) ووزارة المعارف، كما تطرقوا الى ما انشره مؤخرا، متمنين عليّ بالحاح أن ادمج بين الامرين. هذا التمنّي المُلِّحُ لم يترك لي مجالا للتنصّل، خصوصا بعد أن قال الاستاذ طارق موجِّها حديثَه اليَ على مسمع من الجميع: "لقد جعلتَني اعتبرُ الخطَّ الواضحَ قيمةً تربوية". لم افهم قصد طارق، فطغت على وجهه ابتسامةٌ عريضة وهو يسالني: "أتذْكُرُ علامةَ الصفر التي كنتَ قد منحتني ايّاها على دفترالامتحان؟". أجبتُه على الفور:"أتعني علامة الصفر مع وقف التنفيذ؟". ضحك طارق من اعماقه تاركا لي رواية القصة التالية: كان ذلك على ما اذكر في اواخر الستينات. قمتُ بتصحيح دفاتر اول امتحان لصف طارق وتسجيل الملاحظات المستوجبة على كل دفتر، باستثناء دفتر طارق الذي استعصت علي قراءتُه نظرا لرداءة خطه، فكتبتُ في مطلع الدفتر كلمة "صفر" وفي اخرالدفتر كتبتُ الملاحظة التالية: "صفر مع وقف التنفيذ، ريثما اتمكنُ من قراءة ما كتبتَه يا "دكتور" طارق!! إن خطّكَ يذكّرني بقصة ذلك الطبيب الذي كتب رسالة غرامية الى صديقته، فأخذت الرسالةَ الى صيدلي كي يقرأها لها".

ضحك الجميع واخذت نوادرُ الماضي تتالى وكل منها يستقرُّ عميقا في ذاكرتي، بانتظار نشرٍ قريبٍ مرتقب، وإذ بالاستاذ وليد يقترح عليّ ان اقوم بنشر الرسالة الوداعية التي كنتُ قد عمّمتُها قبل ثلاث وعشرين سنة على العاملين في إدارة المعارف العربية والسلطات المحلية العربية، وذلك "نظرا لمضمونها المميز" على حد تعبيره. وعدتُه بتلبية طلبه ولكن ليس قبل ان اقول له مداعِبا: "أخشى ان اتّهَم يا وليد بالافلاس، باعتبار ان المفلس يعود الى دفاتر ابيه العتيقة". قال لي بثقة العارف: " انْشُرْ واتركْ الحُكمَ للقاريء". وها انا ابرّ بوعدي ولو جزئيا، فانشر مطلع تلك الرسالة وخاتمتها:

غداة بداية عملي في التفتيش سنة 1972، قال لي احدُ الاصدقاء مهنِئا ولربما ايضا مداعِبا: "شو بدها الماشطة تعمل مع الوجه العَفِن؟!!". فاجبتُه آنذاك بجدّية قد تكون مفتعَلة: "يكفي الماشطة شرفا ان تحاول التمشيط جيدا. فالشعر المصفّف إنْ عجِز عن إسعاف وجه عَفِن (على حد تعبيرك انتَ) يصبح هذا الشَعرُ على الاقل، وسيلةً تفضح من اؤتُمِن على تجميل ذلك الوجه، فلم يَرْقَ الى مستوى الامانة..." وهكذا اصبح "الشَعرُ المصفَّف" بالنسبة لي، توجّها إستراتيجيا التزم به........

لا اريد في هذه الرسالة الوداعية تقييم عملي في وزارة المعارف. هذا الامر اتركه لغيري، اتركه لجمهور المعلمات والمعلمين، اتركه لمن هم - بهذا الصدد بالذات- اكثر موضوعية مني. ومع ذلك، معذرة ايها الزملاء الكرام، إن كاشفتكم بحوار طالما دار بيني وبين نفسي، بحوارٍ حاولتُ مخلِصا ان اتخذه نبراسا تُستضاء به طريقُ عملي في مجال التربية والتعليم، حيث كنتُ دائما اقول لنفسي:

* إذا اردتَ يا حاتم ان تكون مرفوع الراس، فاجعل من بيئتك القريبة دفيئة تنمي منتصبي القامة.

*إذا أردتَ يا حاتم أن تكون محترَما ومحبوبا ومقبولا، فاجعل من نفسك مُحترِما للآخرين ومحبّا ومتقبلا لهم.

*اذا اردتَ ان ترتفع، فاجعل من تواضعك الاصيل رافعةً تسمو بك.

*إذا اردتَ ان تتقدم، فامتطِ صهوة اجتهادك علميا ولا تجعل من نفسك مطيةً يعتليها "فرسانٌ" مشبوهون.

*اذا اردتَ ان تغيّر وتجدّد، فاجعل من نفسك رائد تغيير ورمز تجدد.

*إذا اردتَ لطالباتك وطلابك ان يحافظوا على عروبتهم، فاحفظ انت اولا "عربيتك" سليمة، وحافظ عليها والتزم باستعمالها وسيلةَ تواصلٍ مع طلابك، نُطقا وكتابة، كمعْلَمٍ بارزٍ جدا من معالم انتمائهم القومي.

*اذا اردتَ ان تكون معلِّما ناجحا، فاحرص على بقائك متعلِّما منفتحا.

*إذا اردتَ ان لا تتوتر ، فلا تعتقل نكتة في سياقها الصحيح. اطلق عنانها ولو ملثمة، واجعلها تزرع بسمة على شفاه مستمعيك، بسمة تبدّد ضجرَهم وتخفّف توترهم وتشق طريق المادة التعليمية الى قلوبهم وعقولهم.

*باختصار: "ضع الحدّ في مارسك(اي في ارضك)" اولا، ولا تجعل من ممارساتكَ، حدّا يفصلك ويبعدك عن الآخرين.

اقول هكذا كنتُ اخاطبُ نفسي دائما. لقد حاولتُ جاهدا ان اعمل على هدي هذه المُثُل والمباديء. لَكَم أرجو واتمنى ان اكون قد نجحتُ في ذلك. أمّا إن لم انجح وبقي "الشَعْرُ منبوشا"، فحسبي اني قد حاولتُ مخلصا.

9/9/2016






® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com