عودة الى مقالات - بقلم صاحب الموقع


أبو سمير - بقلم : وجيه سمعان
كانا يتجادلان بحدة في الحارة التي تحتل صدر القرية, ولفحات الريح العذبة التي تهب من الشمال تداعب الناس والأشجار والأشياء بلطف .. ترفع وريقة من هنا, وترميها هناك .. تعانق غصن لوز فيهوي نواره الهوينا على الأرض.. تحط بدلال مرة ما بين نهدي فتاة , ومرة , تشغل أخرى في لملمة شعرها ..فيلتذ لذلك الشباب ..

وغير بعيد عنهما كنت واقفا مع زميل لي وأنا متكئ على جدار, نحكي حكايات الكفاح والأمل وننظر للناس بحب وهم يروحون ويغدون, وقد تجمهر البعض حولهما.

في هذا الجو الهادئ الوديع, ازددت أنساً بكلام جورج المكنى بأبي سمير, وهو فلاح طيّب, اسمر اللون, فارع القامة, يزينه شارب أسود, وكفه كالصخر: لا يا نور, لن أفرّط بحبة تراب منها ..عشت من أجل هذه الأرض, ومن قبلي أبي وجدّي عاشا من أجلها .. انظر الى هذه الكف .. انها من تلك الأرض ..وانظر الى هذا الزند نما فيها .. المال, ما جدوى المال؟ ما قيمة الانسان بدون أرض؟ والتفت الى من حوله وقال : اياكم ان تبيعوا كمشة من تراب.

ويلتف رأس نور.. ونور هذا, كهل وخطّ الشيب رأسه, يتأبط دوما شنطة تحت ابطه, وعلى عينيه نظارات شمس يضعهما صيف شتاء .. يزور البوليس قرب القرية كل يوم الا فيما ندر ..

يا أبا سمير ..حط في الخرج ,ولا تكن جاهلا.. تعلم من غيرك, عاندوا وكابروا ولم يفدهم ذلك شيئا ..فالحكومة لا تعرف هذه الوطنيات, وانت تعرف أن باعها طويل وقوانينها اطول ..الأرض ستذهب منك حتى ولو بدون قرش ..

ولم تلطف نسيمات الريح العذبة من غضبة ابي سميرعلى هذا اللون من الكلام, وقال محتدّاً: شوف ! أنا لا أخشى الا الذي خلقني.. أنا جزء من هذه الارض, ولن يقلعني منها تراكتور ولا بلدوزر .. فاهم! ويصفر وجه نور, ويقول باختناق وتهديد: الآن عرفت ما أنت ؟! أنت شيوعي. ويحتد النقاش, وتتشابك الشتائم .. وباعتزاز, والبسمة معلقة على الشفاه, يحدق الناس بجورج, وبكفه الصخرية التي تريد أن تهوي على نور ... واذ بسيّارة جيب تدخل القرية, فيرتفع صوت نور ويأخذ بشتم الجميع ..

فضحكت مع من ضحكوا من أعماق قلبي, فقد تذكرت حمارتنا وأنا طفل فقد كان يعلو صوتها كل ما رأت والدي كي يعطيها قليلا من التبن والقصل ..وانفض الجميع وقد أمطروا نور بصاقا..

وفي اليوم التالي, ذهبت الى جورج لأحييه, فوجدت امرأته والجارات من حولها تقص عليهن القصة وصوتها يرن شتما ولعنا على الحكومة, كأنها تكمل ما بدأ به زوجها أمس.. وحركت جديلتها, وطلبت مني جريدة "الاتحاد", فأعطيتها, وأردت أن أرجع ما يحق لها من نقود, فقالت: ابقها للآعداد التالية.

وبعد اسبوع, قرأت في الجريدة قصة أبي سمير التي ترفع الرأس, وكان لتوه قد خرج من التوقيف, وهو محوط بحب الجميع.

وجيه سمعان
صحيفة " الاتحاد " : 3 - 10 - 1975





® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com