عن صندوق العجب.. وعجائب الزمان! - فتحي فوراني


* إنه صندوق جاءنا من عصر "الجاهلية العلمية".. ولد قبل أن يولد التلفزيون بعشرات السنين، بل هو الشكل البدائي الأول الذي وضع اللبنة الأولى ودشن "عصر التلفزيون الحديث"!

*في البدء.. شيء عن عبد الناصر..*

أود بدءًا أن أشكر أخي وصديقي زياد الذي يذكرني كل سنة وفي شهر أيلول بموسم من مواسم العز القومية. يركب زياد البحر.. ويسافر بنا إلى خمسينات وستينات القرن الماضي.. فيذكر الأجيال الصاعدة بفترة المد القومي ورمز ذلك المد.. الزعيم القومي الخالد أبو خالد جمال عبد الناصر.. فله الشكر حارسًا لتاريخ هذا الرجل.. والتذكير بعصر ذهبي مضى. إنه الحنين القاتل إلى أيام العزّ القومي والشوق إلى صفحاته الموسومة بماء الذهب.. .صفحات تشرق كرامة وإباء وكبرياء.. لا ربيعًا عربيًّا مشبوهًا يعشش فيه الوباء.

لن أقدم لكم دراسة نقدية أدبية ولن أستعمل المساطر الأكاديمية الجادة والرصينة.. في تقييم هذا العمل الأدبي. فالفضاء السياسي والمزاج النفسي وإيقاع الحياة العصري.. الذي يشوبه القلق والتوتر.. والجلوس أمام الفضائيات لمتابعة أخبار الساعة المتلاحقة.. لا يبقي مجالا لمثل هذا الأمر.

أترك ذلك لآخرين من إخوتي الذين يتمتعون بشيء من راحة البال الأكاديمية، وتتوفر لهم الظروف والشروط الموضوعية.. ويبدون استعدادًا لبذل الجهد الفكري.. للبحث والتنقيب في الثنايا والزوايا والخبايا.. واقتناص الكلمات والعبارات والأبعاد التي تتركب منها العمارة الأدبية.. إضافة إلى الأسلوب الفني أو الأساليب المتنوعة التي تتشكل منها هُوية الإبداع.

إنما سأشير إلى بعض الملامح البارزة التي استوقفتني وتشكلت أمامي بعد انتهائي من قراءة "عجب يا صندوق" للأستاذ زياد شليوط.

*أبو رجب.. وصندوق العجب!*

ولنبدأ الحكاية من البداية!

فقد جلست أمام "صندوق العجب".. كي أشاهد عجائب صندوق أبو رجب.. زياد الشفاعمري..

وأول ما يتبادر إلى الذهن السؤال التالي: تعرفون من هو أبو رجب الطبعة الأصلية؟

إذن.. إسمحوا لي أن أسلط عدسة الكاميرا على المشهد التالي:

إتخذت مكاني على مقعد خشبي طوله متران كي أشاهد عجائب "صندوق العجب".

فما هو "صندوق العجب"!؟

لا أشك أن البعض من الإخوة الذين عاصروا أيام الانتداب.. جلسوا أمام صندوق العجب.. وهم بعض قليل.. فاستمتعوا ودفعوا قرشين أو بيضتين ثمن الدخول مع أليس إلى بلاد العجائب!

وأما البعض الآخر.فإنه لم يعرفه ولم يسمع به. معظمنا لم يسمع بصندوق العجب ولا بصاحبه أبي رجب. غير أنني لعلى ثقة أن الياس جبور (أبو جبور) يعرف أبا رجب معرفة شخصية حقّ المعرفة.. ويحفظ ملفه عن ظهر قلب.. فقد عايشه وجلس على مقعده وشاهد "فيلمه السينمائي" ودفع له بيضة مسلوقة ثمن "تذكرة الدخول" إلى هذا العالم المتخيل!

لقد كان أبو جبور شاهدًا على العصر!

*وما أدراك ما صندوق العجب!؟*

ومرة أخرى..

إسمحوا لي أن أغني خارج السرب لحظة.. كي أحدثكم عن "صندوق العجب" وعن صاحبه "أبو رجب"!

إنه صندوق جاءنا من عصر "الجاهلية العلمية".. ولد قبل أن يولد التلفزيون بعشرات السنين، بل هو الشكل البدائي الأول الذي وضع اللبنة الأولى ودشن "عصر التلفزيون الحديث"!

فقد سبق العرب غيرهم واخترعوا هذا "العفريت".. قبل أن يخترع الغرب التلفزيون الذي هلّ علينا واقتحم بيوتنا واحتل غرف نومنا.. وأعمل معوله في الروابط الاجتماعية الحميمة بين أبناء المجتمع الواحد.. وحتى بين أبناء الأسرة الواحدة.. في البيت الواحد.

ثم لحق به الحاسوب لكي يعمل فينا الحسايب.. ويكمل المشوار التدميري الذي بدأه التلفزيون.. طابورًا خامسًا!

نقول هذا دون إغفال فضائل هذين الاختراعين في فتح أبواب المعرفة والمعلومات على مصاريعها.

ولن أحدثكم عن الآي باد والآي فون والسمارت فون.. وجميع أفراد العائلة الكريمة.. فحديث الأفاعي طويل المدى.. ولا أدري إلى أين نحن ذاهبون!

واسمحوا لي أن أكون متشائمًا.. إنني أرى خلل الرماد وميض جمر ويوشك أن يكون له ضرام

*عبلة قمر الزمان.. والأميرة بنت السلطان!*

تعالوا معي لنلقي نظرة سريعة فنحمل الفرشاة ونرسم صورة تقريبية لـ"صندوق العجب". لقد كان أبو رجب هو الوحي الذي نزل على زياد وأوحى له في تأليف هذا الكتاب.. عنوانًا وشكلا ومضمونًا.. وسار زياد على هديه في عرض المشاهد العبثية العجائبية التي يحفل بها كتاب "عجايب يا صندوق"..

إنه صندوق خشبي طوله متران أو ثلاثة وله عينان أو ثلاث عيون.. تطل منها عدسات مكبرة للصورة.. نشاهد عبرها شريطًا متحركًا يلتف ويدور حول بكرتين.. ويشبه الفيلم الذي يكون في الكاميرا الكلاسيكية.. فيلف الشريط ويدور ليقطع المسافة من بكرة إلى بكرة.. فنشاهد أمامنا قافلة طويلة من الصور.. نشاهد صورًا لأبي زيد الهلالي وعنترة بن شداد العبسي والزير سالم وعبلة قمر الزمان والأميرة بنت السلطان.. وسعدى الجميلة بدر التمام.

نجلس على المقعد الخشبي.. ثلاثة صبيان.. ونشاهد شريط الصور المتحرك. ونصغي إلى الحكواتي "أبو رجب" وما يرويه من القصص والحكايات الشعبية والمغامرات المثيرة.. يروي لنا الراوي.. حكايات تثير فينا العجب.. ولا تخلو من مبالغات تشرف على حدود الخيال.. نعشقها نحن العرب..

يروي لنا القصص الغرامية ويحكي لنا عن بطولات أبي زيد الهلالي الذي يجندل كتيبة كاملة من الأعداء.. ويجند "أبو رجب" كل ما يملك من المواهب والطاقات التمثيلية.. فيصور بكلمات وإشارات من يده وعينيه وحاجبيه وصوته التمثيلي.. ويصف المعارك وساحات الوغى التي تعجّ بالخيول والفرسان وغبار المعارك.. فنسمع صليل السيوف والرماح ويصف المعارك المستقاة من التراث العربي القديم.

ذلكم هو "صندوق العجب".. ألذي أدهش الأطفال وأمتعهم وأثار إعجابهم بعجائب الصور.. وذلك قبل أن يهل علينا النظام الذي ينتمي إلى عائلة التكنولوجيا الذكية المتطورة.

*ألزير سالم وأبو زيد الهلالي وعنترة بن شداد.. أبطال المشهد!*

من بعيد يهل أبو رجب حاملا "صندوق العجب" مزركشًا بالدناديش والشناشيل الملونة.. فينادي المنادي:

وصل أبو رجب

ومعاه صندوق العجب

وصل الحكواتي أبو رجب

وتعا تفرج يا سلام!

**

معانا أبو زيد الهلالي

اللي سيفو بلالي

معانا عنتر العبسي

عدوّه يصبح ما يمسي

هذا الهلالي على الفرس المقدام

وهذي عبلة بدر التمام

**

شوف تفرج يا سلام

شوف أحوالك بالتمام

شوف قدامك عجايب

شوف قدامك غرايب

شوف الأميرة بنت السلطان

معشوقة كل الفرسان!

**

تعا تفرج يا سلام

على عبلة .. قمر الزمان!

هدا عنتر بزمانو

كان راكب على حصانو

هادي هيّ الست بدور

قاعدة جوّا سبع بحور

شوف يا عيني عليها..

زينة الصبايا والشبان!

**

شوف أحوالك بالتمام

شوف قدامك عجايب

شوف قدامك غرايب

يا حبيبي لو بتشوف

شوف أحوالك ع المكشوف

ألدنيا فرجة

لا تغرك فيها البهجة

من يوم ما خلقت عوجا

لا تبك عليها وتنوح

عجب يا دنيا عجب

أنا محسوبكم أبو رجب

وتعا تفرج يا سلام!

*صندوق حديث.. يروي عجائب الكلام والحديث!*

نترك "صندوق العجب" لصاحبه أبو رجب الأصلي.. وننتقل إلى صندوقنا العصري.. لصاحبه زياد بن سليمان بن إبراهيم الشفاعمري..

إنه صندوق أدبي حديث.. نسمع منه عجائب الكلام والحديث!

وفيه الكثير الكثير من الحكايات والمغامرات والطرف و"الخراريف"!

**

إن عنوان الكتاب "عجايب يا صندوق" مستوحى من "صندوق العجب" التراثي الذي يحتل مقعدًا في مدرسة فولكلورنا الشعبي. أمامنا شريط عصري خليط من المشاهد الحافلة بالألوان والتي تتآلف لتكوين اللوحة الكبيرة النهائية والعبثية.

نجلس على مقعدنا الخشبي فنشاهد المشاهد والتناقضات التي يحفل بها الشريط الحديث.. ونستعرض المواكب المتدافعة التي يحفل بها المشهد. فيلفت انتباهنا المفارقات والتناقضات والتعقيدات التي تعتمل في النفس البشرية.. والتي تتجسد في السلوكيات السلبية.. التي يقدمها لنا الكاتب على مائدة شهية.. تنادينا وتشدنا حتى نلتحق بجبهة الرفض والنفور والسخرية اللاذعة.. تجاه القبح الاجتماعي والسياسي والأخلاقي الذي يشكل محورًا أساسيًا في هذا الكتاب.

إن المضامين الساخرة.. مسحوبة من الواقع الساخن الساخر المضحك المبكي التراجيكوميدي الذي يطغى على المشهد الرمادي.. والذي يسيطر على حياتنا الاجتماعية والسياسية والأخلاقية.

فنظرة سريعة إلى هذا اللوحات تبين لنا النفاق الاجتماعي والنفاق السياسي والتراجع الرهيب والمريع .. الذي ينذر بانهيار القيم الأخلاقية التي كانت من مفاخرنا ذات يوم.. والتي تشكل حجر الزاوية في المجتمع الإنساني الراقي والمتحضر.

ماذا قال أحمد شوقي؟

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا

إن الانهيار في بنية القيم الأخلاقية.. يزحف إلى قرانا وحاراتنا وبيوتنا.. إنه أشد فتكًا وتدميرًا من أسلحة الدمار الشامل!

*ألملك يمشي عاريا!*

يسلط الكاتب الضوء على نماذج من الشخصيات والرموز "القيادية"!

يسلط الضوء على مواقع بارزة على الخريطة الاجتماعية والسياسية.. تحتلها شخصيات اصطلح على تسميتها "شخصيات اعتبارية"!

يداهم الكاتب الملكَ في بلاطه وفي غرفة نومه.. فينتزع أقنعته التنكرية المزيفة.. وينتزع ثيابه ويعرّيه.. ثم يلتقطه ويضعه على خشبة المسرح.. فيشاهد النظارة مشهدًا هزليًّا يمشي فيه الملك عاريًا!

إن الملك يمشي عاريًا!

ولا تستطيع ألف ورقة توت أو تين أو ما شئت من الأوراق والستائر.. أن تستر عورته البشعة وتخفي مباذله و"بطولاته" الأخلاقية التي يندى لها الجبين!

ويسلط الكاتب عدسة الكاميرا على مهزلة حديث السلام والمحادثات العبثية ومواضيع أخرى على مستوى الماكرو..

كما ينتقل إلى الميكرو.. فيعرض إلى الفساد في التعيينات في السلطات المحلية.. والنفاق على المستوى الشخصي والشعبي.. والنفاق في مواسم الانتخابات.. والعقلية الجاهلية والعصبية القبلية الحديثة.. التي تطغى على العلاقات بين التنظيمات والفئات السياسية..

يتحدث عن الدكتاتور الذي يفلسف وينظر للديمقراطية..

ويجري لقاء مع المحامي الإيديولوجي الذي يشرعن انحرافه وسقوطه السياسي..

ثم يلجأ إلى مجسّه الطبي.. فيقيس النبض والضغط ويشخص الداء! ويصدر التقرير الطبي.. فيكشف لنا مرض الكراسي المتفشي في أوساط العديد من القيادات.. من كبيرها إلى صغيرها..

ألمشهد تراجيكوميدي مثير للسخرية اللاذعة.. إنه سوداوي مستفز ومثير.. وفي الآن نفسه.. إنه ينتمي إلى معسكر شر البلية بامتياز..

قالت العرب.. "شر البلية ما يضحك"!

وهذا ما يقوله كتاب "عجايب يا صندوق"!

*أخيرًا.. هل لنا أن نحلم بربيع عربي حقيقي!؟*

كلمة أخيرة عن الأشكال والأساليب الفنية التي تغلف هذه المضامين.

نلاحظ أن الكاتب يتنقل بين المحطات المختلفة والمتنوعة.. ولا يتركز في لون خاص.. وفي محطة واحدة..

يوظف الكاتب أسلوب القصة القصيرة جدًا.. حينًا (سداسية المونديال العربي) ومن ثمّ يلجأ إلى أسلوب المقامات (الدكتاتور يدمقرط) وإلى الأسلوب المسرحي (ألمرشحون لا يتكلمون) ثم الحوار (ألو سيادة الرئيس) و(حوار بلا نهاية).. ومع هذا المزيج الإبداعي.. نلتقي بأسلوب المفارقة في الأسماء وغيرها (منحوس المسعودي، ومتعب بن مرتاح).. والسخرية المُرّة التي تظهر في النص الجميل (يا هنانا في دولتنا).. كما يستعين بالأمثلة الشعبية الطريفة القادمة من خزينة تراثنا الفولكلوري..

ولا ينسى أن يضيف إلى مائدته الأدبية ألوانًا من التوابل والطرائف اللاذعة التي تضفي على هذه النصوص مذاقًا خاصًا..

هذه هي أبرز الملامح الأسلوبية في صندوق العجب الحافل بالعجب يا صندوق.

**

أخي.. أبا رجب الشفاعمري!

لقد كتبتَ فشاكستَ فأمتعتَ!

ألمشهد تراجيكوميدي..

فهل لنا أن نحلم بمشهد آخر.. أكثر نقاء وصفاء وهناء؟

هل لنا أن نحلم بربيع عربي حقيقي في هذا الوطن الصغير.. وفي الوطن العربي الكبير؟

أرجو ذلك.. أرجو ذلك..

16/10/2014






® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com