![]() |
|
مذكرات حنا نقارة، محامي الارض - د. سميح مسعود
![]()
كان دائمًا على استعداد للقيام بالمساعدة بتواضع وكرم، وفي حالات كثيرة بدون أي مقابل، لا يميز فيما يقدمه بين إنسان وإنسان، الكل سواء بغض النظرعن العرق أو الطبقة او الدين، يتسع قلبه فيشمل كثيرًا من أبناء شعبه، يفتح ذراعيه لهم بلا تردد بعاطفة حارة مندفعة
include ('facebookshare.php'); ?>
ضمن مقولات كثيرة تناثرت على ألسنة المتحاورين في رواية "الأم" لمكسيم غوركي، يقول أحدهم: "ما اجمل أن يكون الإنسان مذكورًا في هذه الدنيا وبين من يأتون بعده من الناس". هذه المقولة تتصل بالشهرة على أوسع نطاق ممكن، هي التي تُبقي ذكر صاحبها بين من يأتون بعده، يشعرون بوجوده بعد مماته، ولا أعني هنا شهرة الأسماء اللامعة بسبب الثراء والنسب والميل الإنساني العام لتحقيق الذات والمجد الشخصي، بل شهرة الأعمال المجيدة المليئة بالعطاء و القيم الإنسانية والمسؤولية الوطنية لخير الناس... شهرة السمو بالطبيعة البشرية إلى مرحلة عالية من إنكار الذات والوقوف بجرأة وصلابة ضد الظلم والاستبداد والدفاع عن المستضعفين والفقراء. تذكرت المقولة السابقة عندما تعرفت على مذكرات الراحل الكبير حنا نقارة، محامي الأرض والشعب، وشعرت كأنه ما زال حيًّا ولم يمت، باقيا بمكانته وقيمته لدى الناس، يعيش في ضمير أبناء شعبه بأعماله العظيمة، فقد خلدته أعماله ونشاطاته السياسية والإنسانية ومعاركه القضائية التي خاضها من أجل الصمود والدفاع عن أرض الآباء والأجداد، ومن أجل بقاء من تبقى من شعبه الفلسطيني في رحاب أرضه. اطلعت مؤخرًا على مذكرات حنا نقارة، وجدتها قد نشرت لأول مرة في عام 1989، ثم أعادت مؤسسة الدراسات الفلسطينية إصدارها في كتاب جديد في عام 2008 بعنوان: "مُذكرات محام فلسطيني، حنا ديب نقارة محامي الأرض والشعب" وأرادت بذلك ان تعمل على تعريف الوطن العربي بهذه المذكرات، وبمضمون مواقف وخطابات كثيرة لصاحبها، وشهادات كثيرة قدمها حوله رفاق دربه، تدور بدرجة عالية من الشمول والعمق والامتداد في حيثياتها عبر ثلاثية المكان والزمن والفعل معًا، وتصبُّ كلها في كتاب شيق وجهد رائع، أحال موضوعًا بالغ التعقيد إلى نص بالغ المتعة. يمتزج الواقع العملي وأحداثه المتشعبة عبر سنوات طويلة بالمكان المحتل على صفحات الكتاب في تناغم كبير، مما يجعل من قراءته تجربة فريدة ومثيرة، مليئة بالأحداث والعبر في سياق تفاصيل وشواهد كثيرة متلاحقة ذات مستويات متعددة في مضامينها من القانون والسياسة وأحوال الناس يُكمل الواحد فيها الآخر، يتواصل السرد فيها بطريقة شيقة، وتترابط بشكل آلي لتصبح بالتدريج ملحمة متكاملة ذات مغزى وطني عميق، لأعمال ونشاطات سياسية وإنسانية وحقوقية وفكرية مثيرة مليئة بالحرارة والصدق، تتصلب مرحلة مهمة من مسيرة حنا نقارة النضالية في داخل وطنه المحتل. ينتقل المؤلف في مذكراته من الخاص إلى العام، يقترب من تفاصيل كثيرة عن حياته الشخصية ومحيطه ومنشئه بتوظيف سردي محكم يكشف فيه مختلف ملامح الصورة التي يرى نفسه عليها، يحكي فيها عن بداياته الأولى، ودراسته ونشاطه الأدبي والاجتماعي و قناعاته الفكرية، وانحيازه المبكر إلى اليسار والوقوف إلى جانب الطبقة العاملة، ويشي بمعلومة مهمة في هذا الجانب يؤكد فيها على أنه كان لأبي سلمى صديق عمره الشاعر الفلسطيني الكبير دوره في انحيازه النهائي إلى اليسار. والشاهد أن معطيات كثيرة عامة وخاصة تفاعل معها صاحب المذكرات تأثر منها وأثر فيها، ساهمت في بلورة مسيرته النضالية، وجعلت منه محاميًا فريدًا بنضاله في محاكم البلاد، سخر علمه وأعماله على مدى سني حياته في خدمة شعبه والدفاع عن حقوقه، أحب أبناء شعبه دون حدود، ودافع عنهم بلا هوادة، وحقق لهم إنجازات كثيرة واضحة ومنظورة في معارك قضائية كثيرة كبيرة وصغيرة، نُظمت حولها أغان ٍشعبية منفردة تقديرًا لجهوده، رددها أهالي القرى بمتعة تكريمًا له. ثمة معارك قضائية كثيرة خاضها حنا نقارة حتى آخر رمق في حياته، دافع فيها عن أبناء الجليل في محكمة العدل من الطرد والتشرد، وعُرف بسببها بمحامي الهوية، كما دافع عن نفسه وعن عائلته بعناد وإصرار أمام الظلم والتشرد، ودافع عن كثيرين من ابناء شعبه لإثبات حقهم الوطني بالمواطنة، كي يتمكنوا من العيش في وطنهم، ودافع عن كثيرين من الفلاحين من شعبه في معاركهم ضد مصادرة الأراضي العربية بشتى المراسيم والقوانين، ومن أجل المحافظة على ملكيتهم لأرضهم. وتتابعت معاركه في الدفاع عن المتظاهرين في يوم الأرض، واصل بدأب مراكمة انجازاته لهم، كما كان في طليعة المعركة من أجل تحرير الأوقاف الإسلامية، وإزالة الغبن اللاحق بالمسلمين من جراء استيلاء السلطات على تلك الأوقاف ومداخيلها، ودافع عن حقهم في إدارة شؤونهم الدينية وأوقافهم العامة والمحلية، كما هو الحال عند الطوائف الأخرى التي تدبر شؤونها وأوقافها بنفسها. ومما يُحسب له في منهجه النضالي أنه كان دائمًا على استعداد للقيام بالمساعدة بتواضع وكرم، وفي حالات كثيرة بدون أي مقابل، لا يميز فيما يقدمه بين إنسان وإنسان، الكل سواء بغض النظرعن العرق أو الطبقة او الدين، يتسع قلبه فيشمل كثيرًا من أبناء شعبه، يفتح ذراعيه لهم بلا تردد بعاطفة حارة مندفعة، ويظهر دوماُ كصاحب شخصية مؤثرة تتمتع بصفات المناضل الحقيقي، أداءً وفعلًا مثلما تعبق بكل الصفات النبيلة التي تُحبب الآخرين فيه. والحق ان الجماهير العربية في الداخل الفلسطيني قد تجاوبت تجاوبًا واسعًا مع دور المناضل حنا نقارة ومكانته الكبيرة التي احتلها أمام القضاء، قفد أدركت مبكرًا أصالة تجربته النضالية من أجلهم، وكرمته بما يتناسب مع قدره واهمية نضاله، ويُعبر عن هذا الجانب الراحل إميل توما بقوله "ونعتقد أن الجماهير العربية منحت أعلى وسام في وسعها أن تمنحه لاحد أبنائها من المناضلين الكبار حين أطلقت عليه وصف محامي الأرض...". وبصدد الحديث عن سيرته النبيلة وأهمية جهوده النضالية، يكفي أن أشير هنا إلى أبيات مختارة من قصيدة للشاعر الفلسطيني الكبير حنا أبو حنا ألقاها في ذكرى الاربعين للمرحوم حنا نقارة، يقول فيها عن أعماله الجليلة: آمنتَ بالشعب المهيض جناحه أنْ سوف ينهض يقحم الجوزاءَ ولكم حفظت الجذرتمنع قلعه ُ من أرضه وتُسيِّجُ الأرجاءَ يا صاحب الأرض افتديت ترابها فاستقبلتك سخيةً فيحاءَ ***
تلك هي مذكرات المناضل حنا نقارة، محامي الأرض المليئة بالعطاء والقيم الوطنية والأهداف السامية، فيها حصاد نضاله خصبا ثمينا عن الحياة والناس والأرض ، لعل القارئ العربي يجد فيها ما يُعرِّفه على حقيقة تجربة ومعاناة ونضال أهلنا في الداخل الفلسطيني، ويُشجع على ظهور المزيد من المناضلين المدافعين عن الأرض في كل مكان، ويُساهم في حث الأجيال العربية القادمة على تقدير النضال الحقيقي المنحاز دومًا إلى خير الإنسان.
*كاتب فلسطيني يقيم في مونتريال - كندا 6/2/2014 |
® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com |