حكاية عشق
عيسى لوباني..في صومعته الثقافية..مكتبة الشعوب! - فتحي فوراني



للقهوة اللوبانية نكهة خاصة..مع الأصدقاء عشاق اللغة العربية!

ما إن تحط قدمي على عتبة "مكتبة الشعوب"..إلا وجدته غارقًا في قراءة كتاب تراثي!

في فمه البايب (الغليون) الذي يذكرني بأدباء الغرب العالميين. فلم يطب له أن يجالس خير جليس في الزمان..إلا وكان البايب ثالثهما!

إنه الكاتب الروائي والشاعر والناقد وسادن "مكتبة الشعوب" الأستاذ عيسى لوباني.

ويحتل "الشعب" ومشتقاته يافطات المكتبات ودور الطباعة في عاصمة الثقافة في هذا الوطن: ألمكتبة الشعبية، مكتبة الشعب، مكتبة الشعوب، ألمطبعة الشعبية. إنها الشعوب صانعة التاريخ..وصاحبة الإبداع والإلهام في تسمية المكتبات ودور الطباعة..ومنارات المعرقة..وعلى هذه الشعوب نراهن في تسييرها عجلة التاريخ..لاجتراح الغد الأجمل!

**


يحمل أبو لؤي كتابًا ذا غلاف مزين بالزخارف والمنمنمات التراثية.. ومن عناوينه تشع خطوط ديوانية وفارسية وكوفية ورقعة ذهبية!

الأستاذ مستغرق في القراءة..ينتهي من قراءة الفقرة..ثم ينتبه إلى دخولنا ووجودنا في صومعته!

يرفع رأسه..فينظر إلى زائر الصباح..وتتهلل أساريره!

- أهلا..أهلا..صباحك ورد! تعال يا عبد الله واقعد إلى جانبي..هذا الكرسي في انتظارك وانتظار الأحبة منذ الصباح..فأنت صاحب النصيب الأول..

ثم يتابع مداعبًا: وللكرسي نصيب أيضًا!

وتحضر قهوة الصباح!

إن للقهوة اللوبانية نكهة خاصة مع الأصدقاء عشاق اللغة العربية!

ألآن يكتمل النصاب..وتكتمل عناصر الطقس الأدبي..مع المحبوبة السمراء..والفناجين العبّادية!

- ألبخلاء والبيان والتبيين وعيون الأخبار والعقد الفريد والأغاني ورسالة الغفران..ضيوف الديوان!

- ماذا تقرأ يا أبا لؤي؟

- "ألبخلاء" للجاحظ..عجيب هذا الرجل..إنه بحر وابن بحر!

وعلى الطاولة يجلس البخلاء ومعهم البغال والحيوان والبرصان والعرجان وفضل السودان على البيضان..والبيان والتبيين والمحاسن والأضداد والتاج في أخلاق الملوك ورسالة في العشق والنساء ورسالة التربيع والتدوير وما تيسر من "الرسائل". وإلى جانبهم تستوي على عرشها "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري..تحيطها "عيون الأخبار" لابن قتيبة..وعلى جيدها ينتظم "العقد الفريد" لابن عبد ربه الأندلسي وتصدح "الأغاني" لأبي الفرج الأصبهاني..وتجلس في مقدمة الديوان الأدبي "مقدمة" ابن خلدون..وباقي أفراد العائلة الكريمة!

إن أبا لؤيّ مغرم في نصب أشرعته..والإبحار في البحار التراثية..والغوص في أعماقها لانتشال الدرّ الكامن في أحشائها!

وفي الآن ذاته..يحرص على علاقة طيبة مع الأدب الحديث والشعر الحديث والنقد الأدبي الحديث.

ولا يترك "الحداثة" تعتب عليه..فيحتضن فدوى طوقان ونازك الملائكة ويفتح ديوانه لاستقبال بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وصلاح عبد الصبور وأحمد حجازي وأمل دنقل..ولا يملّ من الدردشة معهم!

وتجلس كوكبة العشاق عمر بن أبي ربيعة وجميل بثينة و"المجنون" قيس بن الملوح مع نزار قباني وسعيد عقل والأخطل الصغير..تحت العريشة اللوبانية الثقافية!

ويدور النقاش حول "بخلاء" الجاحظ والأبعاد النفسية والاجتماعية لشخصياته..وأحوال المشهد الأدبي والأخلاقي والثقافي في الفترة التي عاشها الجاحظ. ثم نعرج على نظريات ابن خلدون في علم نشوء وتطور المجتمع الإنساني..فنتوقف عند أهل المدر (الحضر) وأهل الوبر (البدو)..ونلامس حدود نظرية النشوء والارتقاء لداروين.

- "في الميزان" النقدي يجتمع الثلاثي محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق فياض!

وعلى الطرف الآخر من الطاولة..نلتقي "ألميزان" النقدي اللوباني..وهو ميزان صيدلي..جادّ وساخر..لا يتحمل الدعابة..ولا يعرف النفاق الاجتماعي الذي برع فيه البعض!..وإذا أغضب عيسى لوباني محمود درويش في أحد مقالاته النقدية..وتكهربت الأجواء..فسرعان ما تهدأ العاصفة..ويصفو الجو..

نجلس إلى طاولة مستديرة..ونزيل الألغام من حدائق الأصدقاء. ويكون العتاب سيد الموقف..فالعتاب صابون القلوب..وتزول علامات السؤال وعلامات التعجب وعلامات الشك وسوء التفاهم..وتعود المياه لتجري صافية عذبة في مجراها الإنساني الطبيعي.

"في الميزان" زاوية نقدية نلتقي فيها بعض قصائد الشعر الحديث التي نشرت في العدد الماضي من مجلة "الجديد". يُعمل أبو لؤي مبضعه النقدي في رواية "أسمهان" لإبراهيم موسى إبراهيم، ثم ينتقل إلى رواية توفيق فياض البطاح "المشوهون"..ويفتتح مقالته النقدية بسطور جاء فيها: "صدرت في الآونة الأخيرة رواية جديدة لكاتب ناشئ، لم يكد يدخل إلى الوسط الأدبي، ببعض قصصه القصيرة حتى قفز قفزة تعتبر من الجرأة بمكان، ألا وهي إصداره رواية "المشوهون".

يضع الأستاذ عيسى "المشوهون" على طاولة التشريح..ولا يترك عبارة من خارطة "ألمشوهون" إلا ويحاصرها بقلمه "السليط" ويشلع أذنها راميًا "تأديبها" بلا رحمة!ا

فماذا يقول الفلسطيني "الناشئ" في المنفى التونسي..الذي يحمل في حقيبته "الشارع الأصفر" ومسرحية "بيت الجنون" و"البهلول" و"وادي الحوارث" و"نواعير الذاكرة"!؟

ثم يضع "صاحب الميزان" في ميزانه النقدي مجموعة من الشعراء "الواعدين" محمود درويش وسميح القاسم وسالم جبران وجمال قعوار وميشيل حداد..ويقوم القلم بواجبه كما يراه..شاء من شاء..وأبى من أبى!

ثم ينتقل إلى طرف الطاولة وإلى جانبها سلة المهملات..فيعمل مبضعه النقدي في بعض "القصائد" التي برع أصحابها في رصف الكلام..وتطمح لأن تقول كل شيء ولا تقول شيئًا..محاولة شق طريقها وسط الزحام الأدبي..حتى تجد لها موطئ قدم على خارطة المشهد الشعري والثقافي!

ويكون الحديث ذا شجون..فنخرج من "مكتبة الشعوب" ومعنا زوادة ثقافية تروي عطشنا الأدبي!

**


- ألجاحظ..وعيسى لوباني..والدكتور سدان..

في نهاية إحدى المحاضرات في الجامعة العبرية في زهرة المدائن..كان لقاء مع الدكتور يوسي سدان..تناول الحديث بعض المواضيع في الأدب العربي الكلاسيكي..وتمحور حول الجاحظ. كانت محادثة قصيرة..لم يكف الوقت المتاح بين محاضرة وأخرى لمناقشتها..فتبعتها دعوة لاستكمال الموضوع في وقت لاحق..في بيت المحاضر.

دعاني الدكتور يوسي سدان إلى بيته لتكريمي بوجبة عشاء فاخرة طبق المواصفات القادمة لتوّها من "المطبخ الفرنسي"..وهو البارع في فن الطهي الفرنسي.

كما كان غواصًا ماهرًا يجيد السباحة في البحار الجاحظية..ويطيب لبعض الطلاب الجامعيين أن يطلقوا عليه لقب "الموسوعة الجاحظية"!

ألم يكن الدكتور سدان "تلميذًا" تخرج من معطف المستشرق الجاحظي "شارل بيلا" في جامعة السوربون في مدينة الأنوار؟

يكون الحديث ذا شجون، حتى إذا ما ذكرنا الأستاذ عيسى لوباني..ترتسم ابتسامة على شفتي المضيف..ولا يستطيع إخفاء إعجابه ودهشته من ذلك الطالب الجامعي في فرع الأدب العربي في جامعة تل أبيب. قال لي الصديق الدكتور سدان: في محاضراتي عن الجاحظ..ما إن أذكر اسم كتاب من الكتب الكلاسيكية..حتى يقاطعني "الطالب" عيسى لوباني ويقول لي: نعم..أعرف هذا الكتاب..لقد قرأته كاملا..من الغلاف إلى الغلاف..ومن الألف إلى الياء! إنه كتاب جيد يستحق أن يقرأ..ولكن..!

ثم يروح يستعرض الملامح الرئيسية في الكتاب..ويبدي رأيه النقدي في الأضواء والظلال..بشكل لافت لم يتوقعه المحاضر!

**


عيسى لوباني الكاتب الروائي والشاعر والناقد..مَعلم من المعالم الثقافية في مدينة البشارة..وحيثما التقينا الجاحظ وأبا العلاء وابن قتيبة وابن خلدون وابن عبد ربه الأندلسي..لا بد أن نتذكر حبيبنا عيسى لوباني..ولا بد أن نجده جالسًا معهم في منتدى أدبي حافل..يدور على فتية بفنجان قهوة يملأ عطر هيلها سماء الصومعة الثقافية!!

**


- لن أنساكم..فاذكروني!

مؤخرًا..وكلما مررنا بأطلال القرية الفلسطينية "المجيدل"..يلتفت القلب إلى ديار العزّ التي أطلعت هذا الرجل!

فنطرح عليه السلام: سلام الله عليك يا أبا لؤي!

ومن بعيد..يتناهى إلى مسامعنا صوت أبي لؤيّ اللوباني، صاعدًا من بين الأطلال: وعليكم السلام..أيها الأصدقاء والأحبة!

لقد عاهدت نفسي أن لا أنساكم..فاذكروني!

**

- نبذة

عيسى أسعد لوباني (1931-1999)

1- ولد عيسى لوباني في قرية المجيدل الفلسطينية عام 1931، وهُجّر مع ذويه، عام النكبة 1948 إلى الناصرة.

2- عمل في مهنة التعليم، بعد أن حصل على إجازة فيها من دار المعلمين في يافا، متنقلًا بين قرانا وبلداتنا. علم لسنوات في قرية كابول الجليلية، وبقي يعمل في مهنة التدريس حتى عام 1958.

3- وفي هذا العام فصلته وزارة المعارف من عمله، وكان بذلك من المعلمين الأوائل الذين يفصلون من عملهم بسبب آرائهم السياسية، وفصل معه الأستاذ الراحل الباقي نمر مرقص وإلياس دله..أطال الله عمره.

4- في تلك الفترة انتسب إلى الحزب الشيوعي، وعمل محررًا في صحافته، لا سيما "الجديد" التي كان عضوًا في هيئة تحريرها.

5- كان أول من أدار "مكتبة الشعب" التي افتتحها الحزب الشيوعي من أجل نشر الكتب التي صدرت في العالم الاشتراكي. ثم انتقلت إدارتها إلى سهيل نصار.

6- افتتح "مكتبة الشعوب"، وأدارها لوحده، ونشر أجمل مؤلفات التراث الكلاسيكية، كما اهتم بإصدار عدد من مؤلفات كتابنا وشعرائنا في هذا الوطن وفي العالم العربي..

7- في عام 1996 حصل عيسى لوباني على جائزة التفرغ التي تمنحها وزارة المعارف للكتاب العرب في بلادنا.

8- كتب في الأنواع الأدبية المختلفة من رواية وشعر ودراسة نقدية. وكانت له زاوية نقدية ثابتة ولافتة في مجلة "الجديد" تحت عنوان "في الميزان".

9- في عام 1957 تأسست رابطة الأدباء والمثقفين العرب. وكان مؤسسوها الأساتذة: نمر مرقص وعدنان ضاهر وعيسى لوباني. وكان من أعضائها الكتاب والشعراء عصام العباسي وراشد حسين وحنا أبو حنا وفريد وجدي الطبري ومصطفى مرار وحسني عراقي وحبيب قهوجي وشكيب جهشان.

10- رحل عيسى لوباني عن العالم يوم الخميس 28-1-1999

**

- أعماله:

1) أحلام حائر / شعر (الناصرة 1954)

2) رسائل العشق والعشاق / ثلاثية (الناصرة 1993)

3) أم الخير...و... - (رواية قصيرة) (الناصرة 1994)

4( وجع القلب- "متتالية قصصية"- (الناصرة 1994)

5) شمس وقمر / رواية (الناصرة 1995)



**

(كلمة شكر- أشكر الأخت ميادة لوباني هيب والمحامي لؤي عيسى لوباني اللذين زوداني بالمعلومات المذكورة أعلاه إضافة إلى مجموعة من الصور لوالدهما)

17/10/2013






® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com