محطات على طريق السيرة الذاتية "بين مدينتين"؛ حكاية عشق
"مكتبة الشعب" لصاحبها سهيل نصار.. نبع ثقافي آخر! - فتحي فوراني


ويكون أبو نادر حادي القافلة.. وحارسها.. كرامة وإباء وكبرياء! يا عمال العالم اتحدوا! ولن يزيدنا العنف إلا عنفوانًا! ويا ديغول إطلع برّه الجزائر صارت حرّه.. كفاكم تمادي.. يا "علوج" البلاد!

"ألبوابة الشرقية"!

إلى جانب عين العذراء.. تتفجر الينابيع من عين أخرى!

تنفتح "البوابة الشرقية".. فتفتح صدرها للشعب.. وتغمره عطفًا ومحبة!

هنا "مكتبة الشعب"!

يضرب الرجل بعصاه صخرة صماء.. فيتفجر النبع غزيرًا!

وانهلوا ما شئتم!

من هذه الشرفة نطل على الأدب الروسي والسوفييتي..

سهيل نصار هو حامل الشعلة.. الذي يضيء أمامنا الطريق المعتمة.. إلى عالم الكتب الأدبية والسياسية والفكرية التي نريد.. ويشير علينا بقراءتها لتطوير ذائقتنا الأدبية وتوسيع آفاقنا الثقافية والفكرية والمعرفية..

لقد فتح سهيل نصار أمامنا الآفاق لنطل منها على أدب يتمتع بنكهة خاصة.. تختلف عن نكهة الكتب التي أطللنا من خلالها على الأدب الإنجليزي والأمريكي.. ولا سيما الروايات والقصص والمقالات والنصوص النثرية والشعرية التي يفرضها الإمبراطور..

وتهب رياح الصبا التي تردّ الروح.. من العالم الاشتراكي.. فيمتلئ الصدر هواء منعشًا..

تعرفوا على شولوخوف ودستويفسكي وتولستوي وغوركي وتشيخوف..

- لقد وصلتني هذا اليوم مجموعة جديدة من الكتب الروسية..

يقول أبو نادر.

تعرفوا على ميخائيل شولوخوف (1905-1984) صاحب "الدون الهادئ" والحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1965. إنها الرواية التي أشاد بها النقد الأدبي واعتبرها أعظم روايات القرن العشرين.

هل تعرفون ما معنى أن يتولى صبي في الرابعة عشرة من عمره قيادة تشكيل من الفرسان (الخيالة) يتجاوز تعداده المائتين.. ويقود رجالا أكبر منه سنًّا وأكثر خبرة.. وأطول باعًا وأعلى كعبًا!؟..

لقد فعلها شولوخوف ابن الرابعة عشرة.. وكان بطل الحملة!

فقد قاد الفتى الحملة وطارد فلول العصابات في سهوب الدون الفسيحة، لحراسة قوافل القمح التي انطلقت من أراضي الفلاحين لصالح الثورة!

تعرفوا على تولستوي (1828-1910) ورائعته "الحرب والسلام" والتي اعتبرها بعض النقاد بأنها أفضل كتاب في كل العصور. إنها مرآة الحب والغيرة والشجاعة والحرب والموت والحياة.

تعرفوا على دوستويفسكي (1821-1881) صاحب "الجريمة والعقاب" و"الإخوة كرمازوف"..

تعرفوا على مكسيم غوركي (1868-1936) وروايته "الأم"..

تعرفوا على أنطون تشيخوف (1860-1904) علمًا من أعلام القصة القصيرة والمسرحية وصاحب "بستان الكرز" و"الأخوات الثلاث"..

وإلى جانب هؤلاء العظماء.. تهل المجلات المختلفة مثل "الاتحاد السوفييتي" و"الفيلم السوفييتي" التي كانت تطير من الدول الاشتراكية لتحط في "مكتبة الشعب" في الناصرة..

يكون الرجل في انتظارها.. فيستقبلها أحسن استقبال ويحتضنها.. ويطبع على جبينها قبلة!

لم يقترح علينا أبو نادر كتابًا إلا بعد ان يقدم لنا محاضرة عن مضمون الكتاب وأبعاده الأدبية والسياسية.. ومكانة الكاتب على خارطة الأدب السوفييتي والأدب الروسي والأدب العالمي.

أشرفنا على خط التماس مع حديقة "المادية الديالكتيكية".. *

في هذه المكتبة أشرفنا على خط التماس مع حديقة "المادية الديالكتيكية".. ولم نتوغل بما فيه الكفاية في غاباتها وأدغالها الإيديولوجية التي كانت تستعصي على طلاب ما زالوا يخوضون مرحلة الدراسة الثانوية.. نسمع اصطلاحات غريبة عن الصراع الطبقي والمادية الجدلية والماركسية-اللينينية والاقتصاد السياسي.. نفهم شيئًا أو شيئين.. وتغيب عنا غابة وراءها غابة من الأشياء المبهمة!

لم تكن السماء صافية.. ولم تكن الرؤية واضحة.. ولم تكن الطريق مفروشة بالورد والرياحين!

فنقرأ ونستوعب ما أمكننا حسب مستوانا وإدراكنا وطاقاتنا المعرفية..

نفهم القليل.. وتبقى أمامنا مساحات شاسعة يغطيها الضباب الكثيف.. ويحتاج فهمها إلى دراسة متأنية وعميقة.. لم تتوفر لدينا الإمكانيات لفهمها كطلاب ثانويين..

ما علينا!

يقول المثل: أن تظفر بالقليل.. خير من إضاعة الكثير!

ما زالت رائحة الكتب والمجلات السوفييتية عالقة في الأنف رغم مرور أكثر من خمسة عقود.. وهي رائحة ذات عبق خاص!

كان مايسترو وضابط إيقاع.. وحامل رسالة!*

لم يكن سهيل نصار "بائع كتب" عاديًا فحسب.. كان ذواقة وكان مايسترو وضابط إيقاع .. وكان موجهًا وكان ناقدًا وكان ذا فكر ملتزم وحامل رسالة!

وكان أبو نادر يعطينا محاضرة يتناوب عليها الإيجاز والإطناب.. قبل الدخول في عالم الكتاب.. ولا نترك المكتبة قبل أن نعد حمولتنا من الكتب الروسية.. عائدين إلى مكتباتنا البيتية.. فتحتل الكتب موقعها على رفوف المكتبة.. وتنتظم منتظرة دورها وفاتحة شرفاتها على عالم طلاب المعرفة..

نشتري مجموعة مختارة بطباعتها النوعية الأنيقة وبسعر شعبي زهيد.. ونعود إلى البيت وفي جعبتنا كنز أدبي عالمي ثريّ.

كيف أنسى المسؤول عن تهريب "العشيقة السرية"!؟*

كيف أنسى أبا نادر مديرًا لمكتب "الاتحاد".. والمسؤول عن تهريب "العشيقة السرية" إلى حواري المدينة في الناصرة وإلى قرى الشمال؟

وكيف أنسى "البولدوزر" الذي يتبوأ مكانه في المنتدى الثقافي اليومي,.الذي يعقد في صالون الحلاقة التابع للجار الصفدي "أبو فتحي"؟

لقد تألق الرجل بوضوحه الفكري.. بمنطقه المتحدي.. بحجته التي تفحم وتخرس منطق المخاتير.. صنائع "العصر الجديد"؟

لقد كان سهيل في نقاشاته كتيبة مقاتله تتحدى وتزيل الأقنعة عن وجوه الممثلين محترفي النفاق السياسي والاجتماعي.. وبائعي أمهاتهم بثلاثين من الفضة!

لقد كنت شاهدًا على العصر!

يعتلي أبو نادر صهوة شاحنة "طرنطة".. ويجلجل صوته في سماء الناصرة!*

لن ننسى سهيل نصار.. ولن ننسى صوته الهدار.. يصدح في سماء الناصرة.. في مظاهرات أول أيار!

يعتلي أبو نادر صهوة شاحنة "طرنطة" يعود تاريخها إلى عهد عاد.. ولا تتحرك من مكانها إلا بدفعة دائرية قوية من مقبض "المناويل".. فتنطلق ويكون الرجل سيد الميكروفون.. صوته يهدر في سماء الناصرة.. ويلهب حماس الجماهير التي تدفقت على المدينة المقدسة من جميع أنحاء البلاد..

ويكون أبو نادر حادي القافلة.. وحارسها.. كرامة وإباء وكبرياء!

يا عمال العالم اتحدوا!

ولن يزيدنا العنف إلا عنفوانًا!

ويا ديغول إطلع برّه الجزائر صارت حرّه

كفاكم تمادي.. يا "علوج" البلاد!

أبا نادر.. أنت إنسان نادر.. وأنت أمير المنابر!*

تنتظم حلقات الدبكة والسحجة.. ويكون أبو نادر حادي البحر البشري الهادر!

ويصدح صوت الحادي جهوريًا يطاول أعنان السماء:

بدنا حرية وسلام!

وتردد حناجر الآلاف وتهتف بإيقاع وعزم وتحد وعنفوان:

بدنا حرية وسلام! بدنا حرية وسلام!

أبا نادر.. أنت إنسان نادر.. وأنت أمير المنابر!

أنت مدرسة تخرج منها حُداة المظاهرات الشعبية في القرى والمدن.. التي ترصع هذا الوطن!

أيها الحبيب!

على جدران القلوب.. نحفر ابتسامتك المتفائلة.. ونستذكر صوتك الهادر!

ألف رحمة عليك.. يا أبا نادر!

لمثل هؤلاء الرجال.. تنصب التماثيل!

(أخيرًا كلمة شكر. أشكر الأخت هالة سهيل نصار خوري والصديق فكتور جميل إرشيد اللذين زوداني بهذه المعلومات وبالصورة المرفقة بهذا المقال).

سهيل نصار في سطور

1- ولد سهيل نصار في الناصرة بتاريخ 27-3-1925.

2- في عام 1942 عمل في شركة تكرير البترول في حيفا. وفي الباص الذي أقل العمال من الناصرة إلى حيفا تعرف على رضوان جرجورة المسؤول في "مؤتمر العمال العرب" عن جمع الاشتراكات وتوزيع "الاتحاد". وكان لرضوان الفضل في انتساب سهيل نصار إلى عصبة التحرر الوطني عام 1945. وفي أعقاب ذلك، أصبح عضوًا في أول لجنة محلية وسكرتاريتها في الناصرة، ومسؤولا عن "الاتحاد" وماليتها.

3- إحترف العمل الحزبي عام 1948 وأصبح المسؤول عن توزيع "الاتحاد" في منطقتي الناصرة وعكا. وأصبح سكرتير الفرع التنظيمي في مدينة الناصرة.

4- في عام 1967 قرر الحزب أن يوكل لسهيل نصار إدارة شركة "المكتبة الشعبية" التي أخذت على نفسها نشر الكتب التقدمية والمنشورات الصادرة في دول العالم الاشتراكي. كما تفرغ للعمل في "حركة الصداقة مع الاتحاد السوفييتي".

5- في أواخر عام 1967 دعي من قبل الحزب الشيوعي السوفييتي للاشتراك في الاحتفال بمناسبة مرور خمسين عامًا على ثورة أوكتوبر الاشتراكية.

6- كان يُدعى كل سنتين ليسافر إلى الاتحاد السوفييتي للمشاركة في معرض الكتاب. وكان يختار الكتب المناسبة التي تهم القارئ العربي.. ويأتي بها إلى "المكتبة الشعبية" في الناصرة.

7- شارك في معظم النشاطات والمظاهرات والفعاليات النضالية، ولا سيما في مظاهرات أول أيار.

8- كان لسهيل دور كبير في تأسيس الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة في آذار عام 1977.

9- بقي حتى آخر أيامه على العهد.. مناضلا عنيدًا ومثابرًا من أجل السلام العادل.. ومدافعًا عن حق شعبه في حياة حرة كريمة في وطن الآباء والأجداد.

10- رحل الرجل عن العالم بتاريخ 18-1-2002.

03/10/2013






® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com