سأعود إليك يا بلدي - بقلم : وجيه سمعان

حين يمشي الانسان على ارض بلده السليب ويتجول فيه ولو لبضع ساعات، ترده الذكرى بأقل من طرفة عين الى عام 48، وما قبله.. كأن الزمن يتوقف هناك... هذا ما يجري للعديد منا نحن الذين واكبنا تلك الفترة، وكنا نرتع فيها في احضان مرابع الصبا. واما الذين كانوا يومها صغارا كزغب القطا، او الذين ولدوا بعد هذا التاريخ المحفور في القلوب وعلى جدران التاريخ، فقد رضعوا حب الوطن من اثداء امهاتهم، وكونوا له صورة حية في مخيلتهم وفي وجدانهم. ولو تخيلت ما يجول في عقولهم، لوجدت ان الوطن يتربع هناك... انها حالة انسانية وطنية راقية واصيلة يتمتع بها الفلسطيني الذي شرد قسرا من ارضه ومن بلده.. ولا تفوته للحظة تلك الرغبة الجياشة، المتحفزة ابدا في ان يعود ووطنه في قلبه، الى الوطن وهو في القلب منه. انها لمعادلة سحرية رائعة، ومعزوفة وطنية جميلة تبعث في النفوس موجات من الصمود والامل، لا يقوى عليها، مهما طال الزمن، أي تعنت وطغيان.

قبل ايام توجهت كوكبة من اهالي سحماتا، كعادتها في الفترة الاخيرة، لرد ولو قليل من الدّين الذي في اعناقنا تجاه اجداث اجدادنا، والعمل على ترميمها وصيانتها، وقد رافقنا هذه المرة النائب هاشم محاميد، وباقة من عشاق العودة الى اخوات سحماتا، من البصة والغابسية، من المنصورة، وصفورية، ومن حطين التي ترصع بالمجد جبين التاريخ. انه لقاء عمل لقاء امل، لقاء تضامن.. ان كل واحد منا، كأنه يحمل وصية: اننا على العهد باقون، والوطن فينا، في القلب منا، في حبات العيون. لن ننساكم، ولن ننسى اننا جبلنا من هذه الارض التي منها جبلتم. ولن ننسى ابدا اخوة لكم عانقوا الثرى وهم في ارض الغربة. ولكننا نشعر ان ارواحهم ترفرف هنا وتطالبنا بأن نقوى على المأساة، وان تبقى جذوة حب الوطن متوقدة دوما في نفوسنا وفي قلوبنا.

تجولنا في القرية، بين معالمها واطلالها، وانتابني مزيج من الحزن والغضب على ما اصاب قريتنا، اين بيتنا الكبير الذي كان يتسع لاعراس البلد.. اين صحن الدار الفسيح الذي كانت تتدلى فوقه عناقيد الدوالي، وتلك البئر التي كانت تمتلئ من مآقي المزن في الشتاء.

اين تلك السّروة امام البيت وهي تعانق النجوم.. اين التينة والخوخة والرمانة والمشمشة وغيرها من ثمار الجنة تلف حقول البيت. اين قفران النحل التي كانت تداعبها امي وهي جذلى.. اين "كبوش الدخان" واصابع ابي تلاطفها.

اين بيوت العز، اين بيوت الاقارب والجيران، واين بيوت كل اهلك يا سحماتا وهي تسلم على الشمس في النهار، وعلى القمر والنجوم في الليل، انها اكوام على هذه الرابية او تلك، لم يبق فيها الا بقايا كنيسة ورميم جامع... المدرسة "التحتا" والتوتة التي في حضنها، والمدرسة "الفوقا" التي تكتسي عنبرا ويمنطقها حزام من السرو، لم يبق لهما اثر. القلعة التاريخية المبنية على تل مرتفع شرقا، والتي عمل على ترميمها الشيخ ظاهر العمر الزيداني، جاءت يد الغدر ودمرتها تدميرا. حجارة قريتنا الباقية حزينة، وبلاطها صابر، حاراتها مهدمة ومهجورة، وبركها جافة، حواكيرها ملتاعة وبيادرها التي كانت على طول المدى، وكانت تطفح بالخير وتفتح ذراعيها للعرسان في تطوافهم اصبحت جريحة، يلفها الاسى.

اما "مساطيح" الدخان و "العرزال" فيها. وذلك "الصرصار" الذي يسهر طوال الليل يغني على ليلاه، اصبحت في خبر كان. عروق الزيتون التي كانت كعد النجوم، وتجمل الفصول، اتوا على اغلبيتها. الصبار والسماق والتين لم يبق منها الا القليل القليل..

وأهالي البلد، الذين كانوا في حالة اتفاق ووئام، ويعملون بجد واجتهاد في عرس الوجود، تفرقوا في كل زاوية من زوايا العالم وشفاههم عطشى لتقبيل تراب الوطن.

.. وبلحظة، تعود بك الذاكرة من عام 48 الى عام 95... تنظر امامك فتراك تسبح في بحر من الاصرار والامل، تتطلع امامك ولا يسعك الا ان تعتز بهؤلاء الشيوخ الشباب الذي يمسك واحدهم الطورية كأنه يمسك ناصية الكون، يريد ان يعمل شيئا لبلده. واما الشباب فتراه يفور شبابا وعيونه تقول: "سنكمل المشوار"، فهو يشعر ان القضية اصبحت في عنقه، وتغمرك السعادة عندما ترى طفلة كطلعة الفجر تريد ان تعمل شيئا ما لوطنها الموعود. او طفلا يركض بخفة الغزال ويتنقل من هنا الى هناك يريد ان يقدم القهوة للموجودين. او آخر يسأل اباه (وبراءة الاطفال في عينيه): "بابا، وينتا رايحين نرجع عا بلدنا".

واما ذلك الطفل الاسمر الذي يتنقل على ذراعي ابيه، ويبدو كنقطة طل على جفن زهرة، يتطلع الينا كأنه يقول: "ارجعوا لنا هذا الفردوس المفقود" وان انسى، لن انسى تلك الاخت التي عانقت شاهد اخيها الملقى جانبا واصبح يتململ تحت دموعها، انها بعثت في كل منا صاعقه.

اجل ان المعركة طويلة وقاسية، والقضية مقدسة، وسنظل على امل، وعزم واصرار، حتى يأتي يوم نشدّ فيه على خاصرتيك يا بلدنا، واخواتك معنا، وشعبنا يكون قد تخلص من الغربة والعذاب، حتى يتم فرحنا.. وعندها يكون لنا عيد..

* وجيه سمعان *
(نيسان 1995) - صحيفة الاتحاد







® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com