|
المُهجّرون....
عرض مسرح الميدان (المسرح العربي في اسرائيل سابقا) يوم الجمعة الماضي، مسرحية "سحماتا"، على ارض واطلال هذه القرية المهجّرة في الجليل، والتي قصفتها بعد نصف سنة من "قيام الدولة" ثلاث طائرات. 1200 انسان تشردوا من بيوتهم كان اغلبهم من المسلمين. وعلى شرف العرض المسرحي، رافقت صحيفة "بعير حيفا" وجيه سمعان رئيس جمعية "ابناء سحماتا" التي تناضل من اجل حق العودة الى القرية.
أعدّ التقرير: درور كيدم - ناهد درباس بعد ظهر يوم الجمعة، وعلى طريق نهريا - معلوت المتعرج، كان من حوالينا منظر يقطّع الأنفاس، أخضر... أخضر.. وثم أخضر.. وبعد بحيرة "مونفورت" ذات المياه البرّاقة والمتألقة والتي تذكرنا في السويد البعيدة، هناك.. وعند طريق ترابية وصلنا الى بوابة حديدية مغلقة، وعليها عُلقت يافطة متواضعة من الكرتون الزهري حيث كُتب عليها بخط اليد "أهلاً وسهلاً بكم في سحماتا". مشينا بطريق صخري مليء بالغبار لعدة دقائق أوصلنا الى قمة تلة، حيث لمحنا فجأة يافطات صغيرة من الكرتون، معلقة على الاشجار، كُتب عليها بالعربية "البروة، الصفصاف، الشجرة، اقرث، عين غزال والخ..." ذكرى لـ 418 قرية عربية مهجّرة. رويدا رويدا بدأت اطلال وبقايا هذا المكان بالظهور.. قناطر حجرية، بقايا درج، اطلال بيت واشجار من التين والزيتون كانوا بمثابة شهادة رمزية حيّة لحياة كانت هنا قبل 50 عاما. "هذا حلم تحقق" شَخرَ بصوته من مساء ذات اليوم في هذه القرية المهجرة سحماتا، رجل المسرح حنا عيدي، الذي كتب واخرج واوصل الى منصة المسرح، قصتها الصعبة والمؤلمة لهذه القرية. عيدي يسكن ويعمل بالاخراج خلال السنوات الاخيرة في الولايات المتحدة، وأقام هناك مجموعة من ممثلي المسرح باسم "نيو إيمج ثياتير"، الذي عرض نص المسرحية في السنوات 95 - 96 بالانجليزية. ومع ان حنا وُلد في قرية البقيعة، لكنه نشأ وترعرع مع لاجئي سحماتا الجارة. وفي يوم الجمعة الماضي، تحقق الحلم الذي ساوره طويلا.. وعُرضت مسرحية "سحماتا" عن طريق مسرح الميدان، على ارض القرية المهدمة، وفتحت ربما مسارا جماهيريا وسياسيا جديدا لمواجهة السلطات بحق وموقف اصحاب هذا المكان. "طبعا. اريد العودة الى سحماتا، حتى لو بعد 1000 سنة. هل تعلمون، انا اشعر ان ارض سحماتا جزء من جسدي، جزء مني، وهكذا يشعر كل فرد من اهالي سحماتا. كلهم يحبون قريتهم. بصراحة.. هذا ليس عدلا.. هل تفهمني ليس هناك عدلا..!!" بدأت القصة في 28 من اكتوبر عام 1948، بعد اقامة دولة اسرائيل بنصف سنة. "لقد علمنا ان كل هذا سيحدث".. يقول وجيه سمعان بمرارة، البالغ من العمر 61 عام من مواليد سحماتا، وهو رئيس جمعية "ابناء سحماتا" لسنوات طويلة، والقوة الدافعة في النضال الذي يخوضونه امام المؤسسات الاسرائيلية من اجل حق العودة للارض التي انتزعوا وهُجروا منها قبل 50 عاما. "وصلت ثلاث طائرات، وبدأت تقصف القرية. هدموا البيوت وقتلوا الناس. اختبأت الناس تحت اشجار الزيتون.. بعدها دخل الجيش للقرية. لم يقولوا لنا شيئا.. لم يعلنوا شيئا.. ببساطة دخلوا وبقوة السلاح". عندما بدأ القصف وُلد وجيه سمعان في سنة 1937 في القرية المهجرة سحماتا، مساحة ارضها مكوّنة من 20 الف دونم. أقيم عليها مستوطنتان هما حوسين وتسوريئيل، والجزء الشرقي من مدينة معلوت. في العام 48 كان يسكن القرية 1200 نسمة، اغلبهم من المسلمين والباقي من المسيحيين. في العام 48 كان يبلغ وجيه سمعان من العمر الـ 11 سنة، لكنه يذكر كل شيء، (يقول وجيه) وكأن ما حدث كان البارحة.. انهى تعليم الصف الرابع في سحماتا وبعدها انتقل الى القرية المجاورة فسوطة ليكمل تعليمه. "بعد القصف - يقول وجيه - قسم من الناس بقي في القرية. حاول المختار وبعض الوجهاء البقاء والتحدث مع الجيش، لكن دون جدوى... قتلوا المزيد من الناس. حتى ان هناك شخصا شهد قتل ابنه امام عينيه. اغلقوا مداخل القرية كلها وأبقوا المدخل الشمالي فقط مفتوحا، حتى يهرب الناس... قسم كبير منهم حاول البقاء في القرية حتى اول العام 49. امي مثلا، رحمها الله، رموا بها الى لبنان لأنها كانت هناك عشية عيد الميلاد.. لم نرِد الخروج.. من يرغب بترك بلده؟؟!! لكن كثيراً من الناس نزحوا الى لبنان خوفا على ارواحهم من القتل.. وهكذا بدأت فترة التهجير والشتات. وأخذوا بهدم البيوت وخلال سنتين او ثلاث لم يبقوا حجرا على حجر، حتى انهم هدموا المسجد والكنيسة. " في اواسط العام 49 - اضاف وجيه - كتبنا الرسائل للحكومة المؤقتة لإعادتنا الى بيوتنا وبلدنا، وبأن لنا اراض واملاكاً بقيت هناك.. ولكنهم لم يكلفوا انفسهم بالرد على رسائلنا.. "إفهموني!!" سحماتا منذ تلك السنة وحتى يومنا هذا ما زالت موجودة في ذاكرتنا وقلوبنا. حاولنا غير الرسائل التي بعثناها ايضا، ان تكتب كل عائلة بشكل شخصي وفردي، بالسماح لها بالعودة الى القرية، وعبثاً كان.. والحكم العسكري آنذاك منعنا من الدخول الى البلد. انا مثلا، كنت ضمن القائمة السوداء في زمن الحكم العسكري. وبعد الغاء الحكم العسكري بقيت في القائمة السوداء حتى العام 76. (أُلغي الحكم العسكري بحق العرب، مواطني اسرائيل في العام 66، لكن هناك اشخاص، ومنهم على الاغلب وجيه ايضا، وُضعوا تحت مراقبة الجهاز الامني، وشُغّل بحقهم "انظمة قوانين الطوارئ". في العام 56، بعد ان انهى وجيه تعليمه وطلب البدء في العمل، هرب الى حيفا وبعدها بمدة سافر لإتمام تعليمه العالي في تشيكوسلوفاكيا، ومن ثم عاد الى حيفا، وهو يسكنها حتى يومنا هذا مع اخته واخيه في دار بالايجار). "انا اكبر منه وأذكر ما حدث بوضوح اكثر" قالت اخت وجيه، لطفية - "عندما بدأ القصف الجوي كنت مشغولة بالخبيز".. وضعت ارغفة الخبز على رأسي وهرعت الى فسوطة حتى اعطي الخبز لاخوتي الصغار.. وفي الطريق في منطقة تدعى "الزعترة" رأيت اناسا مجتمعين حول جثة لشخص قد قُتل، خفت كثيرا وأدرت رأسي حتى لا ارى شيئا. ذهبنا انا وامي مشيا على الاقدام الى فسوطة. اما اختي فركضت عائدة الى البيت حتى تأخذ ما صنعت يداها من اشغال الحياكة (تطريز) - انتَ تعلم البنات!! - ولكن انا اردت حمل الطعام لاخوتي. بعد 40 يوما، عدنا، انا وامي الى سحماتا. وعند وصولنا البلد رأينا اجرار الزيت مرمية وملقاة على الارض. فحملت جرتان من الزيت وذهبت مشيا من سحماتا الى البقيعة ومن هناك الى قسوطة. اما امي فبقيت في سحماتا.. أخذ الجيش امي واعتقلها مع نساء اخريات ورمى بهم الى لبنان.." "كنا ميسوري الحال في سحماتا. كان مدخولنا جيدا.. "الزيت والدخان والخ..", اذكر عند القصف الجوي، كنت في السابعة عشرة من عمري، وكان ابي يختبأ من شجرة الى شجرة حتى نجح بالفرار من القصف، كان يقول لنا دائما: "لم ينجحوا في قتلي.. فأنا شقي". لجأنا الى فسوطة، وعشنا 13 فردا في غرفة واحدة - ثمانية اخوة، اختين، الوالدين وعمة، تماما مثل هذه الغرفة التي نجلس بها الآن. كان احدنا يعدي الآخر عند المرض - يقول وجيه - عندما بدأوا بقصف البلد كنت ما ازال في فسوطة أكمل تعليمي ومن هناك رأيت الطائرات وهي تقصفها وأخذت بالبكاء. لم استطع الوصول الى سحماتا. اتكلم عن بعض الكيلومترات، فلقد كانت مليئة بالجنود والجيش. وآنذاك، ألم تسمعوا عما حدث بالقرى الأخرى؟؟ "بالطبع. سمعنا عن دير ياسين والصفصاف وغيرهم. سمعنا عن قتل ومجازر. عندنا ايضا في سحماتا استشهد 16 شخص. اذكر احد شبابنا، احمد اليماني (احد قادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - (حسب اقوال وجيه) لم يرد الخروج من البلد، فربطه الجنود في شجرة زيتون وجلدوه، وسُجن لبضعة اشهر وبعدها اخرجه الصليب الاحمر الى لبنان. في اليوم الثاني او الثالث للقصف دخل الجيش واحتل البلد. اراد الناس البقاء كما اسلفنا ولكن الجيش منعهم. الموضوع كله انتهى بشهرين تقريبا، من كان يرجع يطرد ثانية. مختار فسوطة بعث برسائل عدة للجيش لإعادتنا الى بيوتنا لكنهم لم يردوا جوابا. اراد ان يساعدنا المختار لكن مساعيه باءت بالفشل. بعد شهر او شهرين ذهبنا لقطف الزيتون. اخي الاكبر وقف على تلة حيث المقبرة ورأى بأم عينه اربعة من الجنود يهدمون بيتنا. وعندما التفتت امي باتجاه البلد قالت بيتنا لم يعد موجودا.. اخي لم يستطع اخبارها بما رأته عيناه، فقال لها ان الشمس ربما تبهر عينيها لذا لا تستطيع رؤيته. لقد وضعوا الديناميت في كل البيت وسقط مرة واحدة. استمروا بتفجير وهدم البيوت على مدار سنتين. لقد شهدنا امورا مؤلمة وفظيعة. احدهم قُتل ابنه امام عينيه فجُن جنونه. وأخرى، اُصيبت اصابة بالغة، هجمت عليها الكلاب في الشارع واكلتها. كانوا يصوبون بنادقهم على رؤوس الناس ويدفعوهم الى اتجاه الشمال ويصرخون بهم "يلا.. إلحقوا القاوقجي تبَعكم".. هل زرت القرية في تلك الفترة؟ ألم تفكر بأن تشاهد ما حصل هناك؟ "حاولت مرة، طلبت العمل مع اخوتي في دير القاسي، قرب سحماتا، لكنهم لم يسمحوا لي بالعمل هناك. في كل شهر كنت احصل على تصريح من الحكم العسكري لأتنقل من مكان الى آخر، ولم اتمكن من زيارة القرية في تلك الفترة." ماذا عن املاككم؟ "لقد نهبوا كل شيء. سرقوا كل ما نملك. كان لسحماتا الفا دونم من الزيتون،وكانت غنية بالتين، الصبار، الدخان والتوابل. كان في سحماتا معاصر للزيت ومطاحن للقمح. كنا سعداء في قريتنا. وعشنا عيشة هنيئة وجيدة، مع انها كانت حياة بسيطة. قل لي.. كيف يحق لكل اولئك الذين جاءوا من خارج البلاد ان يسكنوا ارض سحماتا.. ولنا، نحن ابناء ارض سحماتا ليس لنا هذا الحق؟؟!!! - يسأل وجيه ولطفية - يجعلنا هذا ان نشعر بالمرارة والغضب وعدم الرضى. هذه الحكومة ليست بعادلة.. لا تعرف العدالة والعدل.. ينص القانون الدولي بالحق لكل من كان بسحماتا، وليس فقط سحماتا، العودة الى وطنه وارضه. اهل القرية حاولوا.. حاولوا العودة، لكن كل اراضي البلد قد صودرت. لم يستطع اي انسان العودة، جعلوا من الارض منطقة عسكرية مغلقة، وحولوها لادارة شؤون اراضي اسرائيل. قال الحاكم العسكري لنا: "ليس لكم ما تبحثون عنه، ان شئتم نستطيع ان نعطيكم دونمين من الارض بمكان آخر". لكن لا أمي ولا ابي قبلوا، بأن يأخذوا ارضا اخرى". لاجئون !! طابور بشري سار في يوم الجمعة الماضي، على طريق مليئة بالغبار. وأخذ بالازدياد عند وصولنا سحماتا. كان هناك كبار السن الذين اتكأوا على العصي خلال مسيرتهم، شباب واطفال لبسوا قمصانا كُتب عليها "لن ننسى". لا شك انهم ذرية ونسل ابناء سحماتا. كان ايضا شخصيات مسرحية، مثقفون عرب وبعض من النشطاء السياسيين. في هذا الجو وعلى خلفية خُضرة المكان كان صعبا، ان يعدو خيالك لاحداث ما قبل 50 عاما، حيث كان القتل، الهدم والتدمير. لكن اشجار التين المختبئة من وراء اشجار السرو وبقايا بيوت من حجر، هم شهادة صماء لاحداث وآلام الماضي. ألم تفكر يوما خلال السنوات التي مضت ان تتنازل عن كل شيء وتسافر؟؟ "لا. ولا مرة.. حتى لو ملّكوني واعطوني كل امريكا. حتى في وضعنا الحالي افضِّل سحماتا على امريكا. يمكنك ان تفكر بأنه من المضحك ان تفكر بهذا الاتجاه، ولكني اقولها لك، هنا موطني ووطني. سحماتا وطني. لو كانت الاوضاع مستتبة، واردت خلالها ان اتعلم في امريكا، فهذا امر آخر، ولكن حتى عندها، بنهاية الامر انا اعلم ان لي وطن اعود اليه". هل تشعر بالانتماء لدولة اسرائيل؟ هل تشعر بأنك اسرائيلي؟ "سأكون صادقا وصريحا معك، كلا.. كيف لي ان انتمي مع وجود مغتصِب؟!! انا لست ضد الشعب اليهودي، لكن ضد السياسة، نعم.. انت تسرقني ولا تعطيني حقوقي، انا لا انتمي..حتى انت تعلم، واليهود هنا يعلمون جيدا انني لا انتمي للدولة، تقول الحكومة ان هذه الدولة هي دولة اليهود، فكيف لي ان انتمي؟؟ انت لا تعترف بي وبكياني، فهل استطيع ان انتمي للدولة؟" " امي، التي عاشت حتى التسعين من عمرها، كانت تحلم كل الوقت بالعودة للقرية، ولم تتوقف للحظة عن حلمها هذا" - يقول وجيه - "كل الوقت.. وحتى دقائقها الاخيرة حلمت.. وحتى لفظت انفاسها الاخيرة بعيدة عن بلدها". يشير سمعان باصبعه على صورة معلقة على الحائط بالابيض والاسود. فجأة ولجزء من الثانية رأيت خلال نظرته المتأثرة، التعبة والحزينة، ان شيئا من نظرة عينيه يشبه نظرة امه المتألمة، وهي تلف رأسها بحطة بيضاء. وربما....... رجع عيدي وماست في يوم الاحد الى امريكا. عوض ومع شخصيات اخرى من مسرح الميدان عادوا الى القاعة في شفاعمرو، اما الجمهور الذي قدم لحضور المسرحية مسح دموعه وعاد كل منهم الى بيته في البقيعة، فسوطة، ترشيحا، عكا او حيفا. وجيه سمعان واخته لطفيه عادا ايضا الى بيتهما في حيفا، الذي يطل على ميناء حيفا وبحرها الازرق.. وهذا الاسبوع ايضا، كما في الثلاثين سنة الماضية، تابع وجيه سمعان بارتشاف قهوته العربية السادة في فنجان القهوة الصغير الذي وُضع على الطاولة امامه، ويسحب نفسا طويلا من سيجارته الـ "كامل" التي بين اصابعه وليحلم بالعودة الى بلده سحماتا. عوده لن يحظى بها هو كما يظن.. لكن بالرغم من ذلك، ومع ان الارض، الكرامة، الانتماء والحق قد سلبت منه في ذاك اليوم المشؤوم من نهاية اكتوبر العام 48. لا زالت عند وجيه سمعان الاحلام وروح النضال. وربما.. يقول، ربما بعد عشرة او عشرين سنة، احفاد اخوتي واحفاد اهل سحماتا سيستطيعون بناء سحماتا من جديد. عن مقابلة اجراها: نهاد درباس ودرور كيدم نشرت في صحيفة "بعير حيفا" 28/8/1998 ترجمتها عن العبرية: رجاء عبيد - مطانس |
® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com |