![]() |
|
إميل البستاني عاشق حيفا - د.سميح مسعود
![]()
**قناعات وطنية
أفكاره التي سجلها في كتابه "زحف العروبة" وجدتها كأنها "مانيفستو" يحمل في طياته بذورًا نهضوية، يطالب فيها بوحدة الدول العربية، لنصرة القضية الفلسطينية، قضية العرب المركزية... لم يجامل أحدًا بقناعاته الوطنية وتعلقه بجذوره العربية، حرص على التعبير عنها بعاطفة حارة مندفعة، في خطبه وبياناته التي كان يقدمها في كل المناسبات السياسية والاجتماعية، بما فيها خطبه ومداخلاته كعضو في مجلس النواب اللبناني، ولم يحد عنها في مجال أعماله، فقد كان يدير شركته وهو مدفوع دائمًا إلى رعاية عماله بمشاعر إنسانية صافية وسلوك نقي رفيع، بعيدًا عن تقاليد الرأسمالية المجبولة على استغلال الإنسان للإنسان. هو من مشاهيرعشاق حيفا، سليل الاسرة البستانية اللبنانية، التي تنحدر جذورها من قرية الدبية في قضاء الشوف،عمه الشاعر الحيفاوي الكبير وديع البستاني، الذي شجعه على المجيء إلى حيفا عام 1935، بعد تخرجه كمهندس من معهد "الإم أي تي" الامريكي ذي الشهرة العالمية، وساعده في الحصول على فرصة عمل في مكتب "شركة البترول العراقية" التي اتخذت في ذلك الوقت من حيفا مقرًا لها. بقي موظفًا في نفس الشركة لمدة سنتين فقط، وبناء على نصيحة عمه وديع أسس بحيفا عام 1937 شركة "الكات" للمقاولات والتجارة، مع شريكه الحيفاوي كامل عبد الرحمن، واتخذا صورة قطة سوداء شعارًا لها، وسرعان ما تخلى شريكه عن اسهمه، وواصل إميل البستاني إدارة شركته وحده من مكتبه في شارع الملوك على مقربة من البحر، وأخذت تتعاظم التزاماته في سنوات الحرب العالمية الثانية، مع تنامي مشاريع" الكات" التي نفذتها في داخل فلسطين وخارجها، وبقي صامدًا في مكتبه بروحه الوطنية المتأججة، حتى سقوط حيفا وتشريد أهلها. هُجر من مدينته عند احتلالها، استقر في بيروت وأعاد تأسيس شركته الحيفاوية عام 1953 بالاسم والشعار نفسه، وأصبحت فيما بعد من أشهر شركات المقاولات العالمية، نفذت مشاريعَ ضخمة في الدول العربية النفطية، وفي إفريقيا وآسيا، وما زالت مشهورة حتى الآن في مجال أعمالها، وقد كتبت عنها مجلة التايم الأمريكية في عام 1963، بأنها " تعيد صياغة العالم العربي لما حققته من سمعة ونجاح في عالم الأعمال، لا على المستوى العربي فحسب، بل على مستوى العالم أجمع." ورغم نجاح شركته بمقرها الجديد في بيروت، بقيت حيفا حية في ذاكرته على مدى أيام حياته حتى مماته، أعطى أولوية خاصة لأبنائها وكل أبناء فلسطين للعمل في نحو عشرين فرعًا من فروع شركته، المنتشرة في سبع عشرة دولة حول العالم بما فيها مكتب كبيرفي لندن، كما قدم المنح الدراسية للمتفوقين في دراستهم من أبناء اللاجئين الفلسطينيين، ومن أبناء الكثيرين من الفقراء والمهمشين، أوفدهم إلى أفضل الجامعات الأجنبية، وهيأ لهم فرص العمل في شركته بعد تخرجهم. أحسست مؤخرا بحاجة إلى التعرف أكثر فأكثرعلى سيرة إميل البستاني من أقرب الناس إليه، من ابنته الوحيدة ميرنا، وهي أول سيدة لبنانية احتلت مقعدًا في البرلمان اللبناني بعد وفاة والدها، وقامت مقامه في إدارة شركته منذ وفاته عام 1963 وحتى الآن. زرتُ بيروت واتصلت بها هاتفيا ولم أتمكن من الوصول إليها بسب مرضها، لكنني نُصحت من بعض المقربين منها بالرجوع إلى كتاب مذكرات أمها لورا البستاني الذي نشرته في لندن قبل عدة أعوام باللغة الإنجليزية، بعنوان "زواج خارج الزمن"وكتب مقدمته صديق زوجها الكاتب العربي الراحل محمد حسنين هيكل، وقد تضمنت مذكراتها كل شاردة وواردة في سيرة إميل البستاني الشخصية والعامة وحياتها معه في حيفا ما قبل النكبة. حصلتُ على الكتاب وعلى مراجع أخرى كثيرة عن إميل البستاني، من ضمنها كتابان من تأليفه، أحدهما بعنوان "زحف العروبة" باللغتين العربية والإنجليزية، والآخر بعنوان "شكوك وديناميت" وجدت بعد مراجعتها أن الفضاء الشخصي لإميل البستاني كان واسعًا، لا يظهر فيه كرجل أعمال ناجح فحسب، بل يظهر أيضًا كشخصية وطنية استثنائية من أبرز الشخصيات العربية في أيامه، تبوأ مناصب وزارية ونال عضوية مجلس النواب اللبناني، وكان له حضوره المتميز ودوره الفاعل على الساحتين السياسية والاجتماعية في لبنان مما زاد من مريديه وأنصاره، وجعل منه المرشح الأول لانتخابات رئاسة الجمهورية اللبنانية لعام 1964، وكان بمقدوره الوصول إلى سدة الرئاسة، لو لم تمتد إليه يد المنون لتخطفه قبل الانتخابات الرئاسية بفترة قصيرة. من جانب آخر، وجدت في المراجع التي جمعتها عن إميل البستاني، معلومات تؤكد على أنه صاحب رؤى وأفكار سياسية وطنية متميزة، تتجاوز حدود بلده لبنان لتشمل الوطن العربي كله، عبّر فيها عن إيمانه بأمته، ودفاعه عن قضية فلسطين التي آمن بعدالتها، وصاغ على أساسها مضامين أحلامه الوحدوية، بوجود وطن عربي موحد تنضوي في حناياه كل الدول العربية، ويساهم النفط بإنمائه، من خلال تأسيس صندوق إنمائي إقليمي، اقترحه مبكرًا في نهاية خمسينات القرن الماضي، وطالب أن يُرصد لتنفيذ مشاريعه الإنمائية خمسة بالمئة من إجمالي العوائد النفطية العربية، متجاوبًا باقتراحه هذا مع شعار طرحه الوحدويون العرب في ذلك الوقت مفاده "نفط العرب للعرب". توقفت مطولًا عند أفكاره التي سجلها في كتابه "زحف العروبة" وجدتها كأنها "مانيفستو" يحمل في طياته بذورًا نهضوية، يطالب فيها بوحدة الدول العربية، لنصرة القضية الفلسطينية، قضية العرب المركزية... لم يجامل أحدًا بقناعاته الوطنية وتعلقه بجذوره العربية، حرص على التعبير عنها بعاطفة حارة مندفعة، في خطبه وبياناته التي كان يقدمها في كل المناسبات السياسية والاجتماعية، بما فيها خطبه ومداخلاته كعضو في مجلس النواب اللبناني، ولم يحد عنها في مجال أعماله، فقد كان يدير شركته وهو مدفوع دائمًا إلى رعاية عماله بمشاعر إنسانية صافية وسلوك نقي رفيع، بعيدًا عن تقاليد الرأسمالية المجبولة على استغلال الإنسان للإنسان. تتوالى المفاجآت التي أثارتني في مسيرة إميل البستاني، أولها مساهمته عام 1948 في مراسم جنازة الوسيط الدولي الكونت برنادوت في استكهولم، الذي قتله الصهاينة بالقدس بسبب انحيازه للحق العربي، وقد كان إميل العربي الوحيد الذي ساهم في الجنازة، وقد ارتدى لهذه المناسبة دشداشة عربية بيضاء واعتمر كوفية بيضاء وعقالًا، لجذب الانتباه والإعلان عن الحضور العربي، ووضع إكليلًا كبيرًا على ضريح المغدور يليق به كسليل للعائلة الملكية السويدية وحفيد لأوسكار الثاني ملك السويد والنرويج، وقد انتقده بشارة الخوري رئيس الجمهورية اللبنانية وقتذاك لحضوره الجنازة من دون صفة رسمية، ورد عليه إميل بمشاعره الوطنية المتأججة، مبينًا له بأنَّ حضوره كان مدعومًا من الشعب العربي كلّه بمختلف فئاته، ومن عائلات عشرين ألف موظف يعملون في شركته، ومن كل اللاجئين الفلسطينيين... عبر بردّه بما يتناسب مع قناعاته الوطنية واهتمامه بالقضية الفلسطينية. ومفاجأة أخرى أثارتني لها أهمية عميقة من الناحية السياسية، كتب عنها محمد حسنين هيكل في مقدمة كتاب مذكرات لورا البستاني، تتعلق بدور وطني بارز قام به زوجها إميل، خلال العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، ترك أثرًا كبيرًا على جمال عبد الناصر وأصبح بسببه صديقًا مقربًا منه، ومفاد ذلك الدور خدمة وطنية طلبها منه الرئيس المصري نفسه، قام بها إميل البستاني برحابة صدر، وتمكن من خلالها من إيصال مجموعة كبيرة من الصور إلى كل أعضاء مجلس العموم البريطاني، التقطها مصور حربي من السويد أثناء العدوان على مصر، تُظهر تفاصيل جرائم ومجازر مروعة بحق الأبرياء اقترفتها القوات البريطانية أثناء عدوانها على مصر، وبخاصة في بورسعيد وغيرها من المدن والقرى المصرية المجاورة لقناة السويس. تمكن إميل البستاني بمساعدة مجموعة من أصدقائه السياسيين البريطانيين المتعاطفين مع القضايا العربية، من وضع الصور أمام كل عضو من أعضاء مجلس العموم، وفقا لترتيب زمني محدّد سبق بدء جلسة طرح الثقة بحكومة أنطوني إيدن التي قامت بالعدوان ضد مصر، كما نقل الصور نفسها أيضًا إلى ممثلي الجمعية العامة في الأمم المتحدة، وقد كان لعمله هذا صدًى سياسي ضد رئيس الوزراء إيدن وحكومته، زاد من تأليب الرأي العام ضده، وشدّ من أزر معارضي سياسته في مجلس العموم، وسرعان ما توسعت تلك المعارضة، حتى تمكنت من حمل إيدن على الاستقالة، وقد ساهم هذا المشهد من التطورات البريطانية في تحول عبد الناصر إلى رمز وطني كبير. أهم معنى لهذه الخدمة الوطنية التي قدمها إميل البستاني لمصر هو معنى الانتماء إلى أمته العربية، الذي خلق له عالمًا مثاليًا يعيش فيه بصلة عشق دائم مع وطنه العربي الكبير، يتواءم مع رؤاه وتأملاته الوحدوية، ويمنحه لحظة صفاء وراحة نفس تخفّف مما في داخله من حرقة وأسى على احتلال مدينته حيفا وهزيمة العرب في فلسطين، نحن أحوج إلى أمثاله أكثر من أي وقت آخر، في زمننا الراهن الذي تتقطع فيه أوصال بعض الدول العربية، ويتم تقسيمها إلى دويلات مجزأة، ضيقة في آفاقها ومداها، تحفُها تحديات مصيرية غير مسبوقة تهدد أمنها ووجودها، وتؤثّر سلبا على مسار القضية الفلسطينية، التي تعصف بها متغيرات كثيرة متلاحقة في كلّ يوم تكثر فيها المآسي والمواجع. إنَّ ظاهرة إميل البستاني، ظاهرة وطنية تاريخية فريدة ومتميزة ومثيرة تظهره بصورة مغايرة لصورة رجل الأعمال التقليدية، تحمل مفهومًا جديدًا في تنفيذ المشاريع الإنمائية بأهداف وطنية سامية، وتحمل مفهومًا جديدا في التعامل مع الناس بدلالات كثيرة تجسد حبّه للآخر وإدانته للطائفية والفساد وظلم الإنسان للإنسان بكل أشكاله، وسعيه الدائم لجعل الحياة مشرقة دومًا بالمعاني النبيلة. كتبت عنه ابنته ميرنا في مقالة بعنوان "رجل بمليون رجل" نشرتها في عام 1995 في مجلة Life style"" بينت فيها أن جدتها اختارت له اسم الكاتب الفرنسي الشهير إميل زولا لإعجابها به، وبأفكاره التي كان يظهر فيها نصيرًا للمضطهدين والمظلومين من عامة الناس، وبيّنت أن والدها كان يحمل في داخله نفس هذا الشعور في احترامه الكامل للإنسان، وأنه تميز بإدارة أعماله بسلوك نقي رفيع منذ بداياته الأولى في حيفا، واستمر في نهجه هذا بعد توسع أعماله، وانتشار شركته في دول كثيرة في آسيا وإفريقيا والخليج العربي، لم يهتم فقط في تنفيذ المشاريع الإنمائية الكبرى في تلك الدول، بل اهتم أيضًا في تطويرها اجتماعيًا، بالمساهمة ببناء مدارسها ومستشفياتها وغيرها من الاحتياجات المجتمعية، ونسج علاقات خاصة مميزة مع حكامها، حثّهم من خلالها على ترسيخ الحريات العامة. *** توقفت مطولًا عند المشهد الأخير من حياته، كان يوم جمعة في الخامس عشر من آذار من عام 1963، كان على موعد للمشاركة في اجتماع لمجلس إدارة البنك العربي في عمّان بصفته عضوًا فيه، توجّه في طائرته الخاصة مع اثنين من أعز أصدقائه وهما: الدكتور نمر طوقان الأستاذ في الجامعة الأمريكية، وهو الأخ الشقيق للشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان، والمهندس مروان خرطبيل من كبار موظفي شركته، الذي تنحدرأسرته من مدينة طبريا الفلسطينية... لسوء الأحوال الجوية لم تصل طائرته عمان في ذلك اليوم المشؤوم، إذ هوت في البحر الواسع قبالة مرفأ بيروت بعد إقلاعها بفترة قصيرة... تقاذفتها الأمواج، ومات إميل البستاني غرقا مع صديقيه وربان الطائرة وهو في أوج عطاءاته، طَفت جثث رفاق رحلته الثلاثة على مقربة من الشاطئ، ولم يتم العثورعلى جثته، بقيت تحت الأمواج في قاع البحر. برحيله خسرت الأمّة العربية حيفاويًا من رجالاتها الكبار في عالم المال والأعمال والسياسة، وبعد أكثر من نصف قرن على وفاته لا تزال سيرته الأعمق أثرًا في الذاكرة العربية، تعبرعن دلالات وطنية استثنائية سامية، وعطاء وافر لفلسطين، وتعبر بالنسبة لي عن حياة عاشق متيّم في حب حيفا، المدينة التي تجذّر فيها وحقّق باكورة إنجازاته في عالم الأعمال، وبقيت تفاصيل صورها في مخيلته على مدى أيامه. عن موقع الجبهة 6/5/2017 |
® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com |