طبرية وبحيرتها: سحر المكان وألق التاريخ - صقر أبو فخر

في المنطقة الممتدة ما بين كيليكيا وسيناء ظهرت واحدة من أعظم الحضارات القديمة هي الحضارة الآرامية ـ الكنعانية. وعلى الشاطئ الشرقي للبحر الأبيض المتوسط ازدهرت مدائن رائعة مثل أوغاريت وجبيل وصيدا وصور وعكا وسبسطية ويافا وعسقلان؛ هذه المدائن التي قدمت للبشرية الحرف والفن وحكايات ارتياد البحار. وفي السهول التي تلي هذا الشاطئ نهضت الحواضر الكبرى مثل منبج وحلب وأفاميا ودمشق وبصرى وأريحا وطبرية التي منحت الإنسان عقائد الخصب المقدسة وديانات الأسرار الجميلة. وكانت فلسطين قلب هذا العالم القديم وجوهرته النادرة، وكانت واسطة العقد بين ثلاث حضارات متشابكة ومتفاعلة معاً هي حضارة العراق الفريدة، وحضارة مصر الخالدة، وحضارة سورية النادرة.

في تلك البقعة المطرزة بحقول القمح وبأشجار التين والزيتون، والمسيجة بالصبار، انبثق إله الخضرة الدائمة الذي كان يدعى «الخضر» أحياناً، خصوصاً في السهول الداخلية، أو «مار جريس» أحياناً أخرى، ولا سيما في مدن السواحل. ثم ظهر الإله «داغون» إله القمح وأقدم آلهة الطبيعة، وهو سر الحياة المتجددة في البذرة الأولى، وسر الموت والانبعاث في دورة أزلية لا تنتهي، ولا يزال اسمه موجوداً في أسماء بعض المواقع مثل «بيت جن» في الجولان، و«بيت جن» في الجليل.

مدينة طبرية هي إحدى المدن المهمة في هذه البقعة من الأرض الفلسطينية القديمة، وكان اسمها ملتصقاً ببحيرتها الأخاذة، حتى لا يمكن التفريق بينهما حين نلفظ كلمة «طبرية»: هل المقصود المدينة أم البحيرة. أما المدينة فيعود تاريخها إلى الفترة الكنعانية، وقد بُنيت في العهد الروماني فوق خرائب كنعانية كانت تدعى «الرقة». والرقة تعني المكان الملاصق للشاطئ، مثلما نقول عن مدينة «الرقة» القائمة على شاطئ الفرات، أو عن شارع «الرقة» اليوم في مدينة دبي، أي المحاذي لشاطئ البحر. ومهما يكن الأمر، فالمأنوس إليه أن طبرية بُنيت بين سنة 17 ميلادية وسنة 22 ميلادية، وقد بناها الحاكم الروماني هيرودوس انتيباس، وأطلق عليها اسم الإمبراطور طيباريوس. وهكذا غلب الاسم الروماني على الاسم الكنعاني، وصارت بالتدريج إحدى المدن الرومانية العشر المتحالفة وهي: دمشق، شهبا، بصرى، درعا، إربد، جرش، أم قيس، السلط، بيسان.



جانب من بحيرة طبرية

غير أن تاريخ طبرية يعود إلى أقدم من بدايات القرن الميلادي الأول، فقد وُجدت بجوار طبرية، وفي أحد المدافن الأثرية بالتحديد، جمجمة لامرأة عاشت قبل المسيح بأكثر من ثلاثين ألف سنة، وكانت أقدم أثر للإنسان القديم، وسُميت «المرأة الطبرانية». لكن مجد طبرية انحدر إليها من المسيح وتلامذته؛ فشعار المسيحيين الأوائل كان، كما هو معروف، السمكة قبل التحول إلى الصليب، وسمكة المشط بالتحديد، لأن معظم تلامذة المسيح كانوا صيادي سمك. وحتى عهد الرومان كان سكان طبرية يجففون سمك المشط ويملّحونه ثم يصدّرونه إلى روما. وهذا السمك لا يوجد إلا في طبرية وفي بعض روافد النيل وفي بحيرة فيكتوريا في قلب أفريقيا. وربما يكون هذا الأمر دليلاً إضافياً على أن بحيرة طبرية هي جزء من الانهدام السوري ـ الأفريقي الذي يبدأ من فم مدينة حمص ويسير جنوباً حتى بحيرة فيكتوريا في أوغندا.

في أي حال، تقول الرواية المسيحية إن المسيح لم يدخل طبرية، لكنه اختار بحيرتها ليجري فيها واحدة من أعظم معجزاته، وهي المشي على سطح الماء. وفي أرجائها انتهر الرياح الهوجاء فسكنت (إنجيل يوحنا). وفي أم قيس القريبة منها (وهي تقع اليوم في مثلث الحدود السورية ـ الأردنية ـ الفلسطينية في حوران) شفى يسوع يهودياً من داء الصرع، فأخرج الشياطين منه ثم أدخلها في قطيع من الخنازير الذي سرعان ما أصيب بالجنون، فاندفع ليقذف بنفسه في البحيرة.

التاريخ القريب

كانت طبرية مدينة لها شأن تجاري في سورية الوسطى، فهي محطة مهمة على طريق القوافل التجارية بين الشام ومصر؛ هذا الطريق الذي يبدأ من دمشق نحو الكسوة وفيق وطبرية واللجون وقلنسوة واللد وأسدود وغزة ورفح فمصر. وهذه المحطة تتصل بمنطقة الجولان من الشمال من خلال جسر بنات يعقوب، وبشرق الأردن من الجنوب عبر جسر المجامع. وتقع مدينة طبرية في الشمال الغربي من البحيرة، وتبعد من القدس 160 كلم، ومن دمشق 137 كلم ومن عكا 86 كلم.

تعتبر طبرية، ومعها أريحا، مشتى الفلسطينيين، ففيها الحمامات الكبريتية، وبالقرب منها تقع حمامات الحمّة المشهورة، وأراضيها خصبة جداً. واللافت أن بعض هذه الحمامات الكبريتية تنبجس من الأرض وتصل حرارتها إلى 62 درجة مئوية. ولهذا اشتهرت طبرية بالسياحة الدينية وبالسباحة الاستشفائية في هذه الحمامات التي كانت تبعد من المدينة نحو كيلومترين، وباتت، في ما بعد، تقع في داخلها. وتمتاز المدينة وجوارها بالحجر الطبراني، وهو من نوع البازلت الأسود الذي ليس له مثيل على الإطلاق إلا في حوران وجبل العرب.

فَتَحَ طبرية، إبان فتوح الشام، شرحبيل بن حسنة في سنة 634 ميلادية، وصارت قاعدة جند الأردن الذي ضم آنذاك المنطقة الممتدة من درعا إلى صور، ومن عكا إلى بيسان. وفي جوار طبرية اندلعت معركة حطين (نحو 9 كلم إلى الغرب منها) في سنة 1187 ميلادية. وكانت مدينة مسورة بحسب وصف «ناصر خسرو» لها في كتابه المعروف «سفر نامة». وفي عهد ظاهر العمر الزيداني بنى فيها قلعة ومسجداً. غير أن مكانة طبرية راحت تتدهور منذ القرن الثامن عشر فصاعداً، ولا سيما مع احتلال نابليون لها في سنة 1799 وهو في طريقه إلى محاصرة عكا. وفي سنة 1837 أصابها زلزال شديد فخرّب كثيراً من أحيائها، وهدم أجزاء مهمة من سورها.

ارتبطت طبرية بجوارها الحضري مثل قرى حطين وعيلبون وكفركنا والشجرة والمجدل. ولهذه القرى تاريخ ووقائع؛ فالمجدل هي مسقط مريم المجدلية، وكفركنا هي قانا الجليل الذي أجرى المسيح فيها أعجوبته الأولى أي تحويل الماء إلى خمر، وحطين هي الموقع الذي انتصر فيه صلاح الدين الأيوبي على الفرنجة، وفي نفق عيلبون نفذت حركة «فتح» أولى عملياتها معلنة انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة في 1/1/1965، وفي الشجرة، بلدة ناجي العلي، استشهد الشاعر الفلسطيني عبد الرحيم محمود وارتكب الصهيونيون فيها مذبحة مروعة في سنة 1948.

تضم طبرية مقام السيدة سكينة بنت الحسين الواقع على تلة تشرف على الطريق إلى سمخ (البلدة التي وُلد فيها الروائي يحيى يخلف)، وتمتاز بالطريق البحري الواسع (الكورنيش) الذي كان أهلها يسمونه «البنط». وأصل هذه الكلمة «بونتي»، وهي إيطالية. ومن معالم المدينة قبل سقوطها في سنة 1948 «ملهى الليدو» الذي كان مقصداً للشوام والفلسطينيين واللبنانيين. وهذا الملهى أنشأه مستثمر ألماني، وعهد بإدارته إلى منير سماحة من لبنان، وكان آية في الذوق والتنعم.

سقطت طبرية في أيدي الهاغاناه في 19 نيسان 1948، وهاجر أهلها إلى لبنان وسورية، وكان عددهم آنذاك يربو على أربعة آلاف نسمة. ومع انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة كان أول شهيد لحركة «فتح» هو أحمد موسى من قرية ناصر الدين التابعة لطبرية، وقد استشهد في طريق العودة إلى الأردن بعدما نفذ أولى عمليات حركة «فتح» وهي عملية تدمير نفق عيلبون الذي يجر مياه بحيرة طبرية إلى النقب.

أعلام طبرانيون

اشتُهر من أهالي طبرية كثيرون في حقول العلم والسياسة والاقتصاد والثقافة أمثال توفيق نصر، وهو جد الوزير اللبناني باسل فليحان لأمه، ويوسف نصر، وهو والد أسعد نصر الذي صار رئيساً لمجلس إدارة طيران الشرق الأوسط (MEA) في لبنان، وحسيب الصباغ وسعيد خوري مؤسسا شركة اتحاد المقاولين (CCC)، ويوسف صايغ وفايز صايغ وتوفيق صايغ وأنيس صايغ. وهؤلاء أبناء القس عبدالله صايغ من قرية خربا في السويداء الذي هاجر إلى طبرية ليشرف على كنيستها في سنة 1925، ولمع أبناؤه لاحقاً في ميادين كثيرة؛ ففايز كان الشخصية اللامعة في الحزب السوري القومي الاجتماعي، وهو الذي أسس «مركز الأبحاث الفلسطيني» في بيروت سنة 1966، وأدار الإعلام العربي في الولايات المتحدة، وحقق حضوراً لافتاً للقضية الفلسطينية عجزت عنه الدول العربية مجتمعة. ويوسف صايغ الذي كان المسؤول الأول للحزب السوري القومي الاجتماعي في فلسطين، واعتقل ثم طرد إلى لبنان، وأصبح، في ما بعد، عضواً في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وهو الذي أسس «مركز التخطيط الفلسطيني». وتوفيق صايغ الشاعر المعروف الذي تدين له حركة الحداثة الشعرية العربية وقصيدة النثر بكثير من الألق. وأنيس صايغ الذي أدار «مركز الأبحاث الفلسطيني» بعد شقيقه فايز عشر سنوات كاملة، وعلى يديه تخرج عشرات الباحثين المشهورين، ومن بين أصابعه العشرة ظهرت «الموسوعة الفلسطينية» بأجزائها العشرة. وقد حاولت إسرائيل اغتياله في 19/7/1972 بطرد مفخخ، لكنه نجا بعدما فقد بعض بصره وبضعة أصابع. وعلاوة على هؤلاء اشتهر من الطبرانيين الدكتور حسام الخطيب ومروان خرطبيل الذي توفي مع نمر طوقان وإميل البستاني في سقوط طائرة البستاني في البحر قبالة بيروت في ستينيات القرن العشرين.

اليهود وطبرية

كان اليهود يعتبرون طبرية مدينة نجسة ومدنسة لأنها بُنيت فوق المدافن، وتحاشوا المرور بها أو السكن فيها في أول أربعين سنة من إنشائها. لكنها صارت، بعد ذلك، إحدى المدن الأربع المبجلة مع القدس والخليل وصفد. فالقدس، بحسب زعمهم، هي مدينة داود وتحتوي «الهيكل المقدس». لكن الحفريات التي بات عمرها أكثر من مئة وخمسين سنة، منها أربع وأربعون سنة من الحفريات الإسرائيلية، أي منذ احتلال المدينة في سنة 1967، لم تستطع أن تكتشف خشبة واحدة تدل على أن قصة داود وابنه سليمان قد جرت حقاً في تلك المدينة. والخليل التي يعتقد اليهود أن النبي إبراهيم مدفون فيها ويصرون على الانتساب إلى هذا الرجل الآرامي الغامض والذي لم يبرهن على الآثار حتى اليوم قصة ارتحاله من العراق إلى فلسطين ومصر ثم عودته إلى فلسطين ليموت فيها، لم يتمكنوا من اكتشاف حجر واحد يعود إلى «اليهود» البتة. أما الحرم الإبراهيمي الذي استولوا على قسم منه وحوّلوه إلى كنيس، فهو أثر عربي لا ريب في ذلك.

لم يسكن اليهود طبرية إلا بعد أن أخرجهم تيطوس منها في سنة 70 ميلادية، هذا إذا صحت الرواية التقليدية عن تدمير الهيكل في ذلك الزمن. لنماشي هذه الرواية مؤقتاً، مع التحفظ الكامل عنها، فنعثر على بعض الأخبار عن انتقال عدد من اليهود من القدس إلى طبرية بعد نفيهم من القدس. وفي طبرية كتب أحبارهم «التلمود الطبراني» أي «الغمارا» وهو غير «التلمود البابلي» وإن كان يماثله إلى حد ما. وفيه جمعوا «المشناه» بحسب زعمهم. وفي طبرية وُضعت قواعد تحريك كلمات التوراة أي القراءة المصوّتة ـ الماسورية، كما استقر فيها «السنهدريم». ومع ذلك، فعلى الأرجح أن اليهود ظلوا أقلية بسيطة في طبرية، ومنغلقة وغير ذات تأثير، إلى أن بدأوا يتدفقون من الأندلس إلى المدينة بعد سنة 1562 حين سمح لهم السلطان سليمان القانوني بالإقامة فيها. ومنذ ذلك الزمن بدأت أعدادهم تتزايد حتى صاروا الغالبية. وكان أبرز القادمين من شبه الجزيرة الإيبيرية (إسبانيا والبرتقال) الحاخام المشهور يوسف الناسي، وفيها قبر ابن ميمون (ميمونيدس) ونصب عكيفا (أو عقيبا) الذي كتب «المشناه»، وقبر مئير المقدس لديهم. وإبان الهجرات الصهيونية الحديثة أسس المهاجرون اليهود في سنة 1920 مستعمرة صموئيل عند الكتف الغربي الشمالي لمدينة طبرية، وأسموها على اسم أول مندوب سام بريطاني على فلسطين وهو هيربرت صموئيل.

عاش يهود طبرية في حال من المذلة والمسكنة حتى عشرينيات القرن العشرين حين بدأ تنفيذ إعلان بلفور، فراحت أحوالهم تتغير. فيهود طبرية كانوا ينقسمون إلى ثلاث فئات: فئة قديمة وهي قليلة العدد، وفئة جاءت مع هجرة اليهود من الأندلس، وفئة هاجرت من بولونيا وكانوا يتكلمون «اليديش» ويعيشون على الصدقات الواردة إليهم من يهود أوروبا وجمعياتهم مثل «الأليانس» أي الاتحاد اليهودي العالمي. لكن بعد بداية الهجرة الصهيونية راحت أعدادهم تتزايد حتى وصل عددهم في سنة 1912 إلى سبعة آلاف يهودي مقابل 1600 عربي (1400 مسلم و200 مسيحي) وبلغوا في سنة 1948 ثمانية آلاف يهودي مقابل نحو أربعة آلاف عربي. وبعد سنة 1948، حين هاجر سكان طبرية الفلسطينيون تحولت المدينة، جراء الاحتلال إلى مدينة يهودية خالصة.

بحيرة طبرية

تدعى بحيرة طبرية بأسماء عدة منها «بحر الجليل» و«بحر كنيرت» و«بحيرة جينيسارت»، وهي أكبر خزان طبيعي للمياه العذبة في فلسطين. وتمتاز هذه البحيرة بطبيعة ساحرة، فجبل الشيخ (حرمون) والمرتفعات الغربية للجولان تتعامد كلها مع البحيرة التي تنخفض تحت سطح البحر، لتضفي على المكان بهاءً خاصاً.

يبلغ محيط البحيرة 53 كلم، وأعمق نقطة فيها تصل إلى 45 متراً، وطولها 23 كلم، بينما يصل عرضها إلى 14 كلم، ومتوسط انخفاضها تحت سطح البحر هو 212 متراً. أما مساحتها فتصل إلى 160 كلم2. وبحيرة طبرية هي جزء من المسطح المائي الممتد من فم مدينة حمص عبر وادي البقاع في لبنان اليوم إلى غور الأردن ببحيراته الثلاث (الحولة وطبرية والميت) حتى بحيرة فيكتوريا في أوغندا، وهو ما يسمى حفرة الانهدام السوري ـ الأفريقي. وبحسب التاريخ الجيولوجي لبلادنا، فقد انحسرت المياه قبل نحو عشرين ألف سنة فتكوّنت بحيرات الغور الثلاث، وانفصل بعضها عن بعض. وبحيرة طبرية هي، في هذه الحال، من بقايا بحيرة اللسان التي بلغت مساحتها في العصر المطير نحو 3100 كلم2، وكانت تمتد من البحر الميت شمالاً حتى الحولة، أو ما يُعرف اليوم بـ«غور الأردن» الذي يتألف من وادي الحولة وبحيرة طبرية والبحر الميت ووادي عربة. وقد أدى التبخر وانحسار المياه في عصر الجفاف الذي أعقب العصر المطير إلى انفصال بحيرة اللسان، وانقسامها إلى ثلاثة أقسام هي الحولة وطبرية والميت.

تغتذي بحيرة طبرية على مياه الحاصباني الذي ينبع من لبنان، والدان الذي ينبع من تل القاضي المحاذي للحدود مع سورية بحسب سايكس ـ بيكو، وبريغيث الذي ينبع من مرجعيون. فهي بحيرة تشكل جزءاً من البيئة الجغرافية لبلاد الشام، ومتشابكة معها في مصادر مياهها ووديان الأنهار التي تصب فيها، وأحواضها السهلية الزراعية وتكوينها المائي. وقد كان الاستعمار البريطاني واعياً تماماً لأهمية بحيرة طبرية لكل من سورية وفلسطين والأردن، فعمد إلى إلحاق البحيرة بالأراضي الفلسطينية عند رسم الحدود بين سورية وفلسطين في سنة 1922، وكان الهدف ضمان مصادر المياه للكيان الصهيوني الذي كان يولد شيئاً فشيئاً آنذاك. وقد رُسمت تلك الحدود بطريقة تحرم سورية من الاستفادة من خزانات المياه الطبيعية في طبرية والحولة، بينما مصادر مياه هذين الخزانين كالينابيع والأنهار والنهيرات موجودة في الأراضي السورية واللبنانية، لكن جريانها يتجه طبيعياً إلى الأراضي الفلسطينية المنخفضة. ومن ينظر إلى خريطة الكيانات الثلاثة التي ظهرت بعد اتفاقية سايكس وبيكو يلاحظ ما يسمى «إصبع الجليل»، وهو نتوء يخترق منطقة الحدود اللبنانية ـ السورية بطريقة مريبة، ولا علاقة له بالجغرافيا. لكن إصبع الجليل هذا جرى رسمه على ذلك النحو لضمان مصادر المياه من سورية ولبنان للكيان الصهيوني الذي قام فوق الأراضي الفلسطينية برعاية الاستعمار البريطاني.

البحيرة وتبدو بعض مرتفعات الجولان

لم ينتظر الصهيونيون قيام كيانهم في سنة 1948 حتى يستولوا على الأرض والمياه معاً، فهم منذ بداية الاستيطان اليهودي كانوا يختارون لمستعمراتهم المناطق القريبة من مصادر المياه. وهكذا أقاموا أولى المستعمرات اليهودية أمثال روشبينا والخضيرة وزخرون يعقوب وريشون لتسيون وبيتح تكفا وغيرها، وحازوا امتيازات لاستثمار مياه الأنهر والينابيع مثل امتياز استثمار مياه نهر النعامين بذريعة تغذية أراضي مستعمرة «أفيق» (الأفق) التي أسسوها في سنة 1936، ومثل امتياز استثمار مياه نهر العوجا لتغذية منطقة تل أبيب بالمياه، ومثل امتياز استثمار مياه نهر المقطع لجر المياه إلى مدينة حيفا.

كان ظاهر الأمر جر المياه للري والشرب، لكن الخطة الأبعد كانت إقامة شبكة من الأقنية تخدم التوسع الاستيطاني من خلال شراء الأراضي، وحرمان الفلسطينيين الإمكانات التي تتيحها مصادر المياه هذه للتطور الزراعي واستصلاح الأراضي. وفي هذا السياق ظهر مشروع روتنبرغ في سنة 1926، وهو امتياز مدته سبعون سنة لاستثمار مياه الأردن واليرموك في توليد الكهرباء، وكان بذلك أول مشروع يهودي لاستثمار مياه فلسطين، بما في ذلك مياه بحيرة طبرية. ولهذه الغاية جرى بناء محطة على جسر المجامع.

مع تأسيس «دولة إسرائيل» عمدت هذه الدولة فوراً، واستناداً إلى خطط قديمة، إلى الشروع في جر مياه بحيرة طبرية بالأنابيب إلى النقب عبر الجليل والسهل الساحلي. وكانت الغاية جعل النقب مكاناً لاستيعاب المهاجرين اليهود بعد أن تضيق عليهم الأمكنة في السهل الساحلي ومدنه. وقد انتهى تنفيذ هذا المشروع في سنة 1964، وفي سياقه مُدّت أنابيب أخرى إلى غور بيسان. ولمعالجة مشكلة ملوحة مياه طبرية المنقولة إلى النقب، قامت إسرائيل بشق قناة خاصة لحجز مياه الينابيع الكبريتية المالحة عن البحيرة، ثم نقلها إلى نهر الأردن جنوب البحيرة، الأمر الذي أدى إلى زيادة ملوحة نهر الأردن في الغور الجنوبي، وتسبّب في خسائر كبيرة للقطاع الزراعي الأردني. ثم عمدت إسرائيل إلى شق قناة من بلدة الطابغة نحو النقب، وأنشأت محطة لضخ مياه البحيرة من انخفاض 210 أمتار تحت سطح البحر إلى ارتفاع 175 متراً فوق سطح البحر، ثم تسيل المياه عبر قناة الطابغة إلى النقب بطول 142 كلم، وبطاقة تصريف بلغت نحو 320 مليون متر مكعب.

كُشف هذا المشروع في سنة 1964، أي حينما كانت إسرائيل قد بلغت الخواتيم، ونفذته بالكامل. فتداعى العرب لعقد القمة العربية في 17/1/1964، وقرروا تحويل روافد نهر الأردن التي تنبع من لبنان وسورية والأردن لمنع إسرائيل من سرقة المياه. ولم يتم تنفيذ أي جانب من جوانب خطة التحويل، لكن الأمور سارت، منذ ذلك الوقت، نحو الحرب التي وقعت بالفعل في الخامس من حزيران 1967، وتمكنت إسرائيل في أثنائها من الاستيلاء على الجولان والضفة الغربية، علاوة على سيناء. وهكذا طُوي مشروع تحويل روافد الأردن، وفُتحت ملفات كثيرة جديدة وشائكة معاً. وهكذا أيضاً صار المستوطن اليهودي المقيم في النقب يتنعم باستعمال المياه اللبنانية والسورية والفلسطينية المسروقة، بينما يضرب الجفاف كثيراً من مناطقنا. وهنا، بالتحديد، يكمن أحد أهداف الصهيونية، أي فرض التخلف على بلادنا وتأبيده إذا أمكن.

المراجع
* إبراهيم الشهابي، «طبرية: تراث وذكريات»، دمشق: دار الشجرة، 1999.
* أنيس صايغ، «بلدانية فلسطين المحتلة»، بيروت: 1968.
* أنيس صايغ عن أنيس صايغ (مذكرات)، بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، 2006.
* مصطفى مراد الدباغ، «بلادنا فلسطين» (الجزء السادس)، بيروت: دار الطليعة، 1974.
* نبيل خالد الآغا، «مدائن فلسطين»، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1993.
* هيئة الموسوعة الفلسطينية، «الموسوعة الفلسطينية»، القسم العام، المجلد الثالث (مادة طبرية)، دمشق: 1984.

عن فلسطين ملحق السفير
العدد 32 15 ك1 2012







® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com