|
معين بسيسو ،من أبرز شعراء الطليعة الثقافية والوطنية والانسانية الفلسطينية، المؤمنة بالفكر العقائدي الثوري التقدمي النيّر، التي ربطت الفكر بالممارسة الثورية . وهو شاعر الوطن والشعب والجماهير والثورة والكفاح والمقاومة، وشاعر المهمات الصعبة، والنكبة ومرارتها . وهو الجذر الفلسطيني العتيق الذي لم تتعبه الأيام ونوائب الدهر، ولم تنل من صوته الزنازين والأغلال والسلاسل الحديدية والغارات الوحشية، والفارس الفلسطيني الذي تألق وتوهج في الميدان، وتمرس في ساحة الفعل الشعري والنضالي والكفاحي المقاوم.
حمل معين، في قلبه وروحه وكيانه،غزة ببحرها وأمواجه المتلاطمة وشاطئها الجميل، ورسم على جسده خريطة فلسطين بسهولها وجبالها ووديانها وأزهارها وأشجارها ومدنها وأريافها ومخيماتها، وعرف النضال والمقاومة منذ شبابه اليانع الغض، وذاق على جلده عذاب السجن وعتمة الزنزانة، وعرف كيف يحوّل الكلمة الى رصاصة، والرصاصة الى قصيدة . الم يقل: "أنا ان سقطت فخذ مكاني يا رفيقي في السلاح، واحمل سلاحي، لا يخفك دمي يسيل من الجراح". وقد ساهم معين في صياغة وكتابة ثقافة الرفض والمواجهة والمقاومة والوجدان الفلسطيني، من خلال قصائده وأشعاره الثورية، التي نقشت على جدران الزنازين وعلقت على صدور المناضلين والمقاتلين، وأضحت نشيد أبطال المقاومة الفلسطينية. وكان معين عاش تجربة حصار بيروت الدامي، وشهد معاركها البطولية، وشحن المقاتلين من الحركتين الفلسطينية واللبنانية بقصائده المقاتلة اللاهبة، التي كتبها في الخنادق وتحت لهب الانفجارات . وتحولت قصيدته "لن تدخلوا بيروت" الى نشيد وطني تردد على الشفاه والألسن، وكتبت بالدم على الجدران والحيطان كتعبير عن ارادة وايمان شعب صامد في وجه آلة الحرب الهمجية . وفي أثناء حصار بيروت سأل معين بسيسو القائد الفلسطيني ياسر عرفات: ما الذي يمكن أن يكتبه الشاعر الآن وراء المتاريس وتحت القذائف ؟. فرد عليه أبو عمار قائلا : ان قائد الثورة لا يستطيع أن يعرض على الشاعر والكاتب اسلوب الكتابة أو شكلها، انكم وحدكم الذين تقررون هذا الشعر، والكتاب هم قادة بانفسهم، انهم قادة ثورتنا الشعرية والادبية !!. ولعل سر خلود معين بسيسو وبقاء أشعاره بين الناس، انها أشعار وجدانية ووطنية صافية وصادقة وشفافة وواضحة نابعة من قلب الجماهير، وتصور همومها وأوجاعها وآلامها، وتعالج قضاياها، وتعبر عن آمالها وأحلامها وتطلعاتها. وكان معين يرى في الشعب مدرسة للالهام والابداع الشعري . والقصيدة الأخيرة التي كتبها وخطها يراع معين بسيسو وأبدعها خياله الشاعري هي ملحمة شعرية جميلة في ألف بيت، بعنوان "قصيدة في زجاجة" يقول في مقطع منها : سفر سفر موج يترجمني الى كل اللغات وينكسر موجا على كل اللغات وأنكسر سطرا .. سطرا سفر .. سفر سفن كلاب البحر أشرعة السفن وطن يفتش عن وطن زمن زمن زمن تكون به وحيدا كالفراشة في سحابة يا من يسمنني باشرعتي واجنحتي لسكين الرقابة تحيا الكتابة تحيا الرقابة يحيا على فمي الحجر سفر.. سفر. وكان معين قرأ هذه القصيدة،المليئة بالايحاءات، خلال الاسبوع الثقافي الفلسطيني بلندن، والذي شارك فيه أيضا الراحل محمود درويش وسميح القاسم، ودغدغ بها مشاعر الجماهير وأيقظها وبث الحماس فيها . كما كتب ياسين رفاعية في حينه عن هذه الأمسية: " بيت من الشعر قادر على قيادة مظاهرة فلماذا لا يكون للشعر مثل هذا الدور في زمن تم فيه وأد المشاعر وخنق الطموح وتخدير الجماهير الى حد تنويمها تنويما مغناطيسيا : استيقظوا يستيقظون .. ناموا ينامون الا ان الشعر ما زال قادرا على أن يدمر التخدير ويوقظ النائمين من سباتهم الطويل ، وهذا ما فعله معين بسيسو في سهرة لندن .. فكان الفعل وكأنهم صورة أصيلة عن الجماهير في كل أنحاء الوطن العربي المليء بالخيبات المريرة". وتشاء الأقدار أن يموت معين بسيسو ويودع الحياة مرتحلا الى وطنه فلسطين، خلال مشاركته في هذه الأمسية وقراءته لقصيدته الأخيرة، التي ستظل تربط عشاق فلسطين في سموات أحلامهم وبين الأرض والوطن والحرية . وطوبى لمعين الذي تعمد بالقهر وتزنر بالعذاب وأبحر في عباب الزمن حاملا روحه على راحتيه،غازلا للوطن أجمل الملامح والروائع، مشاركا في نضال شعبه في سبيل الحرية والاستقلال ،هاتفا : هو الكفاح فخطي، يا مطارقه بقيد مضطهد تاريخ مضطهد ان كان قلبي خفاقا الى أمد قلب الجماهير خفاق بلا امد النشاط الثقافي والأدبي تحت الاحتلال
بعد النكسة وهزيمة حزيران عام 1967 بدأت بالتبلور في الأراضي الفلسطينية المحتلة حركة ثقافية جديدة مناهضة للاحتلال، استطاعت أن تشق دربها الى الجماهير بالموقف الواضح الملتزم والكلمة الوطنية الواعية والمضمون الكفاحي والنضالي .وقد نمت هذه الحركة وترعرعت واشتد عودها وشهدت انتعاشا ونهوضا واسعا في السبعينيات من القرن الماضي، من خلال الشعر والقصة والرواية،وصدور الصحف والمجلات الأدبية والفكرية والثقافية الفلسطينية، وتأسيس دور النشر الوطنية، وتوسيع دائرة المنشورات والمطبوعات والمجموعات القصصية والروائية والدراسات التراثية علاوة على انطلاق وانبعاث المؤسسات والجمعيات الثقافية (دائرة الملتقى الفكري وجمعية الدراسات العربية ، مثلا) وازدهار المسرح والفنون التشكيلية والغناء الوطني الملتزم، وتنظيم الفعاليات والأنشطة الأدبية والثقافية ومعارض الكتب والفن التشكيلي، واقامة الندوات الأدبية والثقافية والفنية . أما التتويج الجماهيري، فكان المهرجان الوطني الأول للأدب الفلسطيني في الأرض المحتلة المنعقد في القدس (15ـ 18 آب 1981). والواقع أن الحركة الثقافية الفلسطينية لعبت دورا نضاليا وكفاحيا هاما في مواجهة المحتل وفضح ممارساته القمعية، والتصدي للحصار وحواجز الطرق وحظر التجول، واستطاعت تعزيز وتكريس الشخصية الوطنية الفلسطينية عبر أدب نضالي وكفاحي مقاوم وملتزم امتاز بطابعه المتفاعل مع نبض الشارع والوجدان الفلسطيني والواقع المعيش تحت ربقة الاحتلال . ونتيجة لهذا الدور التعبوي قامت سلطات الاحتلال بتوجيه سهامها نحو المنتجين والمبدعين والناشطين الثقافيين الفلسطينيين . كذلك قامت باعتقال الكثير منهم ووضعهم تحت الاقامات الجبرية وابعاد البعض منهم خارج حدود الوطن، ونذكر من بين المعتقلين على سبيل المثال لا الحصر : جمال بنورة وخليل توما وعلي الخليلي ومحمود شقير وأسعد الأسعد واكرم هنية وعبد الناصر صالح ومحمد أيوب والمرحوم زكي العيلة وغريب عسقلاني وعصام بدر وعطا القيمري وسواهم. هذا بالاضافة الى مصادرة الكتب والمجلات واللوحات الفنية التشكيلية وشطب الكثير من الأشعار والقصص من الصحف والمجلات من قبل الرقابة العسكرية، ومنع معارض الكتب والرسم والندوات الأدبية والثقافية . وكل ذلك بهدف محاصرة وتطويق الوعي والثقافة الوطنية الفلسطينية التقدمية الملتزمة واغتيال فكر المقاومة وضرب الحركة الثقافية في الصميم، التي نما وتصاعد دورها الكفاحي والنضالي وشكلت دعامة أساسية من دعائم النضال الوطني التحرري الفلسطيني من أجل الإستقلال. وعندما انفجرت انتفاضة الحجر الفلسطيني أحدثت منعطفا حاسما وأساسيا في حاضر وواقع الثقافة الفلسطينية، وكان لها الدور الرئيسي في تغليب المصلحة العامة على الخلافات الهامشية داخل روابط واتحادات الكتاب والتشكيليين الفلسطينيين، وعلى تطور المضامين الابداعية وارساء سياسة ثقافية مضادة منحازة الى الجماهير والى مثل الحرية والديمقراطية والتقدم الاجتماعي، علاوة على تعبئة الناس وجماهير الشعب وحثها على الانخراط والمشاركة في الانتفاضة الشعبية ضد المحتل. وجاءت النتاجات الثقافية والأدبية الجديدة ابان الانتفاضة في ضوء الواقع السياسي العربي والفلسطيني الراهن واسلوب تعاطيه مع الانتفاضة ، وحقيقة موقفه منها ، ومن حركة الجماهير الفاعلة فيها ، ومن اهدافها وتأثيراتها المختلفة على الصعيدين الفلسطيني والعربي. وتشكل ما يسمى بـ "الأدب الانتفاضي" أو "أدب الحجارة" الذي أشاد بالانتفاضة ومجد الحجر وهتف للمقاتلين والمناضلين الفلسطينيين ، الذين كان سلاحهم الحجر والمقلاع في مواجهة الدبابة والرصاصة. وفي التسعينيات اعترى الوضع الثقافي الفلسطيني في الأرض المحتلة ضمور بارز نتيجة الأحداث والتغيرات التي طرات على الساحة العالمية والشرق اوسطية ، فتشتت النشاط الجماعي الفلسطيني وسادت الشللية وتراجع دور الجامعات والمؤسسات الثقافية الفلسطينية في العملية الثقافية الابداعية . وبعد اوسلو ومجيء السلطة الوطنية الفلسطينية نشأ واقع جديد تكرس فيه الادب السلطوي المؤسساتي ، واقيمت الدوائر والمؤسسات الثقافية الممولة من قبل السلطة، وانخرط الأدباء والكتاب الفلسطينيون في مؤسسات السلطة ودوائرها . ونتيجة ذلك طرأ تراجع وانحسار في ثقافة الالتزام وأدب الرفض والمقاومة، وتلاشت المؤسسات الثقافية الوطنية المستقلة، وتعطلت النشاطات الثقافية المختلفة، وتعمقت البيروقراطية الثقافية ، وسادت الخلافات والانشقاقات بين المنضوين تحت خيمة اتحاد الكتاب والادباء والصحافيين الفلسطينيين . زد على ذلك افول شمس الصحافة الادبية الفلسطينية وغياب المجلات الثقافية الشهرية ودور النشر الوطنية،التي تعنى بطباعة وتوزيع الكتاب المحلي الفلسطيني. وعلى ضوء ذلك هنالك حاجة وضرورة الى اعادة الوهج للكلمة الفلسطينية الحرة الواعية والمقاتلة، والاعتبار والأصالة والاحترام للثقافة الوطنية والتقدمية الفلسطينية وللأدب الفلسطيني الطليعي الصدامي المقاوم، الذي ينتصر للحياة والمستقبل والحرية وقضايا فقراء الوطن، بديلا للأدب السلطوي المؤسساتي الذي تبلور وازدهر بعد اوسلو. ايلول 2011 include ('facebookshare.php'); ?> |
® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com |