عودة الى أدب وفن

العتبة: أبعد من العوسج علّمنا ألا نساوم - هناء محاميد



سميح القاسم ومحمود درويش


أقلّب بعض الصور، في الألبوم القديم وفي هاتفي النقّال، ها هو منتصب القامة يتلو علينا الشعر في أمسية لإحياء ذكرى النكبة الفلسطينية، كنّا حينها طلابا جامعيين نسيرعلى إيقاع دروسه:

"يدك المرفوعة في وجه الظالم

راية جيل يمضي

وهو يهزّ الجيل القادم:

قاومتُ.. فقاوم!"

وها هو يقاوم أشرس الأمراض وأخبثها، ليحيا، في الصورة الثانية.

إلى أي مدى كنتِ واثقة بأن هذا الرجل الذي يمسك في قلبه وعقله المتوهجين أسرار البقاء، لن يفلت الحياة من سبحته، حتى اكتفيتِ في كل مرة التقيته بها بصورة تجمعكما على فنجان قهوة في مخيلتك فحسب!؟ أسأل اليوم نفسي أمام هذا الموت الأخرق، المتفاقم فينا، لمَ لا تملكين صورة ولو صورة واحدة مع الشاعر!

هل أقول إن سميح القاسم هو شاعر؟ أويجعل موت شاعر المرءَ يتيما!

أذكر نفسي قبل أن يكتمل عقدي الأول أغنّي: قلبي قمر أحمر، قلبي بستان، فيه فيه العوسج فيه الريحان.

ما هو العوسج؟ اكتسب كلمة جديدة في قاموسي الصغير، إذًا علّمني الشاعر كلمة، كلا إنّه معلم لما هو أبعد من الكلمة.

سميح القاسم وجيل آسر من شعراء المقاومة ولكن تحديدا هو وتوفيق زيّاد ومحمود درويش، علّمونا فلسفة لن يفهمها غير الفلسطيني، علّمونا ان الكفّ تنتصر على المخرز والجرح ينتصر على السكين، علّمونا ان ذات الكفّ تتسع لقصفة زيتون ليتسع الكتف في غمضة العين عينها لنعوشنا.

هؤلاء الشعراء كانوا بيننا، كانوا اخوة لبعضنا وآباء لبعضنا الآخر، رأيناهم في الجريدة وفي الاجتماع الشعبي وفي المظاهرة وفي السجن، وفي بيوتهم. هؤلاء هم أبناء بلدهم بكل ما يحمل التعبير من أفق، ولهذا أحببناهم.

ولهذا كفلسطينيين أحببنا سميح القاسم. ونشعر اليوم برحيل آخر قلاعنا الأدبية والفكرية الحصينة، بالخواء والفراغ والحسرة. ولا شيء يعوضنا عنه كما لم يعوضنا أي شيء عن فراق أحباّء آخرين سوى فتات الذكرى المنثور في هواجسنا، ذكرى تحمل قبضته على مسرح يجول بالشعر ويصول بحكايات بلادنا وأشجارها وأثمارها وأسمائها، ذكرى تنصبّ علينا كزيت الرّامة الأخضر الحرّاق المعصور للتو كلما حظينا -نحن القلائل هنا- بالمرور أمام قريته في جليل فلسطين، ذكرى تتحايل على ذاكرة الأجيال اليافعة التي فتحت عيونها على شرور العالم ودموية العقيدة المظلمة واله تُفتك العقول باسمه.

هل سنورِث تعاليمك أيّها الحيّ كما سنورِث ذكرياتنا الصغيرة بحضرتك؟! تقول أن إسمي كإسم أمّك، انتشي سرورا. تسألني ان أودّ التدخين، فآخذ سيجارة لا لأشعلها انما لأحفظها وديعة بين اشيائي. وتخبرني لماذا ترفضُ ان تظهرَ على الشاشة خلف ضبابة الدخان. تعلّق خنجرا وصورة لوالدك بالأبيض والأسود على حائط منزلك، وصورة أخرى لك تعوم ببحر الناس في اليرموك. وثالثة لك ولمحمود درويش تخفظها في اطار صغير، ربما ليضمّ شبابكما الهادر.. سمحتَ لي بتصوير الصورة وصورة اخرى تتقدّم مسيرة الى جانب إميل حبيبي وتوفيق طوبي وتوفيق زيّاد.. شكرا لك.

شكرا للحماسة التي غرَفْتَها من قلبك الوردة وزرعتَها فينا. أحاولُ تخيّلك الان وأنت تقرأ حماستك على منبرٍ في السبعينات:

"مهما طال الليل

نحن نُقصّر عمر الليل

فانهض فوق ركام الموت..

يا شعبي حيّ أنت !"

أتخيّلك الان، حتى في مماتك تصدحُ، الآن الآن وطائرات امريكا واسرائيل تقصف أعناق الأطفال في غزة، تصدحُ ملء الفضاء المتعب:

"يا عدوّ الشمس.. لكن.. لن أساوم

ولآخر نبض في عروقي.. سأقاوم".

28/8/2014






® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com