الخرزة الزرقاء | يوسف جمّال - يوسف جمّال


لولا الخرزة الزرقاء، لضاع كلّ ما كان بيني وبين هناء، والخرزة حلقة من قلادة ورثتها عن أمّي.

قالت يومها أمّي وهي تودِّع الدنيا: "خذ هذه الخرزة ستكون لك "حرزًا" يحميك من عثرات الدُّنيا، وعندما يرزقك ربُّنا بنت الحلال، لبِّسها لرفيقة عمرك".

ولم أعمل بنصيحة أمي، لبَّست القلادة لهناء بعد شهر من بداية حبّنا، وذلك لأني لم أتصوَّر حياتي بدونها. ولم أتخيَّل في أسوأ أحلامي، أن هناء ستغادر البلد، وتتركني أتقلّب في غصّات أحزاني.

تركتني هناء حبيبتي، وطارت إلى بلاد الغربة، رمت مشاعر حبّي خارج قلبها، وأبقت معها رسائلي وسنين عمري، وخرزة أمي الزرقاء.

رحلت لتنضمّ لابن عمّها، الذي يعيش في الولايات المتحدة، لتصبح زوجة له.

طارت دون سابق إنذار أو وداع.

هناء كانت حبّي الأوَّل.

ولم تمكث في أميركا سوى سنة واحدة.

تطلَّقت من زوجها وعادت إلى البلد.

***

بعد أيام من عودتها، فتحتُ موبايلي، فاصطدمت عيناي برسالتها النصية.

كتبتْ:

"أريد أن أراك لأمرٍ هام!".

فأصبت بصدمة عنيفة.. داهمتني الحيرة.

ماذا تريد منّي هناء!؟ بعد كلَّ ما فعلته بي!؟ بعد أن ضربتني بخنجر، أدمى جوارحي، وتركتني غارقًا في وحل قهري!؟

مسحت رسالتها، ورميت الموبايل بعيدًا عنّي.

ماذا تريد منّي هناء!؟

بقي السؤال يهاجمني، حتى لم أعد أقوى على مقاومته.

ومما زاد في عذابي، رسائلها النصيّة التي تقتحمني ليل نهار، كلَّها رجاء واستعطاف، تلحُّ عليَّ فيها أن أسمح لها بمقابلتي.

ولكني بقيت أتشبَّث بعنادي، مقاومًا كلَّ إلحاحات حبِّ استطلاعي ولهيب شوقي إليها.

حتى جاءت تلك الليلة، الليلة التي طرقت فيها هناء باب غرفتي.

كانت ليلة ليلاء لا تسمع فيها إلا فرقعات الرعود، وكشفات البرق وطقطقات المطر.

من يكون هذا الذي جاء ليطرق بابي، في هذه الليلة العاصفة!؟ تساءلت وأنا أخطو نحو باب الغرفة لأفتحه.

كانت هناء!

دخلتْ وهي تحمل كلَّ ما أمطرته السماء في ثيابها.. في يدها حقيبة مدرسيَّة من الجلد الأسود.

وضعتْ الحقيبة على طاولتي، وألقتْ بنفسها على كرسيٍّ بجانبها.

كان اللهاث يقطّع أنفساها، ونقاط المطر تتساقط بغزارة من ثيابها.

"في هذه الحقيبة كلَّ رسائلك وهداياك!".

استطاعت أن تغتصب كلمات، من بين لهثاها واصطكاك أسنانها، الذي سبَّبه البرد الشديد الذي أصابها، وبرودة ماء المطر التي تبللُّ ثيابها.

"وفيها أيضًا بضع كلمات كتَبتُها لك!".

أضافت وهي تمسح نقاط الماء عن وجهها المخطوف.

حاولت أن أناولها منديلًا، كي تمسح به سيْل الماء، الذي كان ينساب من شعرها على وجهها، فتجاهلت يدي الممدودة، وقامت من مكانها وغادرت غرفتي.

بعد صحوتي من التجمُّد الذي أصابني، وبعد أن خفَّ تأثير الصدمة التي عصفت بي، تناولت الحقيبة المبلّلة، مسحتها بالمنديل الذي أنساني ردّ فعل هناء وجوده بيدي، فتحتها وأفرغت كلّ ما فيها على الطاولة.

بحثت بينها بلهفة عن ورقتها، وعندما صارت بين يديّ، فتحتها وبدأت بقراءتها:

" منذ أربعة عقود وقبل أن نولد بسنين، كان جدك يمشي ليلًا في مزرعة بطيخ عمّي، فرماه الناطور بحجر كان يحتفظ به لمثل هذه الحالات، فأصاب رأسه فسال دمه. وعندما اقترب منه رأى هول المصيبة.

خلع عباءته ولفّ رأسه الدامي وحمله على كتفه، وسار به باتجاه البلد التي كانت تبعد عنه ثلاث كيلومترات.

كان يمشي وهو يصيح: "صمِّد يا عمّي حسين.! صمّد يا عمي حسين! لا تموت وتدِّبني بجريمة!".

وعندما وصل بيت عمي، ووضعه على مصطبة الديوان، كان قد "فات الفايت!" مات الرجل.

هذه الحادثة حدثت عندما كان أبي عازبًا، في العشرين من عمره.

رواها لي، لأوَّل مرة، بعد رجوعي من أميركا، مفسِّرًا مبررًّا عدم موافقته على الزواج منك.

لقد كان تارًا قديمًا بيننا - بين عائلتي السوالمة والمراعنة عائلتك.

مسؤولية الجريمة وقعت على كاهل عمّي، بصفته المشغِّل للناطور!".

وأكمل أبي قصته بعد توقُّف استعاد به أنفاسه:

"وتدخّلت "الواسطات"، وبذلت جهودها الخيّرة، وحُلَّت المشكلة بأن دفعت عائلة عمّي لعائلة الفقيد مبلغًا كبيرًا من المال.

ولكن الجريمة، بقيت محفورة على جبين كلِّ واحد وواحدة من عائلتنا، تتوارثها الأجيال، تطوف على السطح في مناسبات كثيرة، في نزاعات واختلافات قد تكثر أو تقِّلّ".

والأهم من ذلك توقفت المصاهرة بين العائلتين. فُرض قانون غير مكتوب، ولكنه نُفِّذ بدقَّة، ينص على أن الزواج المختلط بين العائلتين محظور.

والقليلون من أبناء العائلتين عرفوا السبب، ولكنهم تقيَّدوا بالقانون دون أن يهتموا بمعرفة أسبابه.

وأنا وأنت - يا أحمد - كنّا من ضحايّاه الكثيرون في هذه البلد.

رفض أبي زواجي منك، ورفض أبوك زواجنا".

قاومنا، قاتلنا بكينا صرخنا.

ولكننا ضربنا رؤوسنا بالحائط، ولم نصل إلى نتيجة.

أتذكر- يا أحمد - لقاءنا الأخير قلت لك يومها:

تعال لنهرب إلى مكان خارج البلد، أو حتى إلى خارج البلاد ونتزوَّج هناك!

ألححتُ..

ولكنّك رفضتَ الفكرة، واستبعدتها من أساسها.

فتركتكَ واليأس والغضب يجتاحان كيّاني.

وعندما وصلت إلى البيت، توجَّهت إلى ديوان أبي، ودون مقدِّمات أخبرته أنني موافقة على الزواج من ابن عمّي، الذي درس وتخرَّج من الجامعة ويسكن في الولايات المتحدة.

ابن عمي، الذي ينتظر جوابي، وجواب أبي على أحرّ من الجمر.

وبعد أسبوعين كنتُ في الطائرة، التي أقلَّتني إلى نيويورك.

وها أنا أعود إلى البلد، بعد أن قضيت سنة من المعاناة والعذاب والكراهية، بيني وبين ابن عمي..

خرجتُ - يا أحمد - من البلد عزباء، ورجعتُ إليها حاملة شهادة الطلاق.

***

بعد انتهيت من قراءة النص المكتوب على ورقتها، ألقيتها على الطاولة،

وغصت في بحر من التيه والحيرة واليأس.

وبعد أن أفقت من غيبوبتي تذكرت الخرزة الزرقة.

خرزة أمّي لم تكن في الحقيبة!

احتفظت به هناء!

بتُّ ليلتي أتقلَّب بين أمواج عاتية من الحيرة.

لماذا احتفظت هناء بالخرزة الزرقاء!؟ هل كيّ تُبقي على الحبل موصولًا بيننا!؟

أم لتحتفظ شيئًا منّي للذكرى!؟

سيل من الشوق والحنين اجتاحني، شعرت أن قوى جبّارة تشدُّني إليها..

تذكَّرت أن غيابها عنّي لم يغيِّب دخولها اليوميِّ إلى تفكيري، في أحلام ليلي وسهوات نهاري.

كنت أهرب منها فتعود اليَّ، أحاول نسيانها فأعجز.

***

بعد تفكير لساعات طوال قرَّرت أن أعمل..

تنفيذ خطَّتي التي استغرق منّي ساعات وأيام لتدبيرها.

قرَّرت أن أخوض المعركة.. معركة مملوءة بالمخاطر.. مغامرة قد تصل إلى حدِّ المقامرة.

معركتي هي معركة كلّ أهالي البلد.. معركة مع ميراث ماضيهم الكئيب.

كتبت دعوة لعقد قراني مع هناء. طبعتها بنسخ تكفي لتغطية بيوت القرية. وفي يوم الجمعة وقفت خارج المسجد، ووزعتها على المصلين جميعًا.

وزَّعتها دون علم هناء.. دون علم أحد من عائلتينا أو أقربائنا!

وحدَّدت الموعد.. الساعة الثالثة بعد الظهر، في ساحة وسط البلد

بعد الصلاة بساعة اتَّصلت هناء صارخة: أنت مجنون! أنت مجنون! وأغلقت الهاتف.

وأسرعت إلى الساحة.

بدأ المدعوون يتوافدون إلى الساحة، يلتفتون حولهم فلا يجدون علامات تدلُّ أنه، سيعقد قران في هذا المكان.

بدأ أصحاب البيوت والمحلات المحيطة بالساعة، يخرِجون كراسي بيوتهم ومحلاتهم، ويضعونها في الساحة، ويدعون الحاضرين للجلوس عليها، بدأت من البيوت القريبة ومن ثم الأبعد.

تكاثر أهل البلد في الساحة، الرجال والأولاد وبعدها النساء والبنات.

لم يبق أحد في بيته.

بينما كنت أقف في زاوية في الساحة يملأني الخوف والرعب.. وإذ بمجموعة من شباب البلد يتجمعون حولي.

أخذني الشباب إلى بيت من بيوتهم، أدخلوني الحمام، وكانت بدلة عريس تنتظرني، كان قد تبرَّع بها أحد أصحاب المحال، ألبسوني وقادوني إلى الساحة في زفة حماسية، لم تشهدها البلد من قبل.

والتقينا هناك بالصبايا اللواتي كنَّ يسرن في زفة هناء.. جهَّزنها لعقد القران كما فعل الشباب لي.

وبدأت الحفلة..

قام الكثيرون من أصحاب المحلات التجارية، "بإغراق" جمهور المتواجدين بالحلويات والمشروبات والفواكه.

قام بعض الرجال بتنظيم ميدان الحفلة، طلبوا من الجمهور إخلاء وسط الساحة، والوقوف أو الجلوس حولها.

وعندما خلا الميدان نزل، إليه أحمد الفارس بيرغوله، وسالم العيسى بطبلته، فتبعهم عدد من الشباب برقص عفويٍّ، وبدأوا يتكاثرون بسرعة حتى وصل عددهم إلى مئات.

ونزل سعيد الحداء إلى الميدان، وانطلق صوته ينادي كبار السن بالانتظام في دائرة حول الشباب، فبدأوا يكوِّنون صفًّا دائريًا حول الساحة. في البداية كان المستجيبون أفرادًا، فصاروا يتكاثرون، حتى لم يبقَ رجل واحد من البلد خارج الصف. وانطلقت أصواتهم تهزُّ أجواء البلد، يردِّون وراء الحادي أهازيج الحداء.

وقامت نساء وشابات البلد باقتطاع جزء من الساحة، وحوَّلنها إلى ميدان للرقص والغناء والمهاهاة.

"سحَبن" هناء إلى مركز الساحة، وبدأن بالرقص حولها يصاحبه غناء شعبيٌّ ومهاهاة وزغاريد.

كان عرسًا كبيرًا صافحت أغانيه الجبال المحيطة بالبلد.. غنّوا لجبل الخطاف للروحة للزيتون.

اتحدت أصواتهم ومشاعرهم وعيونهم.

انتشر الحماس على وجوه الحاضرين..

فانطلق صوت الحادي: "بلدنا قلعة محصَّنة.. محصَّنة برجالها".

فارتفعت أصواتهم من حناجرهم التي كادت تنفجر حماسًا، تردُّ عليه.

وغنّوا: "يا شمس طلّي من السَّما، على الأرض في عنا عريس".

وغنَّت بنات البلد للعروس:

ذهبها من حيفا، وبدلتها من عكا

والمناديل من بيسان، والحنا من يركا

عمها جاب البدلة، وعريسها جاب الشبكة

ان شاء الله تبكري بالصَّبي وتزوري مكة

وارتفع صوت من بين الجمهور:

اليوم نعبّر فيه عن ابتهاجنا بهذا العرس المبارك.. فتعالوا لنتوّج احتفالنا هذا بالفرح الكبير.. فرح صلح عائلتينا.

فتعانق الحاضرون من كلِّ الأفراد والعائلات.

فسالت دموعي..

واستمروا بالغناء.

عرعرة
عن الاتحاد
18/1/2022






® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com