|
عودة الى أدب وفن
عاشقة الليلك.. والمطر الأول! - فتحي فوراني
إنّ ما نعانيه، نحن – المجتمعات الاستهلاكيّة – ممّا يُنتجه العالم المتقدّم من أدوات تواصل تقنيّة متطوّرة بين البشر–هي عنده إنجاز علميّ، وهي عندنا موديل وموضة– يفتح أمامنا المجال أوسع وأعمق لمزيد من السّخافة اللّغويّة. وهذا الوباء القاتل، على كلّ صعيد سرعان ما تنتشر عدواه بيننا.
قرأت الديوان وأرتني الشاعرة كيف يرقص الليلك.. وأسمعتني كلمات ليست كالكلمات.. وأخذتني إلى عالم آخر.. زاخر بالمفردات العذبة.. والأحاسيس المرهفة.. والمشاعر الصادقة.. لقد ارتشفت من كأس مُدامها واستمتعت.. * أعترف بخطيئة الإبداع! لن أقوم بدور الناقد.. فقد آثرت أن ألعب دور الشاهد! سأحكي لكم حكاية طريفة.. أكشف فيها عن لحظة ميلاد الكلمة الشعرية.. "حين يُجنّ الحنين"! واسمحوا لي.. بدءًا.. أن أعترف أمامكم بالتهمة المنسوبة إليّ.. إني أعترف بالذنب الجميل الذي اقترفته.. إني أعترف بحصتي في ارتكاب الخطيئة.. خطيئة الإبداع! وأنا سعيد بهذا الاعتراف.. وقد يسأل سائل: وكيف كان ذلك يا أخا العرب؟ هات اشرح لنا.. شرح الله لك صدرك.. ورفع عنك وزرك.. الذي أنقض ظهرك! فيعتدل الراوي في جلسته.. ويتنحنح.. ويروح يروي: صباحَ مساء.. اعتدت أن أجلس في حديقة البيت التي تزيِّنها أحواض الحبق والزنبق.. والورد الجوري والياسمين.. هذه الحديقة هي مملكتي الصغيرة.. التي تمنحني الطمأنينة والسكينة.. فأرتاح فيها.. وأستمد منها الطاقة.. لمواجهة التحديات الحياتية.. ومصارعة همومها اليومية.. التي يضبط إيقاعها عصر العولمة.. في ساعات الفجر الأولى.. وذات صباح منعش.. تهُب نسمات باردة خفيفة.. أجلس مع الصحيفة التي رافقتها ورافقتني منذ الطفولة.. واعتدت لقاءها كل صباح.. وإلى جانبي قهوة الصباح ذات النكهة "العدنية".. يتصاعد من فنجانها بخار لولبي.. ويفوح منها عبق الهال الذي يملأ الصدر.. ويملأ الفضاء.. وينعش الروح.. كان هذا عام ألف وتسعمائة وواحد وتسعين من القرن الغارب.. * النظرة الأولى.. والابتسامة الأولى.. والموعد الأول.. والمطر الأول! أفتح الصفحة الأدبية.. فيقع النظر على كلمات يزينها عنوان لافت.. "حب ووطن وأغنية".. أتوقف عند مبدعة هذا النص الشعري.. وأشعر بشيء من الفرح.. أنا أعرفها وأحترمها.. إنها هي هي.. طالبتي التي تتخصص في فرع الفيزياء.. إنها المرة الأولى التي أقرأ فيها قصيدة لهذه البُنيّة.. ولم أعرف طالبة غيرها تتخصص في موضوع الفيزياء وغيره من المواضيع العلمية.. وتكتب شعرًا صاعدًا من حدائق الليلك الأدبية.. المرة الأولى.. لها مذاق خاص.. كغيرها من الأوليات.. القصة الأولى.. والطفلة الأولى.. والنظرة الأولى.. والابتسامة الأولى.. واللمسة الأولى.. والقبلة الأولى.. والموعد الأول.. واللقاء الأول.. والمطر الأول.. أنا الأرض العطشى.. لا تحرميني المطر! ويعصف في وجداني الفضول وحب الاستطلاع.. لاكتشاف دنيا شعرية مجهولة.. لم أعرفها من قبل.. لقد أعجبتني الكلمات.. وعزفت على الوتر الحساس.. الذي دغدغ ذائقتي الشعرية! الارتشاف من فنجان القهوة الصباحية.. وقراءة القصيدة عن الحب والوطن والأغنية.. وعطر الرياحين والياسمين.. ثلاثة أقانيم تتآلف وتتناغم لتبدع سمفونية تسمو بالروح إلى السماء.. * المعلم الممثل.. عنصر الإثارة والتشويق.. ومتعة الاكتشاف! أحمل حقيبتي المدرسية.. وأذهب إلى الكلية.. للانخراط في الورشة الحضارية.. وتأدية الرسالة التربوية.. أدخل إلى الصف الذي تتعلم فيه البُنيّة.. نعيش نصف ساعة مع جميل بثينة في قصيدة عذرية.. فللرجل صولات وجولات.. في هذه المجالات.. ثم أتوقف لحظة.. وأعتمر قبعة التمثيل.. وألعب دور الممثل.. فمن المواهب التي يتمتع بها المعلم المعلم أن يكون ممثِّلًا كما لا يخفى عليكم! وأزفّ للطلاب بشرى سارّة تعزف على أوتار الفرح.. - من مدينة الضباب.. لندن.. جاءتني هذا الصباح قصيدة أرسلتها لي شاعرة فلسطينية.. طلبت مني أن أهديها إليكم وألقيها عليكم.. لن أكشف لكم اسم الشاعرة.. ولا أريد أن أحرمكم من متعة الاكتشاف.. سأترك الأمر إلى النهاية.. وأرجو أن تكونوا كلكم آذانًا مُصغية.. أريد أن أسمع رنّة الإبرة.. وأروح ألقي القصيدة بما يليق بها من الإلقاء.. وبكل ما أوتيتُ من القدرة على التمثيل.. * حب ووطن وأغنية بيني وبينك حب ووطن وأغنيّة والليل بعينيك يَحيك أحجيّة بيني وبينك نغم طوته سطور منسيّة نغم عذب خضّب شمس الحريّة رسمه الفجر حبًّا وردًا وطنًا وأغنية ** بيني وبينك حلم.. ووطن.. وأغنية والليل بعينيك.. ما زال يَحيك أحجيّة ** بيني وبينك حب.. وطن.. وأغنية وأنت حبيبي ** ينفعل الطلاب.. تتهلل أساريرهم.. ويطغى الفرح على وجوههم.. وألمح بريقًا حائرًا يتراقص في عيني البُنيّة.. إنها تعرف هذه القصيدة.. وهي التي أبدعتها وشكّلت ألوانها وبريشتها رسمت ملامحها.. وترتسم في عينيها الدهشة.. ويخيم الضباب.. وتطل علامات التعجب.. وعلامات الانفعال.. وعلامات السؤال.. "كيف وصلت القصيدة من عاصمة الضباب إلى عروس الكرمل"!؟ تتساءل في سرّها البُنيّة.. ويبقى السؤال معلقًا على مشارف الدهشة! * في حقيبتي مليون دولار خرجت لتوها من الطابون! ويطيب لي أن ألجأ إلى الدعابة.. فأواصل مسيرة التمثيل.. حتى يكتمل المشهد.. وتكتمل خيوط المؤامرة الجميلة.. أتوجه إلى الطلاب متحديًا: - في حقيبتي مليون دولار خرجت لتوّها من الطابون.. وهي لكم إذا عرفتم من هي الشاعرة.. تقوم الهيصة.. وتنتصب الغابة.. غابة الأصابع.. وتتطاير في الهواء أسماء الشاعرات.. فدوى طوقان.. سلمى خضراء الجيوسي.. سعاد الصباح.. ونازك الملائكة.. وسعاد قرمان.. وتختلط أسماء البلدان.. وتطيش السهام.. ولا تبلغ المرام.. ويقول الراوي: لا هذي.. ولا تيكم.. ولا تلكم.. أيها الأحبة.. فالشاعرة هنا.. تجلس بيننا.. إنها بنت صفكم.. وأشير إلى الطالبة الخجولة.. مبدعة القصيدة.. حنان.. التي تفيض حنانًا وحياء وتواضعًا ورقّة! فتشتعل الغرفة بالتصفيق! ويكون العرس عرسًا! * لكم أن تفخروا بها.. ولنا أن نفتح الشرفات أمامها! ويتابع الراوي: أعلن لكم عن ميلاد شاعرة.. لكم أن تفخروا أن الشاعرة ابنةُ صفكم.. ومن بينكم.. ولنا أن نفتح الشرفات.. ونأخذ بيد العصفورة.. ونكسوها أجنحة.. ونطلقها في سماء الإبداع! ** وصرت كلما قرأت قصيدة لحنان.. رفعت سماعة التلفون.. وسكبت فيها كلمات حريرية.. لقد أحسنتِ وأبدعت وأطربت.. يا حنان! أرى أن تجمعي هذه النصوص الشعرية وتصدريها في ديوان! وألحّ عليها بضرورة إصدار ديوان يحتضن هذه الكلمات الجميلة.. ويأتيني الجواب دائمًا: إن شاء الله أستاذي الغالي!.. إن شاء الله.. إلى أن كان يوم.. وشاء الله.. وتحققت مشيئتي! * لقد أزهر الربيع.. وكان الديوان الأول! ففي الأمسيّة الأدبية التي عُقدت في ملتقى "بادية" الكرمل والتي جمعت الشاعرة مع الفنان كميل ضو.. التقى "الحرف واللون".. والتقت الكلمة الشعرية مع قوس قزح.. فاتحدا في رقصة سولو.. وأضيئت الشموع.. فتألق الليل على رأس الكرمل.. يجلس الدكتور فهد أبو خضرة.. رئيس تحرير مجلة "مواقف".. ويصغي إلى الشاعرة الواعدة.. تنساب الكلمات الناعمة.. ليعبق شذاها ويغمر جو الأمسية الثقافية.. وما إن تنتهي البُنية من إلقاء القصيدة.. حتى يقف الدكتور معلنًا ومبشرًا بإصدار ديوان لحنان.. سيصدر قريبًا.. هكذا خبطًا لزقًا وبلا شور أو دستور.. وتكاد حنان تطير فرحًا.. وأقول في سري: لقد تحقق ما كنت أرجو أن يتحقق.. لقد أزهر الربيع.. ولم يذهب الإلحاح سدى.. لقد جُنّ جنون الحنين.. وكان المولود الأول.. وكان الديوان الأول! * نبع حاتمي العطاء! وليس غريبًا علينا أن يتدفق من بيت الخوري نبع شعري حاتمي العطاء.. فقد كان جدها أبو فراس.. حنا فارس مخول شاعرًا! وكان عمها أبو جبران.. سليم خوري أديبًا! وكان خال والدتها منيب مخول شاعرًا! أما تاج رأسها.. الأستاذ جريس خوري (أبو أيمن).. فعاشق للغة العربية.. وفي عرينه الثقافي يحتل "ديوان العرب" مركز الصدارة.. من هذا الديوان تخرجت حنان عاشقةً للغة القومية.. فبورك الأجداد والأعمام والأخوال.. وبورك تاج رأسها.. وبوركت ينابيع الأدب الثرّة.. وما دام الشيء بالشيء يذكر.. فهل سمعتم عن الخوري جبران.. خوري المسلمين والمسيحيين في قرية البروة؟ * خوري البروة.. خوري الإسلام! هل سمعتم بجبران الخوري.. خوري الإسلام؟ إنه أبو سليم خوري.. خوري البروة.. الزمان: عام 1931 والمكان: قرية البروة.. كان جبران الخوري جمّالًا.. وكان مثقفًا بالفطرة.. كان الرجلَ بين الرجال.. وكان زينة الرجال.. وكان حصيفًا فصيحًا ذا طيبة ومهابة.. لهذا.. فقد أحبه جميع أهل البلد. ذهب وفد من أهل القرية، مسلمين ومسيحيين، إلى بطريارك الروم الأرثوذكس دميانوس في زهرة المدائن.. وعلى رأس الوفد الجمّال جبران الخوري أبو سليم. حمل الوفد مضبطة (عريضة) وقع عليها المسلمون والمسيحيون تطالب بتعيين أبو سليم ليكون "خوري البروة"! واستولت على البطريارك دميانوس الدهشة.. وانتصبت الأسئلة وعلامات التعجب.. وكثر لغط البطانة حول البطريارك! ماذا يفعل المسلمون في مثل هذا الوفد الذي جاء لقضية تخصّ الطائفة المسيحية؟ وكان جواب أهل البروة المسلمين: نحن نريده أن يكون خوري المسلمين قبل أن يكون خوري المسيحيين.. نريده أن يكون خوري جميع أهل القرية! وهكذا أصبح أبو سليم.. خوري إسلام! ** إن الخوري جبران.. جدُّ شاعرتنا الواعدة.. الواعدة فعلا! سقى الله أيامك أيها الخوري الأصيل والنبيل.. خوري المسلمين والمسيحيين! أين أنت اليوم من مخلوقات آخر زمان.. مبدعي "القومية المسيحية".. المتمسحة باللون الأزرق والأبيض!؟ أين أنت؟ إن الأرض تميد من تحت أقدامنا.. إن الخوري جبران.. خوري المسلمين والمسيحيين.. يتململ في قبره.. * من أرسل هذه الحديقة الليلكية؟ أنا أعرف.. ولن أبوح بسره! ما علينا! لننتقل من البروة وطن محمود درويش.. إلى زهرة المدائن.. في زهرة المدائن.. تغذّ البُنيّة الخُطى نحو العنوان الجديد.. في دير مار يوسف! تقترب من عتبة الغرفة الجديدة.. فتتوقف وتفغر فاها مشدوهة! على العتبة تنتظرها باقة ورد ليلكية! هل تعرفين يا حنان.. من أرسل لك حديقة العشق.. لتصلي في محرابك وتركع على عتبة دارك؟ حتى اليوم لا تعرف حنان سر العشق الليلكي.. وسر العاشق المجهول.. وما زالت علامات السؤال.. تحتل أحلام العشاق.. لم يتصل الغريب.. وبقي غائبًا مجهولا! من أرسل هذه الحديقة الليلكية.. واختفى خلف الضباب؟ لا شك أنه عاشق من أصدقاء جميل بثينة وقيس بن الملوح وباقي أعضاء نادي العشاق العذريين.. أما أنا فقد عرفته.. ولن أبوح بسره! لن أبوح بسره!.. فقد وعدته أن لا أبوح! * من دمشق.. إلى بيروت.. إلى جبل النار.. إلى جسر يربط بين قمتين! أمسِ مساء.. وصلني ملف الشاعرة مزنّرًا بشريط قرمزي ذهبي.. أفتح الملف فتتكشف أمامي حكاية الينابيع التي تنهل منها حنان.. والتي تزينها كوكبة من فرسان الكلمة الشعرية.. وأقرأ ما يلي: تمتطي حنان بساط الريح.. وتحلق عاليًا في سماء دمشق الفيحاء.. وتحل ضيفة على نزار قباني.. فتقطف من حديقته الدمشقية وردة جورية حمراء.. وتزرعها في شعرها الأسود.. ثم تطير إلى وطن الأرز.. ويكون في انتظارها في مطار بيروت جبران خليل جبران.. فيعانقها ويطبع على جبينها قبلة.. وتقدم له حنان ديوانها "حين يُجن الحنين".. ويقدم لها "مجنونه".. وحديقة النبي! ثم تمتطي حصانًا أبيض ذا أجنحة خضراء.. وتطير إلى جبل النار.. وتحط في حديقة فدوى طوقان.. تهديها فدوى "أعطنا حبًّا".. ويشربان معًا عصير البرتقال.. ثم تصعد جبلا يشرف على جبل.. وتقف على رأس الجسر الذي يربط بين القمتين سميح القاسم ومحمود درويش.. تتنفس الصعداء.. وتكتب في دفترها الأزرق بخط أخضر: لقد وصلتُ القمة! * إني أراهن على هذه البُنيّة! لقد قرأت الديوان.. وأرتني الشاعرة كيف يرقص الليلك.. وأسمعتني كلمات ليست كالكلمات.. وأخذتني إلى عالم آخر.. زاخر بالمفردات العذبة.. والأحاسيس المرهفة.. والمشاعر الصادقة.. لقد ارتشفت من كأس مُدامها واستمتعت.. إني أراهن على هذه البُنيّة! إني أراهن على هذه البُنيّة! أيها الأحبة! المعذرة إذا كانت كلمتي طويلة.. فلم يكن لدي الوقت الكافي لكتابة كلمة قصيرة! (الكلمة التي ألقاها الكاتب في أمسية أدبية أقامها "نادي حيفا الثقافي" في حيفا بتاريخ 27-3-2014 احتفاء بصدور الديوان الأول للشاعرة الواعدة) عن موقع الجبهة جريدة الأتحاد - حيفا 12/4/2014 include ('facebookshare.php'); ?> |
® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com |