عودة الى أدب وفن

غربُ الديمقراطيات، وشرقُ الثروات… في مواجهة الثورات - إبراهيم نصر الله


هل علينا، ككتاب، أن نؤكد باستمرار موقفنا من الثورات العربية التي انطلقت في العقد الأخير؟ أظن أن الجواب واضح: علينا ذلك؟ لكن هذا الجواب لا يأتي دائماً عبر مقالات، بل يأتي عبر حوارات، مكتوبة أو مصورة، ومحاضرات، وعبر مواقف وكتابات أدبية إذا ما استطعنا إليها سبيلاً.

ما زلت أردّد ما قلته في بداية هذه الثورات: لشعوبنا العربية، وشعوب العالم أيضاً، الحق، كل الحق، في الثورة على كل طاغية أتى للحكم، سواء كان ذلك باسم العسكر أو باسم الدين أو باسم العلمانية.

لكن ما أثبتته السنوات الماضية، أن زيف غرب الديمقراطيات وعتمة شرق الثروات، على استعداد دائماً لوأد الثورات، لأنهم لا يريدون لنا غير الحكام الطغاة.

يتأمّل المرء اليوم حال ثورة الجزائر وحال ثورة السودان، ولعل من يملك عينين، يمكن أن يرى، ولا نقول يملك ضميراً، كيف تتقاطر فيالق أعداء الحرية للقضاء على الثورتين الكبيرتين، السِّلميتين، اللتين تحلّتا بأبهى المظاهر الحضارية، كما تحلَّت ثورات عظيمة قبلهما، كي لا تراق قطرة دم واحدة؛ كيف تتقاطر هذه الفيالق المتطلعة، لحماية نظام البشير المطلوب رأسه كمجرم حرب.

في الحقيقة، هم لا يريدون لنا حكاماً غير مجرمي الحروب.

كل ما تقوم به هذه الفيالق، بعسكرها وثرواتها وعهر سياسييها، أن تقصف أعمار الثورتين الباسلتين، بإطالة أعمار أولئك الحكام، وأنظمة الظل التي تركوها خلفهم، وهم يفرّون؛ فتارة نرى هذه الفيالق تدعم من تبقى من مجرمين، بوجوههم السافرة أو المستترة، وتارة تتحايل لمنحهم مزيداً من الوقت، فلعل ليلاً آخر يأتي، وشياطين أخرى تتسلل في ثياب الملائكة لالتهام الثائرين وأحلامهم.

كل مَن سعوا إلى كسب الوقت، بكل الحجج، كانوا وما زالوا يطلقون النار على الثائرين، حتى وإن لم نرَ بنادقهم، وما المحرقة التي قامت بها قوات النظام في السودان إلّا مشهد من مشاهد فقدان هذا النظام لصبره، وفقدان من يدعمونه في عواصم النفط، وعواصم السخط، صبرهم. ولعل المفارقة الدائمة أن سلاطين الثروات الذين بدّدوا أموال شعوبهم في كل مناسبة أتيحت لهم، أو استعانوا بمن يرشدهم لذلك، من شياطين الكون؛ لعل المفارقة أنهم هم من بخلوا على بلدان عربية لكي تجوّع أو تجوع ببعض ثرواتهم، وهم أنفسهم المستعدون لإنفاق البلايين كي لا ترى هذه الشعوب الشمس، مرة بتجويعها، ومرة بقهرها كلما ثارت على جوعها من أجل الكرامة.

لا ضرورة لأن ينتمي المرء لفئة العباقرة كي يدرك أن قمع الثورات العربية كان أوسع حرب شنت على شعوبنا لنصرة عدو صهيوني عنصري.

لقد تم تحويل جيوش الأنظمة وثروات داعميها إلى فيالق تبطش بأرواح ومستقبل ومصير شعوبنا العربية، نيابة عن القوات الصهيونية. وبات هذا الترويض الممنهج، قتلاً وترعيباً، هو الشبح الأكثر سواداً من الأشباح التي تطوف شوارعنا ومياديننا في كل مكان، كي تحرمنا من ذلك الحلم الأبهى: الحق في الحرية، والحق في الأمل، والحق في أن نكون جزءاً من عالم محترم، الحق في أن نكون بشراً.

ثمة جريمة ثلاثية الأبعاد ارتكبها ويرتكبها سلاطين الثروات في عالمنا العربي، ضد كل شعب ثار؛ الجريمة الأولى هي إجهاض هذه الثورات، وسحق أبنائها بالدبابات، أو رميهم في النار، أو السجون، أو محاكمتهم؛ كما لو أن أنبل الناس هؤلاء هم المجرمون! وكانت الجريمة الثانية هي التحالف مع الصهيونية، بتسارع كبير، كما لو أنها هي التي ستحميهم وتحفظ وجودهم، وبهذا شن هؤلاء المطبعون الزاحفون الحربَ على كل الشعوب العربية وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني، الذي لم ينقصه وجود الأعداء، ليتبرعوا هم بأن يكونوا أعداء إضافيين له. أما الجريمة الثالثة، فهي قيام سلاطين الثروات ببيع أوطانهم، ومصائر شعوبهم بتحالفهم مع الصهيونية، معتقدين، وهمًا، أنها ستكون شريكتهم في التطور (بالطبع ليس هناك سوى تطوير أجهزة القمع، والتجسس على شعوبهم)، وشريكتهم في مستقبل أفضل! كل ما فعلوه من أجله (المستقبل) أنهم عملوا كل ما استطاعوا لتحويل بلادهم إلى بلاد مرتهنة، حين قتلوا كل وعي فيها، وجرّدوها من كل نسمة حرية وتقدّم أصيل، هؤلاء الذين يتعاموا عن رؤية الطريقة التي دمَّرتْ بها معاهدات السلام كل من وقّعها، عربياً وفلسطينياً.

كل ثورة هزمها هؤلاء ومن يدعمونهم كانت جريمة حرب لا تقل بشاعة عن جرائم الحرب التي شنها الطغاة على شعوبهم منذ أن ثارت تلك الشعوب على الاستعمار القديم. كل ثورة هُزمت كانت هزيمتها دعماً مباشراً للصهيونية وسَحقاً لفلسطين، وأحلامها بالحرية، التي لم تخبُ طوال مئة عام.

مخطئ كل من يعتقد من هؤلاء أنه أقوى وأصلب وأذكى من الطغاة التي كنَسَتْهم شعوبهم، ومزقت أجساد كثير منهم في الشوارع. حتى أكبر الفاشيات والعنصريات والاستبدادات الكبرى التي اجتاحت الأخضر واليابس في جهات الأرض الأربع، هُزمت ولم يبق سوى آثار اللعنات التي تُغطي تراب قبور ولاة أمرها، إن بقي لقبورهم أثر.

وبعد:

في أحد الأفلام، تقول والدة الشاب الذي قُتِل، للمرأة التي تورّطت في قتله، ولكنها احتمت بقوة نفوذها للنجاة:

النفوذ أسوأ أنواع الإدمان، لأن المُدمنين على النفوذ لا يستطيعون التنبؤ أبدًا بلحظة سقوطهم.

عن القدس العربي
12/6/2019






® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com