عودة الى أدب وفن

الكتابة الرّمادية - بروين حبيب


بعد أن أصبح كل من هب ودب كاتبا، ماذا بقي من الأدب اليوم؟ وأين مكان الأديب، وسط هذه الغوغاء والزحام لأطفال ومراهقين ومتطفلين على الكتابة؟

هذه الكائنات الورقية التي تخرج من المطابع وهي تحمل أسماء لأشخاص من مختلف الأعمار ماذا نسميها؟ كتبا أم منشورات لأصحابها؟

هل تهلهلت معاني المصطلحات التي نعرفها؟

وأين موقع الكتاب الحقيقيين وسط هذه الغيوم المؤقتة التي تحجبهم عن الرؤية، أين هم تحت سطوة الكُتَّاب الرماديين الذين يكتبون في كل شيء ويقفون مثل جحافل جيوش مستنفرة ليستولوا على اهتمام وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي؟

من حق الطفل أن يكتب تجربته، ومن حق المراهق أيضا أن يفعل ذلك، كوننا مجتمعات لا تصغي لأطفالها ومراهقيها، فعسى ما تخفيه تلك المنشورات يجعلنا نتقارب ونفهم بعضنا بعضا.

من حق التافه أيضا أن يكتب، ولكن من حقنا أيضا أن نكون صرحاء معه، فحتى ثمار الشجرة الواحدة أحيانا فيها الفاسد والجيد، ودورنا في انتقاء الجيد واجب.

وأعتقد أن المبادرة النقدية لدينا ارتبطت دوما بمعطيات عاطفية ملتبسة، فنحن نصفق للجميع مخافة أن نغضب أحدا، ومع هذا ننتقد ونسخر ممن نريد بعيدا عن أسماعه، نفعل ذلك – كما يبدو لي – من باب أن نثبت أننا «عارفون بالأمر لكننا مررناه» مع أن كلا الفعلين لا يجوزان أدبيا.

هل كل ما يكتبه الطفل لا يرقى لمستوى النشر لذلك وجب حظره؟ أم أنه يستحق التشجيع إن رغب في ذلك، كون الطفل لا يذهب لأمر بدون رغبة عميقة وصادقة منه، وكونه أيضا يخاطب الكبار والصغار بكتابته، الشيء الذي لا يضعه الكتاب الكبار في الحسبان، إذ أنّهم في الغالب يخاطبون قراء من مستواهم نفسه، أو في دائرة التلقي المحصورة في محيط قدراتهم الإدراكية لفهم شيفرة اللغة التي صيغت بها أعمالهم.

الحقيقة الصادمة التي لا نعرفها في مجتمعاتنا العربية هو أن الطفل يكتب أكثر من غيره، وفي عمره المبكر بين الثامنة والرابعة عشرة يكون إيمانه بالأدب وبالكتابة أقوى من أي شخص آخر في عمر أكبر. فيبدأ بالكتابة ولكنّ التلصص على خصوصياته يجعله سريعا يكتشف خطورة الكتابة، وهنا يقف أمام خيارين، فإمّا أن يشُقَّ طريقه مغامرا، أو يتراجع، ولهذا السبب بعض المواهب التي تعاني من الخجل تنطفئ أو تمارس هوايتها في الظل.

لعلّنا هنا سندرك أننا مجتمعات لا تعرف معنى «الرعاية» ..!

مع أنّنا في أغلب سلوكنا، رعاة ورعايا، وقد نلعب الدورين في الوقت نفسه، لكن مفهوم الرِّعاية عندنا مرتبط بعلف الرعية جسديا لا فكريا، ولهذا كثيرا ما نستعمل كلمة « قطعان» لوصف شعوبنا، دون خجل أو شعور بالخزي.

يكتب المراهق أيضا ما يزعجه، وهذه الفئة العمرية هي الأخطر على الإطلاق، وهي التي تستلزم الكثير من الاهتمام والرعاية، وما نسمعه حول صعوبة الكتابة للأطفال لا تضاهيه الصعوبة الحقيقية للكتابة للمراهقين، الفئة الأكثر جنونا، إن ووجهت بالقمع، تحوّلت مكبوتاتها إلى سلوك غير متوقع، يختلف في درجة قوته حسب البيئة البديلة التي تحضنه، إذ هناك دوما بيئة حاضنة وأخرى بديلة هي التي تصنع مستقبله إن غابت الرعاية الصحيحة له على المستويات كلها.

نتحدث هنا عن الرِّعاية النوعية لأي إنتاج يصدر عن هذه الفئة العمرية، فليس كل نص قابل للنشر، حتى وإن كان يحمل في طيّاته الكثير من المعطيات والأدلّة، لهذا فأية خطوة مفرغة من تقييمه هي خطوة غير مدروسة، بالتالي قد تكون مجرّد عثرة أخرى تضاف لعثراتنا.

الذي حدث في خضم هذا الانفتاح الإلكتروني هو الاندفاع الجماعي نحو الأبواب والمداخل، الكل يريد أن يخرج من الأنفاق المظلمة التي عشنا فيها، وهذا جزء من الفوضى التي تعوّدنا عليها، في غياب مفهوم واضح للنظام بالمفهوم الصحيح للكلمة.

هذه الفوضى نفسها تسيطر على مشهدنا الثقافي اليوم، بكم هائل من الكُتّاب الرّماديين، الذين لا لون محددا لهم، هم يكتبون في كل شيء، ويعتقدون أنهم شعراء تارة وروائيين أخرى، وبثقة مبالغ فيها يحصلون على ألقاب فخمة، تصنفهم بسهولة ضمن قائمة الكتاب الكبار…!

وهذا حين يحدث فهو السبب في هذا الزحام الذي ملأ فضاءنا الأدبي، فالجمـــيع استسهل الكتابة ومارسها، وحتى لا نوصف أننا « قمعيون» و« رجعيون» باركـــنا الجمــيع، بحجــــة التشجيــــع مرة، ومرات بحجـــج أخرى، ذكرت بعضها فيما سبق، وأهمها « الصمت» تفاديا لاكتساب أعداء بالمجان.

يبقى السؤال الآن، هل هذه « الكتابة الرّمادية» ستستمر طويلا؟

كونها بدأت مع تشجيعنا الأعمى للأطفال والمراهقين وأشباه المراهقين لنشر كل ما يعتقدونه أدبا، ثم استمرّت حين اعتبرنا استحسان الذوق الشعبي العام لأي قصة مقياسا أدبيا تربع بسببه مؤلفون على عرش مملكة الأدب.

الفصل بين الكتابة التصويرية والكتابة التي تنتج كائنا لغويا جميلا أصبح ضرورة، فالكتابة كما توضح لنا ليست نفسها في السياقين، وحتى لا نزج بالأديب في سجن يضيّق عليه الخناق وسط زحام أنواع من الكتاب والمؤلفين، علينا أن ننصفه، بالوقوف وقفة جادة أمام ما يكتب اليوم، وهذا يعني بالمختصر أن نلتزم أمام ما يُكتب لأن الأدب مسؤولية قبل كل شيء.

فالكتابة الأدبية هي التي تكشف خبايا النفس أكثر من غيرها، إنّها تحفر في العمق، ولا تمر على الأسطح البارزة مرور الكرام، صحيح أنها تهتم برصد الخارج، لكنّها وحدها تُظهِر قدرة الكاتب على أن يكون نفسه والآخر، لهذا نشعر بحياة كاملة من خلال قراءتها، حياة تستمد مضمونها من الكلمات، ولكنّها تفوق الكلمات حين ندخل معها في علاقة اكتشاف يحرّك المشاعر وأمواج العقل، فنبحر حيث أراد بنا الكاتب أن نصل، حتى أننا في كثير من المرّات نضيع بين أفراد الحكاية، وأماكنها وطقوسها…

وكأن الأمر حقيقي جدا، وهذا ما يرقى بنص عن نص آخر، ويفصل بين كاتب وآخر.

والآن بين أكوام الكتب التي تطبع وتُرَصُّ أمامنا كالمتاريس، كيف نجد النص الجيد؟ وننقذ أنفسنا من الوقوع في شباك كُتّاب يعيشون نزوة الكتابة وسريعا ما ينطفئون؟

إن كانت المطابع لا تفرّق بين الحرف الجيد والحرف المغدور، فعلى المثقف الحقيقي أن يسترجع دوره، ويقف وقفة حازمة أمام ما يملأ السوق اليوم من بضاعة حطّت من قيمة الكتاب عموما.

لا بأس من نشر نصوص للأطفال لكن بعد إعطائها روحا أدبية، ولا بأس أن ننشر لمراهقين بدعمهم للاشتغال أكثر على روح النص ومستوى لغتهم، إذ أن كل شيء ممكن اليوم، وهذه الفئة بالذات، فئة تستجيب للتوجيه لأنها تنطلق من رغبة حقيقية للنجاح، بقيت فئة المتطفلين التي تلوث فضاء الأدب، فهذه لا علاج لها سوى الكيّ بنار النقد، وإعادتها للحظيرة التي خرجت منها بالغلط، خلال لحظة إهمال.

شاعرة وإعلامية من البحرين
عن القدس العربي
9/7/2018







® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com