عودة الى أدب وفن

النهايات السعيدة للجُمل الموسيقية العربية - عناية جابر


في نتاج عبد الوهاب الموسيقي، معزوفات ناهزت الخمسين معزوفة


الإحاطة بكل المسار الموسيقي والغنائي لعبد الوهاب، قد تتسع له غير هذه الزاوية العجلى، سوى أنه التذكير الدائم فحسب، بالرقّة والجمال وبما ألهتنا عنه حياتنا العربية البائسة على الصُعد كافة.

ليس عليك أن تكون مصرياً، لتغرق في حبّ الغناء المصري وحبّ كبار مطربيه ومطرباته. ثمة عناصر وأسباب لابدّ لهذا الشغف، أوّلها ما تلقفته من هذا الفن في طفولتك وصباك، أي ما تسنى لك سماعه وأنت في طراوة عمرك، من محيطك البيتي ومن أقرب الناس إليك، أهلك أعني: والدك، والدتك مروراً بالمقرّبين كأعمامك وأخوالك وعماتك وخالاتك. هذا ليس تعميماً بالضرورة، لكنني خبرتهُ على صعيد شخصي، كيف لا وقد كنت في السادسة من عمري لم أزل، وإذ يحدث أن أتأخر لدقائق عن موعد عودتي من المدرسة، يبادرني والدي لدى وصولي الى البيت، ليس على غرار الآباء: " لماذا تأخرت ؟" بل بالتساؤل الغنائي لصوته الشهي، وبالصياغة الألطف والأرّق والأكثر حناناً، ودائماً مع بداية هذا المطلع لأغنية محمد عبد الوهاب: "طال إنتظاري لوحدي والبُعد عنك أليم؟؟ فأعرف أيّ والد هو والدي، وأي غناء عظيم رفدنا به محمد عبد الوهاب.

محمد عبد الوهاب وقد سكنني صوته منذ الطفولة، ومناسبة الحديث عنه هنا، الإحتفاليات التي كنت حضرتها في مصر تخليداً لذكراه، ضمن مهرجان الموسيقى العربية في أغلب دوراته في دار الأوبرا المصرية.

محمد عبد الوهاب كان موسيقياً في المقام الأول، قبل أن يكون مطرباً أول. ففي نتاج عبد الوهاب الموسيقي، معزوفات ناهزت الخمسين معزوفة، بالإضافة الى الكثير من المقدمات الطويلة للأغاني. في أعمال الموسيقار الكبير نلحظ خطين كان يحرص على الإعتناء بهما: خط الموسيقى المتأتية من الفكر والتأمل، وخط الموسيقى النابعة رأساً من الغريزة الفنية والعاطفية، فبعض ألحانه – كما صرّح يوماً عبد الوهاب نفسه – إكتمل في فكره وخياله قبل أن يلمس العود، وبعضها كان كان يحضره في أثناء مداعبته للعود.

لا أستطيع التكهن بمدى نجاح أوبريت عاشق الروح التي قُدّمت لتكريم محمد عبد الوهاب في إحدى دورات المهرجان ذلك أنني لم أكن حاضرة وبالتالي لم تتسنى لي، سوى أنها على العموم تحكي مشاهد من مشواره الفنيّ، وبحسب الأصداء التي وصلتني، كانت إلتفاتة جيدة وفرّت الإستمتاع، وإن بظلال للموسيقى كما يجدر أن تكون عليه، وللغناء الذي توّقع له يوماً محمد عبد الوهاب، الإنحسار مع الوقت، قاصراً توّقعهُ بدبلوماسية ولباقة وذكاء كانوا معهودين فيه، حين قال بأن الأغنية العربية ستشهد بعد جيلهم (ويعني عبد الوهاب هنا كبار المطربين والمطربات) إنحساراً بمعنى ما، وستزداد قصراً مع الأيام، وليس القصر ما سوف يُعيب الأغنية، بل القفلات التي تُطرب، مستحثّة آهات المستمعين إستحساناً. سوف تختفي القفلات إذن التي يُسمّيها عبد الوهاب: النهايات السعيدة للجُمل الموسيقية العربية.

محمد عبد الوهاب الذي رفع الآداء الغنائي العربي بإعتنائه بمخارج الألفاظ وسلامة حركة التنّفس أثناء الغناء، كان يتغرقه في التلحين ويشّدهُ أكثر، العمل على مقام البياتي لأنه الأكثر قرباً الى قلبه وذائقته، والموصل إلى أكثر الطرب وأكثر النشوة، من كون البياتي أساساً لكل النغمات الشرقية التي يغنيها المطربون العرب، كذلك لارتباط هذا المقام بالذكر والغناء الديني. فعبد الوهاب نشأ في بيئة دينية – الأمر الذي لاتقدر شريحة واسعة من المطربين العرب وجماهيرهم مقاومة أثره العميق، ويتبدى أكثر عند رجال الدين المعممين قارئي القرآن، يبدأونه بنغمة البياتي، ويقفلون بها.

في مقام البياتي ما يُضفي هيبة ووقاراً على الكلمات المُغناة، ويمحضها هدوءاً وما يشبه وقع الخطى الرائع في الموسيقى كما في: "يا ناعماً رقدت جفونه" أو "كل دا كان ليه لمّا شُفت عينيه؟" أو "قالولي هان الوّد عليه" أو "يا جارة الوادي" وسواها من الأغنيات التي يتضح لدى إسترجاعها من الذاكرة أو في السماع الحيّ، ذلك الإستهلال الواثق غير المُتعّجل، المُمهّد لبداية شيء ممتع، المختلس لكل التوتر والنزق، والبادي كما لو قافة حروف منتظمة تسري على مهل في ليل صحراء محروس ببدر.

أيضاً لنغمة الصبا ومعروفة بإكتنازها أقصى الحزن والشجن، إيثار في نتاج عبد الوهاب الموسيقي كما في أغنية وقصيدة: "أغداً ألقاك" وتحديداً في مقطع يقول: أنت يا جنة حبي ... سوى أنني شخصياً أحبّ الصبا أكثر، في صياغات زكريا أحمد الموسيقية، ذلك أن محمد عبد الوهاب يلعبها بشكل مفتوح، قابل للتعميم في حالة حزنها، فيما تبقى عند الشيخ زكريا مُقفلة على شجن خاص وداخلي، ينشج وحده من دون مؤاساة، ويلطش أكثر القلوب قسوة كما في: "هوّه صحيح الهوى غلاّب" حيث يميل المستمع، وبشكل فطري – والإستماع يحتاج الى الفطرة أولاً – إلى اعتبار الحزن في الصبا، حزنه الشخصي.

على الرغم من الغناء التجويدي في البياتي الذي شغف به عبد الوهاب، ذلك التجويد في كل ملامحه وعُربه وإلتزامه وقع الكلمة العربية، فإنه في :"يا ناعماً رقدت جفونه "بلغت كتابته الموسيقية حالاً من التطور الواضح في المقدمة: الروح ملك يمينه .. حيث تبدّت بذور تأليف بوليفوني، كذلك في الغناء عند شدوه :بين الرقيب وبيننا واد... في مرتبة عالية وجمال أخاذ، إلى الكثير من التأثرات الأوبرالية.

الإحاطة بكل المسار الموسيقي والغنائي لعبد الوهاب، قد تتسع له غير هذه الزاوية العجلى، سوى أنه التذكير الدائم فحسب، بالرقّة والجمال وبما ألهتنا عنه حياتنا العربية البائسة على الصُعد كافة.

رُدّت الروح، علمّوهُ كيف يجفو فجفا، حسدوني وباين في عينيهم، لمّا انت ناوي تغيب على طول، مين عذّبك بتخلّص مني، مضناك جفاهُ مرقدهُ، ايمتى الزمان يسمح ياجميل... وسواها الكثير، هي بهجة الروح، خصوصاً :عشقت روحك، على مقام الكورد وهو دور من الأدوار الخمسة لاغير، التي لحنّها عبد الوهاب، ويتكرّر اللحن عند جملة :قادر تداوي الفؤاد / وليه تسيبو يقاسي؟ فتشعر كمستمع في نهايتها أن فؤادك قد شُفيّ فعلاً، طرباً وليس عشقاً.

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الميادين وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً

عن موقع الميادين
24/6/2017







® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com