عودة الى أدب وفن

مجنون حيفا..عصيّ على الغياب - فتحي فوراني

الشاعران أحمد دحبور وتوفيق زياد
• الشعراء الشعراء..لا يغيبون

باسم اتحاد "الكرمل" للأدباء الفلسطينيين نقدم لأهله وذويه ولشعبنا وللحركة الوطنية والثقافية أحر التعازي لغياب القامة الشعرية السامقة التي أطلعها بحر حيفا وكرملها ووادي نسناسها..الصديق أحمد دحبور..أبو يسار.

لقد خسر شعبنا واحدًا من الرموز الثقافية التي زينت المشهد الشعري لأكثر من نصف قرن. فبغياب هذا الرمز أصبحت المشهد الشعري الفلسطيني ناقصًا واحدًا من أبرز رموزه.

غير أن الشعراء الشعراء..لا يموتون..لكنهم باقون في وجدان شعبنا..وذكراهم خالدة..سنورثها للأجيال الصاعدة..وسوف نسير على طريق أبي يسار ومعه كوكبة الشعراء المناضلين..حتى مطلع الفجر!

• لقد حملها وطاف بها في المنافي العربية

يبدو لي أن رصد المشاعر التي تجيش في صدر أحمد، وهو يعود إلى مسقط رأسه بعد غياب أطول من ليل امرئ القيس، هو ضرب من المستحيل.

فقد حمل أحمد مدينة حيفا في قلبه ودمه وطاف بها في المنافي العربية.

كان ينام معها ويحلم بها ويفتح عينيه صباحًا على الليل الأسود في عينيها..وصباحات الندى في شواطئ بحرها.

كان يفرح معها ويبكي معها.

كان يأكل الزعتر والزيت معها.

كان يعانق كرملها ويشرب الزرقة من بحرها.

كان يخبئها تحت وسادته ليلًا..ويحملها في حقيبة القماش المدرسية نهارًا..فيشق طريقه في أزقة المخيم..ويحتال على حواجز الغزاة.

هذا هو مجنون حيفا..أحمد دحبور!

**

لقد سقطت أنظمة كثيرة..

وسقطت أحلام كثيرة..

وسقط الكثير من العمالقة..

ولم تسقط حيفا من الحلم..

كانت حيفا هي الحلم!

• يتلقف كل نأمة وكل نسمة وكل غيمة طارت من سماء حيفا

قبل سنوات أرسلت لأحمد كتاب "دفاعًا عن الجذور" الذي يصوّر ويوثّق نضال الجماهير العربية في حيفا دفاعًا عن تراثها ومقدساتها وعن الليل الطويل الذي يختبئ خلفه لصوص الآثار التاريخية والمقدسات الإسلامية والمسيحية. فكتب مقالًا في مجلة "فلسطين الثورة" يعبر فيه عن سروره الذي لا يوصف لأن هذا الكتاب جاء من معشوقته حيفا. وعبّر أكثر من مرة عن فرحه الطفولي لهذه الهدية القادمة من مسقط رأسه. فهذا العاشق المجنون يتلقف كل نأمة وكل همسة وكل نسمة وكل غيمة..وكل كلمة عربية تطير من حيفا فتحلق عاليًا..يصطادها "حجر في الهواء" وتحطّ في قبرص..

• في حيفا تمطر السماء على الناس..لكن ملابسهم لا تبتلّ

في حيفا ثلاثون ألفًا من العرب الفلسطينيين يدافعون عن بقائهم وعن هويتهم التاريخية والتراثية والحضارية.. ويتصدّون برؤوس مرفوعة لجميع المحاولات التي ترمي إلى اقتلاعهم من أرض آبائهم وأجدادهم..وطمس الوجه العربي لعروس الكرمل.

في حيفا مناضلون أفنوا أحلى سنوات العمر دفاعًا عن الحلم..طموحًا لميلاد اليوم الذي يستطيع فيه أحمد أن يحمل باقة ورد ويقدمها إلى عشيقته ويعانقها عناقًا حارًّا..ويطبع على شفتيها قبلة تختزن ظمأ وشوقًا كان سجينًا منذ أكثر من خمسين عامًا.

إن حيفا ببحرها بكرملها وناسها ووادي نسناسها..تفتح قلبها على مصاريعه..لتحتضن عاشقها العائد..أحمد دحبور.

كانت الأم الفلسطينية تداعب طفلها الصغير أحمد..وتحكي له الحكايا عن حيفا، وتبدع في فن التصوير..وكان الحلم يطير على أجنحة الخيال.

تقول الأم:

حيفا يا ولدي مدينة عجيبة.

ففي حيفا تمطر السماء على الناس..لكن ملابسهم لا تبتلّ.

وفي حيفا..البحر يعيد الجبل إلى وراء، ويقدّمه إلى الأمام.

هذه هي الحدوتة التي كانت أم أحمد ترضعها لطفلها..حين كان يحبو على تراب الغربة في أزقة المنافي العربية.

• بقيت مساجدها وكنائسها ووادي نسناسها شوكة في حلوق الآخرين

إن سماء حيفا وبحر حيفا وكرمل حيفا..تستمد شرعيتها وبقاءها من بقاء الإنسان الفلسطيني في أرضها وقلبها ووجدانها.

ولأنه باق..بقيت سماء حيفا وبقي بحرها وبقي كرملها وبقيت مساجدها وكنائسها ووادي نسناسها..شوكة في حلوق الآخرين..وبقيت تتحدى محاولات ابتلاعها ومسحها عن الخارطة.

إن حلم أحمد بالعودة إلى حيفا ينطوي على دلالات سياسية عميقة. فهل تكون العودة الصغرى فاتحة ورمزًا للعودة الكبرى!؟

تعالوا نعمل معًا..لنصنع التاريخ..وتعود العصافير الدحبورية من المنافي الباردة..إلى أعشاشها الدافئة..ونعيد بناء الخارطة من جديد.

إن حيفا دائمًا خضراء..والوطن رغم النزيف..دائم الخضرة أبدًا!

فأهلا بك يا أحمد الدحبور..والعقبى لأحمد الزعتر

• هل هذه الوجوه فلسطينية!؟

هذه الكلمة كتبت قبل اثنين وعشرين عامًا!

فما أشبه الليلة بالبارحة!

والبارحة كانت بارحة جدًّا..كأنها أمس!

فقبل اثنين وعشرين عامًا وبالتحديد في الثامنَ عشرَ من أيلول عام ألف وتسعِ مائة وأربعةٍ وتسعين، شرّفني نفر من أصدقائي المبدعين أن آخذ على عاتقي وأبادرَ لتنظيم حفل استقبال لأحمد دحبور في حيفا. فدعوت عددًا كبيرًا من الكتاب والشعراء والمثقفين..وكان لنا لقاءٌ ثقافيٌ حافلٌ بالمشاعر والحنين في مطعم إسكندر عندما كان على ظهر خيله..لقد اكتمل المشهد الثقافي بحضور هذه الكوكبة الثقافية التي فتحت قلبها لاستقبال العائد إلى حيفا. كان اللقاء مؤثرًا جدًا ومليئًا بفيض غامر من المشاعر الوطنية. وفي ختام اللقاء تحرك موكب المحتفين في اتجاه وادي النسناس.

نطأ عتبة الوادي..فتفتح الأبواب صدرها. يرى الوجوه العربية السمراء على ضفتي الوادي..فلا يصدق! ويهمس في أذني سائلًا مستغربًا:

هل هذه الوجوه فلسطينية!؟

يخرج الرجال من حوانيتهم..ويصطفّون على الأرصفة..وتطلّ النساء والصبايا والأطفال من الشرفات..تتهلل الأسارير وتنهال الابتسامات من جميع الجهات..لتغمر الموكب..وتزفّ العريس العائد إلى مسقط رأسه.

نصل إلى البيت الذي شهد ميلاد الشاعر، فينحني أحمد ويركع على ركبتيه أمام بيته الذي كان شاهدًا على ميلاده..وتنهمر دموع الحنين الساخنة لتختلط بتراب الوطن.

كان مشهدًا مؤثرًا تقف الكلمات عاجزة عن وصفه.

**

عزيزي أبا يسار..إن حيفا أجملُ المدن في هذا الوطن الجميل..

بك يا حبيبنا..صارت حيفا أجمل..وصار الوطن أجمل!

**

(ألقيت الكلمة في حفل استقبال الشاعر الفلسطيني أحمد دحبور في حيفا بتاريخ 10-3-2016. أقيم الاحتفال في قاعة كنيسة الروم الأرثوذكس بدعوة من اتحاد "الكرمل" للأدباء الفلسطينيين ونادي حيفا الثقافي الذي يعمل تحت رعاية المجلس الملي الوطني الأرثوذكسي في حيفا. وكانت مداخلات للأساتذة: حنا أبو حنا. د. جوني منصور. رشدي الماضي.. وكانت وصلة للفنانة الملتزمة أمل مرقس التي غنت قصائد للشاعر أحمد دحبور).

عن موقع الجبهة
14/4/2017







® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com