عودة الى أدب وفن

الرِّوايَةُ.. - حسين مهنّا


الزَّمانُ والمَكانُ رُكْنانِ أَساسِيّانِ في العَمَلِ الرِّوائِيِّ، ولِيسَ المَقْصودُ هُنا حَرْفِيَّةَ المَعْنى في الكَلِمَتَينِ (الزَّمان والمَكان)؛ وإنَّما المَكانُ الّذي يُريدُنا الكاتِبُ أَنْ نَتَخَيَّلَهُ، ومِنْ ثَمَّ يَنْقُلُنا لِنَعيشَ فيهِ بَينَ أُناسِ ذاكَ المَكانِ، في زَمَنٍ هو زَمانُهُمْ يَمْتَدُّ أَو يَنْحَسِرُ بِحَسَبِ طولِ أَو قِصَرِ أَحْداثِ الرِّوايَةِ.

وإِنْ كانَ مِقْياسُ نَجاحِ القِصَّةِ القَصيرَةِ هُوَ كَيفَ يَشُدُّنا القاصُّ الى قِصَّتِهِ مِنْ سَطْرِها الأَوَّلِ، فالرِّوايَةُ النّاجِحَةُ هي الّتي تَشُدُّنا إِلَيها مِنْ صَفَحاتِها الأُولى، لا بَلْ مِنْ أَسْطُرِها الأُولى، ولَنْ يَكونَ ذلِكَ إلّا إذا أَيقَظَ الكاتِبُ فينا نَزْعَةَ حُبِّ الاسْتِطْلاعِ بِما يَبُثُّهُ في نُفوسِنا مِنْ تَشْويقٍ، وهذا بِدَورِهِ يُشْعِلُ فينا فَتيلَ الرَّغْبَةِ في مُواصَلَةِ القِراءَةِ بِمُتْعَةٍ. هذِهِ المُتْعَةُ مَرجُوَّةٌ عِنْدَ قِراءَتِنا لِأَيِّ كِتابٍ، خاصَةً عِنْدَ قِراءَتِنا لِلرِّوايَةِ مَهْما تَنَوَّعَتْ مَواضيعُها وتَنَقَّلَتْ ما بَينَ كَونِها تّاريخِيَّةً أَو عاطِفِيَّةً أَو بوليسِيَّةً أَو اجْتِماعِيّةً أَو وَطَنِيَّةً أَو حَتّى سيرَةَ حَياةٍ لِشَخْصِيّاتٍ تاريخِيَّةٍ أَو لِأدَباءَ قَدْ عاشُوا حَياةً فيها العِظَةُ وفيها التَّجْرِبَةُ الحَياتِيَّةُ الّتي لا ضَيْرَ إنِ اقتَدى بِها اَبْناؤُنا.

والمُتْعَةُ المَقْصودَةُ في طَرْحِنا هذا هي مُتْعَةُ التَّخَيُّلِ لِعَوالِمَ يَحْمِلُنا الكاتِبُ اليها –كَما ذَكَرْنا سابِقَا - لِنُعايِشَ أَهْلَها الَّذينَ هُمْ (أَبْطالُ) الرِّوايَةِ بِحِواراتِهِم وبِصِراعاتِهِمْ، لِدَرَجَةِ ايهامِنا ِبِأَنَّنا نَعيشُ في واقِعٍ غَيرِ واقِعِنا. أَمّا المُتْعَةُ الثّانِيَةُ فَهْيَ مُتْعَةُ اللُّغَةِ؛ إذْ لَيسَ مِنَ المَعْقولِ أَنْ تَتِمَّ المُتْعَةُ الأُولى بِدونِ لُغَةٍ تُحَرِّكُ عُقولَنا وتُغَذّيها بِلُغَةٍ سَليمَةٍ أَخَذَتْ مِنَ الشِّعْرِ جانِبَا، ومِنْ رَشاقَةِ عِباراتِ القِصَّةِ القَصيرَةِ جانِبَا، ومِنَ الابْتِعادِ عَنْ عِباراتٍ مَوروثَةٍ عافَتْها النُّفوسُ لِتَكْرارِها، ومِنَ الاجْتِهادِ بِابْتِكارِ لُغَةٍ يَرْتاحُ لَها القارِئُ. هكَذا يُكَوِّنُ الرِّوائِيُّ الجادُّ بَصْمَتَهُ الأَدَبِيَّةَ الّتي سَيُعْرَفُ بِها... وَلَنْ يَكونَ رِوائِيَّا مُجَلِّيَا بِدونِها!

(البُقَيعَة / الجَليل)
14/4/2016







® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com