|
عودة الى أدب وفن
زهرة فلسطينية في الأرض الإيطالية - إبراهيم نصر الله
كانت زيارتي الأولى لجزيرة سردينيا غير مدرجة ضمن تلك الجولة التي قمتُ بها قبل عشر سنوات في إيطاليا، كنت في نابولي حين تلقيت دعوة للسفر إلى مدينة كاليري، عاصمة الجزيرة، لتقديم محاضرة.
لا أخفي أنني كنت متردداً، لكنني حسمت الأمر في النهاية، وذهبت. كان اللقاء الأول بتلك الجزيرة فاتناً؛ جزيرة هادئة، صافية، وجميلة، حتى أنني همست لنفسي: إذا كان الله يحبني فسيعيدني إليها مرّة أخرى! منذ تلك الزيارة عدت إليها سبع مرات، وهذا رقم قياسي في عدد الزيارات التي قمت بها لأي مدينة. قبل أيام كنتُ هناك، لحضور مهرجان يوم الأرض للأفلام الوثائقية، الذي تنظّمه جمعية صداقة سردينيا- فلسطين. لقد استطاع هذا المهرجان، الذي عقدت هذا العام دورته الثالثة عشرة، بمشاركة ثلاثين فيلماً في مسابقته الرسمية، أن يكون حدثاً كبيراً في إيطاليا؛ ولعل معجزته أنه استطاع أن يستمرّ بالاندفاع ذاته، والتطوّر ذاته، والقدرة على استقطاب مخرجين من كل أنحاء العالم. وإذا كان المهرجان قد سعى لتقديم سينما فلسطينية ناصعة بخطابها العميق المبدئي الواضح، بعيداً عن هلوسات السلام المريض، فإنه استطاع أيضاً أن يقدّم لجمهوره أطيافاً متعددة لسينما وثائقية شجاعة ملتزمة بقضايا البشر إنسانياً ووطنياً في أماكن كثيرة من هذا العالم. لسنوات تابعت كل ما قدِّم في هذا المهرجان، الذي نهض على جهود فلسطينية عربية إيطالية فردية جبارة، تعيد لنا الإيمان بقدرة الأفراد على اجتراح المعجزات، رغم شح الإمكانيات، والتجاهل أحياناً، حيث نجد أن مهرجانات كثيرة تلقى احتضاناً إعلامياً واسعاً، مع أنها لا تقدم نصف ما يقدمه هذا المهرجان. ويكفي أن نقول هنا: إن انطلاقة كثير من الأفلام الرائعة كانت من هذا المهرجان، بما حققته من حضور قوي خلال عرضها فيه، وما نالته من جوائز شكلت بداية لفت الانتباه إليها، وقد تمكنت هذه الأفلام، فيما بعد، أن تدخل سباق المنافسة بقوة في أكبر المهرجانات، وأن تحقق الفوز تلو الفوز. في مهرجان الأرض هذا، كنت سعيدا بمشاهدة عدد من أهم الأفلام الوثائقية التي تأملت فلسطين وأحوالها قديماً وحديثاً، هذه الأفلام التي كانت عيناً شاهدة مبدعة على مستويات راقية فنياً ومعرفيّاً. من بين أجمل الأفلام التي شاهدتها، تلك الأفلام الإيطالية الوثائقية عن فلسطين: مثل الفيلم الرائع (هذه أرضي: الخليل) الذي شرَّح ببساطة وعمق وقوة استثنائية ذلك الجحيم الذي صنعه المستوطنون، وما زالوا يصنعونه، في قلب مدينة الخليل. ثمة صوَر يقال إنها بقوة ألف كلمة، لكن هذا الفيلم يمتلك قوة كلمات لا حصر لها، إنه من أقوى المرافعات التي قدمتها السينما الوثائقية في مجال كشفها للعنصرية الصهيونية؛ ولا ينسى المرء فيلماً عظيماً آخر هو : إن شاء الله بكين، وهو رحلة الفريق الأولمبي الفلسطيني، في واقعه البائس، من أريحا وغزة حتى العاصمة الصينية التي احتضنت الألعاب الأولمبية، وكذلك فيلم: إطلالة يوم جديد، الذي تتبّع رحلات المنافي الجديدة لفلسطينيي العراق. ثم هناك أفلام بارزة أخرى مثل: إطلاق النار على محمد، مستشفى غزة، الرصاص المصبوب، أرض الغد. ويستدعي الحديث أيضاً أفلاماً أوروبية كثيرة مكرسة لهذه القضية التي بات عمرها أكثر من مائة عام، مثل فيلم شباب اليرموك، دموع غزة، وأفلاماً عربية وفلسطينية مثل المتسللون، ونون وزيتون الفائز بجائزة أفضل فيلم في المهرجان هذا العام، وإلى جانبه هناك عدد من الأفلام الرائعة الأخرى، مثل إلى أمي، قوت الحمام، الشجعية، خلف الجدار، تاء مربوطة، يوم الأرض. أما الظاهرة الاستثنائية لهذا المهرجان، فهي فروعه، فقد باتت الأفلام المهمة التي تعرض فيه، تعرض في خمسة مهرجانات بالاسم نفسه في: ميلانو، روما، نابولي، تورينتو، وخارج الحدود الإيطالية في لوبيانا أيضاً. كل من شاركوا في عرض أفلامهم في مهرجان الأرض هذا، أدركوا أنه ظاهرة غير عادية، إنه منبر نظيف للسينما الوثائقية، فنياً وجمالياً وفكرياً، ولذا كانوا متحمسين لتلك الجولة التي ستقوم بها أفلامهم، في هذه المدن الخمس، وغيرها، وفي المدارس والجامعات والنوادي والجمعيات الأدبية والسينمائية والمكتبات، والنقابات الإيطالية. وإذا ما عدنا إلى السينما الوثائقية الإيطالية التي أُنتجت عن فلسطين، فإننا سنكتشف أمراً في غاية الأهمية، وهو الاهتمام المبكر لهذه السينما بالقضية الفلسطينية، فقد بدأت علاقة السينما الإيطالية بفلسطين، منذ منتصف الستينيات من القرن الماضي، بفيلم للمخرج الإيطالي الشهير باولو بازوليني، وهو فيلم، ضلّ طريقه، وكان بعنوان (مواقع فلسطينية حسب إنجيل متّى)، أما الفيلم الثاني الذي قُدِّم في إيطاليا عن فلسطين، فهو للناشط السياسي الإيطالي (فوغل) عن زيارة لمخيمات الفلسطينيين ومعسكرات الفدائيين عام 1968، حيث أقام معرضه هذا في مدينة ميلانو، ولقي المعرض اهتماماً واسعاً؛ وما لبث فوغل أن طوّر فكرة معرضه، إذ أنجز فيلماً يستند إلى هذه الصور، وقام بالتعليق عليه، ساردا ذكريات رحلته تلك. ومنذ ذلك التاريخ قدمت السينما الإيطالية أكثر من مائتي فيلم عن فلسطين، وهذا رقم كبير للغاية، مقارنة بأي إنتاج سينمائي عن هذه القضية، بحيث يمكننا القول إنه ينافس ما أنتجته السينما الفلسطينية نفسها. وبدءا من عام 2000 شهد الإنتاج السينمائي الإيطالي طفرة كبرى، غير عادية، إذ تم إنتاج حوالي 59 فيلماً عن فلسطين حتى عام 2012، وهو رقم قياسي حسب كل المعايير. في هذه الحاضنة السينمائية الإيطالية المنحازة لفلسطين، كان لا بدّ من أن يظهر مهرجان الأرض، ليلعب هذه الدور الباهر على أرض الأصدقاء الإيطاليين، ويستمر بوقوفهم معه، على مستوى التنظيم وترجمة الأفلام والدعم الماديّ أيضاً. عن القدس العربي 31/3/2016 include ('facebookshare.php'); ?> |
® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com |