عودة الى أدب وفن

عشاق الحياة وهذا العالم السعيد! - إبراهيم نصر الله

يغني الشيخ سيد مكاوي: يا حلاوة الدنيا يا حلاوة، ويغني أيضا: حلوين من يومنا والله، وأوقاتي بتحلو معاك. ويغني الشيخ إمام: اتفرج يا سلام، والبحر بيضحك ليله، وأغنيته العظيمة: قيدوا شمعة يا أحبة ونورولي. وحين نصل إلى عمار الشريعي سنصل إلى حالة نادرة لموسيقي نادر، ربما لم يتفوق عليه أحد في عدد الأعمال الموسيقية التصويرية التي أنجزها لأفلام ومسلسلات ومسرحيات شهيرة، وهذا نبوغ لا يوصف في مدى الحسّ بالمشهد السينمائي وعلى الخشبة، رغم أنه لا يراه بعينيه.

ثمة فرح غير عادي في أغنيات الفنانين المكفوفين، واندفاع جميل للحياة، لا نلمسه بهذه القوة والسعادة في أغنيات كثير من المبصرين. هؤلاء المكفوفون يملكون قدرة استثنائية على تكثيف العالم عبر ألحانهم وتوق روحهم للضوء، جامعين حاستَي السمع والبصر في حاسة ثالثة يمكن أن نشتقها من الكلمتين ونسميها (السّمر)! بما تعنيه هذه الكلمة من بهجة وانطلاق، وشقاوة بليغة نادرة، كأن يغني الشيخ إمام: مديت إيدي ع النهود أتفرّج!

كل ذلك الفرح والجمال من دون أن ينسى مكاوي أن يغني: أنا العطشان ماليش مية إلا فلسطين، والأرض بتتكلم عربي، وإمام أن يغني: شيد قصورك، ورجعوا التلامذة ومئات سواها، والشريعي أن يغني: يا قبضتي دقي على الجدار.. لحد ليلنا ما يتولد له نهار

كان المخرج الكبير داوود عبد السيد موفقا حين كلف سيد مكاوي بتلحين بعض أغنيات فيلمه التحفة: «الكيت كات» الذي لعب فيه محمود عبد العزيز دور الشيخ الكفيف: حسني، وربما يكون هذا الدور هو أفضل دور لعبه ممثل عربي على الشاشة. فيغني عبد العزيز أغنيتين بهيجتين لمكاوي هما: البلبل غنى على ورق الفلة، والصهبجية.

في السينما اختطفت الأفلام التي لعب فيها الممثلون أدوار الكفيفين الضوءَ دائما من الممثلين المبصرين وهالاتهم، ولعل فيلم «عطر امرأة» الإيطالي لفيتوريو غاسمان، وقد أعادت هوليوود عام 1992 إنتاج فيلم يحمل الاسم نفسه لآل باتشينو، من أفضل الإبداعات، ولعل الفيلمين في نسختيهما الإيطالية والأمريكية سيظلان من المحطات المنيرة في تاريخ السينما؛ وكذلك الفيلم الاسترالي «الدليل» الذي يتتبع حياة مصور فوتوغرافي أعمى. وإن ظل «الكيت كات» بالتأكيد من أعذب هذه الأفلام وأقواها.

في كثير من هذه الأفلام، يتكرر مشهد قيام بطل الفيلم الكفيف بقيادة دراجة أو سيارة، وبتهور غريب لا يؤدي لحدوث أي كوارث! ولعل أطرف المشاهد هو ذلك الذي في فيلم «الدليل» فحين تسأله المحققة: كيف تقود السيارة، ألا تعرف أنك أعمى؟! فيرد: لقد نسيت!

في الفيلم الإيطالي الجميل «أحمر مثل السماء» يفقد الطفل بصره بسبب عبثه ببندقية أبيه، لكنه يستطيع أن يبني عالما صغيرا جميلا من المسرحيات والتسجيلات للمؤثرات الصوتية التي يحتاجها، التي يسجلها بنفسه، وسيذهب لمشاهدة السينما، كما حدث في فيلم «الكيت كات» ويضحك من كل قلبه، أما حين يكبر فسيصبح ناقدا سينمائيا.

حين يتحدث المرء عن الأفلام التي قام ببطولتها الأطفال، يطل دائما فيلم المخرج الإيراني مجيد مجيدي: «لون الجنة» الذي سرق قلوب البشر في كل مكان عرض فيه، ففي ذلك الفيلم الذي لعب فيه الدور طفل كفيف، تصل عبقرية السينما إلى أوجها وهي تمتدح الحياة وكائنات الأرض وموسيقاها، ولا نبتعد كثيرا إذا ما تذكرنا الفيلم الرائع: «راي» عن حياة المغني الكبير راي تشارلز، الفيلم الذي قام ببطولته جيمي فوكس وحقق نجاحا عالميا استثنائيا. والأمر نفسه يقال عن فرقة «الفتيان العميان» بقيادة الفنان الكفيف جيمي كارتر مع عازفيه من السود المكفوفين، الذين استطاعوا المضي بالموسيقى مسافات أبعد بفرقتهم التي غنت: «هذا العالم السعيد» للمغني الشهير ملك الجاز لوي آرمسترونغ، ونالت أهم جوائز الموسيقى: «غرامي» خمس مرات.

وكذلك نتذكر فيلما يلعب فيه وودي ألن دور مخرج أصيب بالعمى فقرر أن يخفي الأمر ويواصل العمل حتى النهاية.

عالم حافل بكل أشكال التجدّد والابتكار والإقبال على الحياة، يجعل المرء يتساءل: لماذا احتفظوا بحسن ظنّهم في العالم وأحواله؟! هل لأنهم احتفظوا بصورة جميلة لم يروها، أو صدف أن رأوها ما إن لامسوا هذا العالم القاسي برؤوس أصابعهم فظنوا أن العالم رقيق كمواضع هذه الأصابع؟ هل لأنهم أسسوا طفولتهم الخاصة واحتفظوا بها، بعيدا عن همجية الكون وحروبه؟ أم لأنهم يحلمون بأن يبصروا ذات يوم ولا يريدون أن يبصروا إلا عالما جميلا بديلا لما عاشوا فيه من ظلام؟

.. اليوم، هنا، في عالمنا العربي نبدو أكثر تجهّما وقد غاب كل هؤلاء، ونبدو اليوم أقل إبصارا بغيابهم، أولئك الذين تواروا قبل أن يبصروا هذا العماء الصلد الذي يدّعيه أصحاب العيون المشرعة على اتساعها، الذين يوسّعون ساحات الحروب ويطيلون بكل ما لديهم من قوة أعمارها. الذين يرشقون وجوهنا بالدم كل صباح لنعتاد المشهد ونغدو الضحايا التي على صورتهم لفرط التبلد.

وبعد:

الثمرة التي تنضج كثيرا

إما أن تجف وإما أن تتعفن

وكذلك البشر!

عن القدس العربي
23/10/2015







® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com