عودة الى من وحي سحماتا

سحماتا..... قصة النكبة وحنين العودة
مقابلة مع: وجيه سمعان
أجراها: باسم داوود


لم يبق سوى كنيسة ومقبرة تؤكدان ان الماضي باق، وان الحاضر لأهلها وان المستقبل قد يكون افضل... انها قرية سحماتا في الجليل الاعلى التي هجر سكانها عام 1948 بعد ان قصفتها طائرات الاحتلال وهدمت كافة منازلها وشردت اهلها الذين منعوا مرة تلو الاخرى من العودة اليها.
سحماتا، قرية فلسطينية اخرى شرد اهلها ولكنهم حافظوا في قلوبهم على حنين العودة، وتشبثوا بحق الحياة واكدوا انهم لم ولن ينسوا ان قريتهم قد هدمت ظلما وان ارضهم سلبت عنوة وان سكانها قد هجروا قسراً.
أهالي سحماتا، اكدوا حق العودة عبر تنظيم جمعية لابنائها تزورها بشكل دائم، تهتم بتنظيف المقبرة وصيانتها وترميم الكنيسة.
اليوم ومع بدء احتفالات اسرائيل بمرور 50 سنة على تأسيسها، ذلك التأسيس الذي هدمت خلاله مئات القرى الفلسطينية وشرد اهلها ليتحولوا الى لاجئين في وطنهم او الى لاجئين في ما وراء الحدود، يؤكد مهجرو القرية: "العودة حق ولن نتنازل عنه، والمستقبل لنا".
ويقول وجيه سمعان (61 سنة) رئيس جمعية ابناء قرية "سحماتا" المهجرة وعضو لجنة المهجرين القطرية: "احس وانا اتحدث اليكم، وكأنني اعيش في عام 1948. حيث اتذكر كيف كنا نعيش بهدوء واطمئنان ومحبة. ونحن نتسامر ونرى القمر. ونقيم الافراح على البيادر وتتحدث لطفية مع رتيبة. او حنا مع احمد.
ما من شك في ان هذا الجو الانساني المفعم بالحب هو واحد من الامور التي افتقدناها، والتي وضعت في قلب كل واحد منا جمرا وغصة لن تنسى مهما طال الزمان. فهل يستطيع احد منا نسيان اننا شردنا وانتزعنا من قريتنا، وهل يستطيع اي كان ان ينسينا مطلبنا العودة الى قريتنا، فهي موطننا وموطن آبائنا واجدادنا وهي عزيزة علينا".
"اذا كان يحق لمستوطن ان يتربع على ارض "سحماتا"، ويأكل من خيراتها فأنه يحق لنا نحن ابناؤها، العودة الى قريتنا وترميم بيوتها ومقدساتها، فلا بديل عن ذلك. وهذا ما يقره القانون الطبيعي، لانسان شرد عن وطنه وما تقره الشرعية. يحتفلون اليوم في اسرائيل بمرور 50 عاما على تأسيسها، باحتفالات تشير بانجازات الدولة فما هو شعور ابن سحماتا، الذي شرد من قريته؟ ويقول سمعان: بهذه المناسبة، مناسبة مرور 50 عاما على قيام دولة اسرائيل، نشعر بأنه كان يوم نكبة وحلت علينا، نحن المهجرون من قريتهم. فكيف يريدون منا نحن الذين هجرنا عن سحماتا ان نرقص ونطرب ونحتفل في ذكرى نبش جراحنا التي لن تندمل مهما طال الزمن. كيف نحتفل ونكون مسرورين ونحن نجترح الالام بعيدا عن مسقط رأسنا. نقول وبكل صراحة، انه اذا كان هناك من يفتش عن تسوية "سلمية"، فلن يكون هناك "سلام بدون المشردين، بمن فيهم مشردي سحماتا".
"كنا ولا زلنا نربي اطفالنا على حب قريتهم. وعندما يمر طفل من "سحماتا" من جانب القرية، يتوثب كالغزال، ويقول لابيه "بابا هذه سحماتا بلدنا" هكذا هو حبنا لبلدنا وحب اطفالنا لها فالاطفال الذين يزورون البلدة، يشعرون ان القرية، قرية الجد هي قريتهم. واذا سألت طفلا منهم من اين انت؟ يجيبك "انا من سحماتا" هكذا يعرفون انفسهم. فهل يستطيع احد نزع هذه الصفة؟ وبدورنا، ككبار السن، الذين عاشوا تلك الفترة، نعمل على ترسيخ الذاكرة بين الاجيال والتواصل، ولن يضيع حق اذا طالبت به ولو شاب الغراب".

حلم العودة راسخ في مخيلتنا
على الرغم من مرور (50) عاما على اقامة اسرائيل، وخمسون عاما من النكبة يؤكد وجيه سمعان ان حلم العودة الى سحماتا لا زال راسخا في مخيلتنا وان البعد القسري عنها خلال كل تلك الفترة. لم يحط من عزيمة اهلها، بل ان العكس هو الصحيح، حيث رسخها في مخيلتهم.
قمنا بارسال الرسائل الى وزارة الاقليات في حكومة اسرائيل عام 1949 استلموها منا وقالوا: سنبحث الامر؟!
الصنارة: وما هي النتيجة؟
اقروا انهم استلموا الرسالة... ولكن لم يفعلوا اي شيء بهذا الصدد ومع ذلك اقول، لم نيأس، فقد واصلنا محاولتنا فبتاريخ 1/7/1949 وجهنا رسائل الى مكتب الاراضي المتروكة، وطالبناهم مجددا بالعودة الى بيوتنا واراضينا في سحماتا ولم يردوا على طلبنا.
الصنارة: يتسحاق رامون - الضابط الذي اشرف على احتلال سحماتا، ادعى ان الاهالي هربوا من قريتهم دون اي اكراه! ما هو مدى صحة هذا الادعاء؟
سحماتا كانت قائمة وهادئة، تبني حياتها ككل قرى وفلاحي فلسطين. وتسهم في عرس الوجود. نحن لم نستدع الطائرات لقصفنا بتاريخ 28/10/1948، حيث حلقت 3 طائرات في سماء القرية الوادعة والقت القنابل المدمرة التي هدمت بعض البيوت في تلك المرحلة.
الصنارة: عن ماذا اسفر القصف؟
اسفر قصف سحماتا، كما قلت عن هدم العديد من البيوت، وعن سقوط ثلاثة شهداء من ابناء القرية، من بينهم على ما اذكر الشهيد خليل عبود، كما اصيب ثلاثة آخرين بجراح وعلى ما يبدو، كانت عملية القصف تمهيدا لمهاجمتها على الارض.
الصنارة: ومتى دخلت القوات اليهودية الى سحماتا؟
في اليوم التالي للقصف من الجو، اي بتاريخ 29/10/1948 قامت القوات بمهاجمة القرية حيث تبقى فيها العديد من العائلات، بعد ان اجبر الكثيرون منهم على اللجوء الى كروم الزيتون، تجنبا للقتل من القنابل التي القيت من الجو.

اعدام على مرأى من الوالد والأهالي
الصنارة: هل تذكر حادثة معينة تركت في ذاكرتك انطباعا حتى اليوم؟
لا زلت حتى اليوم اذكر حادثة وقعت مع شاب من ابناء سحماتا يدعى محمد عبد الرحمن حسين قدورة، حيث كانت اصبعه مجروحة وقام بلفـّها. والقت قوات الاحتلال القبض عليه. وادعت ان محمد كان يقاوم. فما كان من الجنود الا وسحبوه وقاموا بصلبه امام والده واهالي القرية المتواجدين في المكان، وقاموا برميه بالرصاص والاجهاز عليه. بمعنى آخر اعدموه على مرآى من الجميع. على سبيل الارهاب لاخافة الناس واجبارهم على الرحيل القسري تحت سيف الموت المسلط فوق رقابهم.
قوات الاحتلال لم تتوقف عن ممارستها بل العكس هو الصحيح فقد بلغت اوجها عندما قامت باطلاق الرصاص على مجموعة من الاهالي، من بينهم مصطفى علي، عندما كان عائدا من المرعى مع بقراته. وقتلوا حسن الموسى امام منزله، في الحارة الشرقية، وعبد الوهاب سلمون وعطالله موسى، وزوجة نعيم الموسى.
وبلغت حصيلة مجزرة "سحماتا" 16 شهيدا عندما تم احتلال بلدتنا.

معركة البقاء استمرت برغم المجزرة
الصنارة: الى اي حد أثرت الجرائم بحق السكان على النزوح والرحيل؟
بدون ادنى شك كان للمجزرة اثر كبير، فالناس رغم ذلك لم يرحلوا، وانما واصلوا الاختباء في كروم الزيتون وحاولوا العودة الى بيوتهم مرارا وفي كل مرة كانت قوات الجيش التي احتلت القرية تصدهم وتطردهم بالقوة. وثم يعودون من جديد وهكذا عدة مرات. واستمر الوضع هكذا حتى شهر كانون ثاني 1949 حتى يأس المشردون في الكروم من العودة الى بيوتهم وقريتهم واعطيك مثلا شخصيا، والدتي حوا سمعان وزوجة خالي ندى سمعان "القيتا" على الحدود حيث تم ابعادهم الى لبنان. وخلال عملية الابعاد توفيت احدى النساء من العطش.

ربطوه بجذع زيتونة
الصراع لم يتوقف للحظة في سبيل البقاء فقد كان الشاب احمد اليماني، اليوم احد قادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ابن سحماتا مدركا لطبيعة الاحداث، ودعا الناس للبقاء والتشبث في بلدهم. فما كان من افراد قوات الاحتلال الا ان ربطوه الى جذع شجرة زيتون. وحاولوا قتله. الا انه وبقدرة قادر فـُك وثاقه. وتم ابعاده وتشريده الى لبنان.
ويعود سمعان الى الحديث عن ادعاء يتسحاق رامون ان سحماتا كانت خالية من السكان، فقال: "اذا كان ادعاء رامون المذكور صحيحا. فمن ذا الذي بنى بيوت "سحماتا" ومن كان يسكنها؟ وهل سكانها من المريخ، ثم اذا كان عدد من السكان قد لجأ الى كروم الزيتون تجنبا للقتل والموت من جراء رصاص المحتلين. هل يعني هذا الامر، انها كانت خالية من البشر؟ وسؤال آخر: اذا كان الامر صحيحا، فلماذا أعلن عن القرية منطقة مغلقة يمنع الدخول اليها!؟ أليس لمنع الأهالي من العودة اليها".
ويضيف: "اذا كان ادعاؤه صحيحا بأنه لم يطرد احدا من سكان القرية. فأين هم اهالي سحماتا اليوم؟ ولماذا لا يقيمون في قريتهم؟ ولماذا جرى قصف سحماتا بعد ستة اشهر من قيام اسرائيل.
ولماذا تم قصفها من الجو مما هدم الكثير من بيوتها. اما القسم الاكبر فقد هدم بعد سنتين حيث جرى تفجير البيوت بالديناميت. لقطع الطريق امام السكان للعودة الى قريتهم. ومن الذي هدم مسجد "سحماتا"؟ ومن الذي دمر القلعة الصليبية التي رممها ظاهر العمر الزيداني ومن الذي لم يبق من سحماتا سوى بقايا كنيسة ومن الذي اقام السياج الشائك حولها لمنع احفادنا من الاقتراب من مسقط رأس اجدادهم".

ما بعد الترحيل...
منذ التهجير، وخاصة في السنوات الاخيرة، دامت الفعاليات الداعمة للعودة الى القرية حيث اقيمت العديد من الفعاليات، وعلى رأسها تنظيم الزيارات الجماعية للقرية التي حاولت السلطات مسح آثارها، والتي لم يبق منها سوى بقايا كنيسة وانقاض.
ويقول وجيه سمعان: "يشدنا الحنين الى مسقط رأسنا، واليوم يصل عدد مجموعات الزائرين الى 100 شخص - وحتى (300) ممن شاركوا في كل زيارة، حيث شملت الزيارات، على اعمال تنظيف للمقابر حيث توجد قبور الاجداد التي تحولت الى مراع للبقر والخيل التابع للمستوطنات اليهودية التي اقيمت على اراضي سحماتا مثل: مستوطنة "تسورئيل" و "حوسن" وقسم من بلدة معلوت".
"وتواصلت اللقاءات بين ابناء البلد الواحد، وابناء سحماتا كانوا من المبادرين في تأسيس اللجنة القطرية للمهجرين، وجمعيتنا هي عضو فيها.. وفي سنة 94 - 95 تأسست لجنة ابناء سحماتا تحولت في 17/7/1996 الى جمعية عثمانية معترف بها قانونيا".
ويقول سمعان: عندما اتذكر، استذكر كيف كان لكل عريس ابن الطائفة المسيحية، اشبين مسلم والعكس، فأن هذا الامر رمز آخر على اواصر العلاقة الانسانية والاجتماعية لابناء الشعب الواحد، حيث لم نعرف التمييز. وبعد وفاة (قيصر السمعان) المختار. تم تعيين ابنه جريس سمعان مختارا لسحماتا. خلفا لوالده المرحوم وظل مختارا الى ان تم تهجيرنا من سحماتا بتاريخ 28/10/1948".
وعملية التهجير بدأت على مراحل. وأجبر معظم الأهالي على النزوح الى لبنان ومن بينهم المختار جريس السمعان. ويذكر ان عددا من افراد عائلته ممن تبقوا في البلاد، عملوا على اعادته للبلاد. وكان بالامكان ان يعود، الا انه رفض العودة: حيث اجاب: "لقد خرجت من فلسطين قسرا مع اهالي قريتي. ولن ارجع لوحدي وانما معهم من منطلق حق العودة للجميع وهكذا بقي في لبنان الى ان وافته المنية عام 1975، حيث ابنه احمد اليماني احد ابناء سحماتا. وأحد قادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين".

عاشوا متآخين ومتحابين
الصنارة: كيف عاش المسلمون والمسيحيون في تلك الفترة، هل لك ان تصف لنا هذه العلاقة؟
وجيه سمعان: عندما اعود بذاكرتي الى تلك الايام (حيث كنت في الحادية عشرة من عمري استعيد جو الألفة والمحبة الذي ساد بين ابناء الطائفتين العربيتين المسلمين (الغالبية) والمسيحيين (الاقلية). اتذكر بأنهم عاشوا، متآخين ومتحابين، حتى مختار قرية "سحماتا" (قيصر سمعان) كان من الطائفة المسيحية، برضى الجميع. مسلميها ومسيحييها.
ويحكى وجيه عن حادثة، لها مدلولاتها، ان القاضي الشرعي في عكا الذي كان مسؤولا في عكا استدعى بعض المشايخ من اهالي القرية. وقال لهم "هناك امور شرعية تتطلب ان يكون المختار مسلما" علما ان المسلمين شكلوا الاغلبية الساحقة من السكان، ولكن بعد ان تشاوروا مع بعض قالوا له (كلنا على دين قيصر) واعجب بجوابهم لما فيه من اشارة لمدى التآخي وقال لهم: منذ اليوم سيكون توقيع "قيصر السمعان" مميزا بين التواقيع. وهذا تأكيد آخر واشارة واضحة على متانة الترابط الاجتماعي الذي ساد بين ابناء الطائفتين العربيتين.

(نشرت في ملحق "الصنارة" 13/2/1998)





® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com