و ظلم ذوي القربى.. - وليد قدورة

من تشبث ببيته و أرضه و بلاده ، وظلِم أكثر من مرة ، و تعرض جوراً لاتهاماتٍ شتى منذ الخروج الأول عام 1948 . سر صموده و بقائه أثار أكثر من تساؤل . رفضه للجوء و النزوح ، و عدم تصديق من قالوا له : "إنها مسألة أيام ، كل المجاورين لك أخوتك ، يرحبون بك ، و يفرشون لك الطريق بالورود و الزنابق" ، و هو الذي لم يصغ إلى الإذاعات و الميكروفونات المحمولة باليد التي كانت تكرر نداءاتها داعية المهاجرين المساكين أن لا ينسوا إغلاق أبوابهم جيداً ، و أن يعلقوا المفاتيح بأعناقهم خوفاً من ضياعها.

هذه المقدمة عن أولئك الذين أطلقت عليهم أسماء شتى على مدى العقود الست المنصرمة : "عرب الداخل" "فلسطينيو 48" "الفلسطينيون في إسرائيل" "أهل الجليل" "أهل المثلث" "أهل النقب" ، تعددت المسميّات ، و كثرت النعوت التي طالتهم ، و تشعبث جيلاً بعد آخر ، نادراً ما استخدمت عبارة "سكان فلسطين الأصليين" ، بدأت هذه العبارة تنكمش و تتقلص من قواميس السياسة و من الأدبيات المتداولة . الكلمة كانت و ظلت تحمل دلالات غامضة يفهمها كل كما يشاء ، فهي مخيفة للأعداء ، موحية بالحذر و القلق من ناحية الأصدقاء . القوانين العالمية ألغتها بالكامل من الإستعمال ، أما ذوو القربى فتحمل لهم ذكريات يعافونها ، و لا يحبون العودة إليها ، فلماذا يستعيدونها في كتابات و مواضيع تسبب الصداع؟

تعرضوا للإحتلال و كوابيسه ، و اخترعوا كل الأحجيات و الوسائل لإبقاء هويتهم . ظلوا بمنأى عن الدمج و الانصهار في مجتمع عنصري . أكرهوا على حمل جواز سفره ، و العمل قسراً في معامله و مستوطناته ، أخذ عليهم الأصدقاء و الأشقاء ذلك ، فأصبح كل من يحمل منهم جواز تنقلٍ مشبوهاً أو مطعوناً بوطنيته ، قال بعضهم : "من كانت إصبعه في النار ليس مثل الذي إصبعه في الماء " . قال آخرون : " الحرب بالنظارات سهلة" ، الأعداء يراقبونهم بتوتر ، فهم "حصان طروادة" الذي ينبغي أن تظل العين مفتوحة عليه مدى الليل و النهار ، و هم الإحتياطي الجاهزالذي لم يخضع لإغراءات بيع الممتلكات ، و هم ، مثل العنقاء ، التي تولدٌ من جديد كلما توهم الآخرون أنها أضحت رماداً.

بين فكي كماشة ، حب الاشقاء القاتل ، و بطش المحتل المزمن ، هكذا عاشوا ، و لكنهم كانوا مبدعين ، فتسللوا مثل الشهب الصغيرة التي تتناثر في عتمة الظلام ، أنجبوا ، الشعراء ، و المسرحيين ، و الموسيقيين ، و الروائيين ، و المحافل الثقافية ، و رعوا بإمكاناتهم الضئيلة ، الأماكن القديمة، و غرس أشجار الزيتون ، وري أشجار التين، صنعوا مفاتيح أخرى لأبواب بيوتهم الجديدة المصنوعة من خشب السنديان والبلوط ، و بقي صيادوهم القلائل يلقون بشباكهم في الرقعة الضيقة المتاحة لهم في بحر عكا.

هم الآن ، الشوكة ، التي يستدعي المحتل أمهر جزاريه لأنتزاعها من عنقه ، إنهم الشبح المؤرق ، الجني الذي يطلع لهم من أحشاء الليل ، الغلطة التي يحتار منظروهم في كيفية تصحيحها ، لماذا لم نقضي على من تبقى منهم ؟ لعنة السكان الأصليين هذه ستظل تطارد المحتل إلى أبد الآبدين ، ليس ديموغرافيتهم فقط ، بل إصرارهم ، و خبرتهم في صد هجمات الدمج و الإلغاء هو ما يخيف أعداءهم .

الأصليون ، أهل البلاد الحقيقيين ، الذين ينتظرون على أحر من الجمر لقاء أشقائهم و أهلهم ، مرتابون الآن ، لشكهم مبرراته ، و لريبتهم ما يدعو إليها . هل يكونون كبش الفداء ، فيقذفون إلى المنافي هم الآخرون ؟ أم يستباح دمهم ، دون أن يعي أشقاءهم هول ما ينتظرهم ؟ يراهنون ، على عشق محبيهم و لكنهم يستعينون بإراداتهم و صمودهم ، و هذا سر بقاءهم و شموخهم. هاجسهم المؤرق الآن هو أن يتردد صدى نصيحة عاشق في وديان و سهول بلادهم : علقوا المفاتيح في رقابكم ، و استعدوا للأسوأ . الأصليون تعلموا الدرس يموتون و لا يكونوا ضيوفاً ثقلاء.



وليـد قـدورة
صيدا - سحماتا

12/11/2010









® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com