مفتاح صندوق ملابس ستـِّي - بقلم: مالك ايوب


كانت الصحفية السويسرية ماري وانغر (اسم مستعار) والتي تعمل "لصحيفة زيورخ الجديدة NZZ" تسألني بين الفينة والأخرى عن حالي وذلك كلما اقترب الباص بنا من الغابسية باتجاه سحماتا.

كانت لحظات مؤثرة عاشها الوفد المرافق في القرية، حيث رأى مظاهر الخراب والتدمير وشعر بمعنى النكبة عن قرب.

في الطريق من سحماتا الى حيفا وما إن اطلق ابو رائد (سائق الباص الفلسطيني المقدسي الاصل) العنان لبنزين باصه المحترم، حتى قامت الصحفية من مكانها بعد ان رأتني (صافنا) شاخصا من شباك الباص الى الأفق البعيد حيث اختفت آخر اشجار سحماتا عن ناظري فجلست بجانبي وقالت: اعرف بماذا تفكر ولكن ما هو شعورك الآن؟

فقلت لها: انني اشعر بارتياح غريب.. لقد كنت الآن في المكان الذي ولد فيه ابي وأمي، جدي وجدتي، المكان الذي كنا نسمع عنه طوال عقود من اهلنا وأجدادنا وأقاربنا، حتى اننا صرنا نعرف كل حجر وكل زاروب في القرية، فليس من اهل سحماتا من لا يعرف ما هي الرحبة وما هي البركة، الحارة الفوقا والحارة التحتا، المقابر، المخاتير، المعصرة، كل شيء.. لقد رأيتِ كيف كنتُ امشي وأنا اعرف كل اتجاه وكل بيت.

لم يأخذ اهلنا معهم حين تركوا القرية أي شيء، حتى مفتاح البيت الذي هو عند كل فلسطيني اليوم أمل الرجوع لم يأخذوه معهم. لقد خرجوا ولم يحملوا معهم الا آخر صور عاشوها في القرية، وكلهم امل ان يرجعوا ويروا هذه الارض مرة اخرى. لقد حفروا في ذاكرتنا الصور التي حملوها معهم كي تبقى في ذاكرتنا الى الابد، لقد تركوا هذه الصور امانة في ذاكرتنا.. وها انا قد جئت احمل هذه الصور معي الى سحماتا وقد سلمت امانتي للقرية. تركت صورهم هناك وحملت معي صورا جديدة.. ويا للقدر.. وامام بيت جدي وعلى أحد الحجارة المكومة امام البيت.. اذا بمفتاح صغير ملقى على ذلك الحجر. 60 عاما مضت والمفتاح في مكانه.. لقد حان الوقت.. وقت الرحيل وهذا المفتاح هو الامل.. لقد سلمت الصور المخزونة في ذاكرتي وحملت مفتاح الامل كهدية لتسليمي الأمانة وعدت بالأمل لأوزعه على الاقارب والاحباء.

نظرت الى الصحفية وقد امتلأت عيناها بالدموع، ورجعت الى كرسيها في الباص دون ان تنطق بكلمة واحدة. نظرت الى مقدمة الباص ورأيت عيني ابي رائد ينظر في مرآة الباص الخلفية، وكأنه يتفقد ما اذا كان ركاب الباص ما زالوا جميعهم في اماكنهم.

في المساء عدنا الى الناصرة حيث كان لنا هناك في معهد اميل توما موعد مع المخرج الفلسطيني سليم ضو. بعد شرب القهوة وتناول الحلويات وقبل بداية المناقشة والشرح اقتربت ماري مني وقالت لي: سوف اكتب مقالا مطولا عن سحماتا. يجب على الناس في سويسرا ان يعلموا ماذا حصل لكم سنة 1948.

بعد حديث المخرج، قام بعرض مقاطع من آخر فيلم تم تصويره له.. ويا للقدر مرة اخرى.. لقد كان اسم الفيلم "مفاتيح".. يحكي الفيلم قصص الفلسطينيين الذين يحتفظون بمفاتيح منازلهم على أمل العودة وكيف يذهب بعضهم الى اطلال قراهم يبحثون عن منازلهم. لقد رأيت الذهول يعم الوفد المرافق. ان هذا الفيلم يصور ما كان الوفد قد عاشه حقيقة في نفس اليوم.. وساد الصمت والذهول الصالة..

هل المفتاح الذي وجدته هو مفتاح صندوق ملابس ستّي؟.. لماذا لم يجده أحد قبلي على مدى ستين عاما؟!


(سويسرا - سحماتا)

23/6/2007









® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com