![]() |
|
سحماتا جزء من ذكرى النكبة
بقلم: مارون سامي عزام
ان مسرحية قرية سحماتا المدمرة، كانت اكبر هدية ابداعية، كرمت واحيت ذكرى النكبة، وما زال مسرح "الميدان" يحييها... يذكرنا من جديد بأحداث قرية سحماتا، وتعرضها في مدننا وقرانا العربية.. تقدمها بشكل مؤثر جدا، من ناحية الديكور المسرحي البسيط جدا، رغم انه انقاض قديمة، لكنه اعاد ذاكرتي في ليلة العرض الى احداث النكبة وتحديدا الى عام 1948... وتأثرت كثيرا من ذلك المنظر الذي اقشعر له بدني، اي نعم انا لا اقول هذه الجملة من فراغ او تملق. بالفعل تصورت في ليلة العرض ماذا جرى هناك في سحماتا، شعرت ان القلم الذي بجيبي اصبح هو الآخر جزءا من جمهور المتفرجين، وكان تأثره شديدا بحيث قرر ان يكتب هذا ![]() نعوم فهد سمعان (أبو سهيل)- الشخصية التي أوحت الى دور الجد بالمسرحية.. المقال، مهما كلف الثمن، بشكل فني، كي ينقل قدر المستطاع اروع اللحظات التمثيلية التي اعتقد لا يستطيع اي ممثل تجسيد هذه الحقبة الاليمة من تاريخ شعبنا العربي بهذه الصورة التاريخية الحقيقية، الا اذا كان ممثلا مقنعا بادائه ومقتنعا بفكرة العمل وقيمته المسرحية الخاصة، مثل الفنان والممثل لطف نويصر الذي ادى دوره بصدق شديد وقد شاركه التمثيل الممثل ميسرة مصري. تدور المسرحية في اطار الرمزية الواقعية المرئية: 1)الواح الخشب المترامية: وهي الواح تنقل، تجسد اشجار البلوط والاجاص البري الذي كان يغطي اراضي القرية (نسبة 70% من اراضي قرية سحماتا كان صخريا غير مزروع. 2) البراميل: وهي رمز من رموز صراع البقاء على لقمة العيش، لأن سكان قرية سحماتا كانوا يخزنون مياه الشرب بهذه البراميل، بعد ان كانوا يتزودون بها من خمسة ينابيع، ومن آبار منزلية تجمع فيها مياه الامطار. 3) الحجارة الكبيرة: وهي ترمز لصمود اهالي سحماتا، لان غالبية بيوتها كانت مبنية من الحجارة. 4) الحجر الصغير او "الحصوة": هو رمز للارض والتمسك الشديد بها، وذلك عندما تناول الجد الحجر وبعد ذلك اجهش بالبكاء على ضياع الارض، وهذه اشارة اولى مميزة على ان غالبية اراضي سحماتا كانت صخرية. تدور المسرحية ايضا في اطار الرمزية الواقعية غير المرئية: 1) الجبال والهضاب: وهما رمزان لم يكتبهما الكاتبان ادوارد ماست وحنا عيدي "من شان يغيبنو علينا" لا، بل لأنه بالفعل قرية سحماتا تاريخيا كانت تنهض على قمتي تلتين تشرفان على اراض منخفضة في كافة الاتجاهات. 2) الزيتون: برز هذا الرمز عندما روى الجد قصة صديقه الذي تسلق شجرة الزيتون ليقطف حبة الزيتون الكبيرة "إللي ملانة زيت" حسب قول صاحبه، وهنا عودة لم يلاحظها الحضور الى ما قبل عام 1948، اي عودة الى اواخر القرن التاسع عشر، اذ كان يبلغ عدد سكان سحماتا 400 نسمة في حينه، وكانوا يهتمون بزراعة شجر التين والزيتون. 3) الخبز والقمح: هذان الرمزان برزا عندما بدأ الجد يصرخ وينادي بالمهجرين بأن يعودوا ليأخذوا معهم خبز "كماج" وقمح، لتقيهم من الجوع خلال ترحالهم بعد ان اغتصبت الكتيبة الاولى من لواء غولاني في سياق عملية "حيرام" قراهم. اذن الخبز والقمح دلالتان واضحتان على ان لقرية سحماتا كان ايضا اراض زراعية، مزروعة قمحا وشعيرا وذرة وتبغا (كان تبغ سحماتا مشهورا جدا) وخضراوات. الصمت كان اجمل موسيقى تصويرية الصمت التام الذي كان مخيما على اجواء المسرحية، دون ادخال موسيقى تصويرية وهذا ليس ضعفا في الاخراج، انما هنا تكتمل روعة العمل الابداعي، اولا لأن الاحداث تدور في البر وبين انقاض القرية، ثانيا براعة ونجاعة استعمال ميكروفونات صغيرة حساسة جدا حتى تسمعنا كل "حرطقة زغيرة"، تدور على ارض المسرح، الم نسمع همهمات الجد في بداية المسرحية. العكاز: وهو من آثار النكبة، واعتبر ايقاعه الحزين الذي اسمعنا اياه الجد معزوفة شجن تعزف بإجلال فوق انقاض سحماتا، معزوفة لحن العودة المرتقب ليوقظ نبض قلوب المهجرين على ايقاعات لوعتهم الى بلادهم. الم نسمع كذلك صوت ايقاع عكاز الجد، وهو ينبش بين الحجارة والصخور عن اي اثر للقرية من خلال الميكروفونات الصغيرة الحساسة، فلذلك هذه الاصوات التي انبعثت من العكاز هي دلالة ثانية ومميزة على ان غالبية اراضي قرية سحماتا كانت صخرية. فلذلك جميع هذه الرموز الواقعية، قربت لنا اكثر اجواء الماضي الاليم، ادخلت ذاكرتنا عبر نفق تاريخ النكبة. إن تقمص الفنان لطف نويصر لعدة شخصيات مختلفة، كان من اجل ان ينقل لنا من خلال روايته للاحداث تلك الرموز الانسانية الباقية، فلذلك اعتماد المسرحية على الجد (لطف نويصر) وهو رمز النكبة، ومحور العمل ومركز استعلامات هام جدا بالنسبة لحفيده "حبيب" الذي كان مشبعا، مجبولا بمدنيّة اسرائيل، اندمج عاطفيا مع جده "وخراريفو"، لكنه بقي عاشقا متيما "غرقان بحب تسيبورا لشوشتو"، وعلى وشك الزواج منها، يعني كان "حبيب مش عارف الله وين حاطو" الى ان ربطه جده بمحور تاريخ قريته وقرية ابيه الذي انتقل الى السكن في حيفا، وهنا اصبح "حبيب" ملازما وشريكا لجده في معايشته للاحداث التاريخية من خلال تأديته هو ايضا لادوار وهمية لا نراها امامنا مجسدة بشخصياتها الاخرى على المسرح. ![]() ألجد - رمز النكبة حالات اخرى غير مرئية: عايشنا ايضا في مسرحية سحماتا، عدة حالات انسانية غير مرئية ولكنها رائعة جدا، تجمع ما بين الفرح والحزن.. تجمع ما بين اصالة الابداع والتمثيل الراقي والقدرة على استنساخ هذه الحالات اذا صح التعبير. يوم الاستشهاد: قتل محمد على يد جندي اسرائيلي. يوم عرس الجد: وظهر ذلك تحديدا عندما بدأ يشرح الجد لحفيده "حبيب" عن ليلة عرسه وشهر العسل، وهنا هام "حبيب" مع جده في نشوة الذكريات ودخل معه قفص الماضي ليشرح لنا عن بعض الحلويات الفلسطينية، كالكنافة والبقلاوة التي قدمتها النساء للمدعوين، وهذه الحالة جزء من التراث الفلسطيني. المأكولات الفلسطينية: وصف الجد ماذا قدموا للمدعوين الى عرسه من مأكولات فلسطينية مشهورة الى يومنا هذا مثل "صدورة الرز وكدر اللحم". التراث الفلسطيني الموسيقي: شرع الجد يدندن الاغنية التي غناها له الشباب ليلة عرسه "هون دار العز واحنا رجالها"، كذلك رقصة الدبكة الفلسطينية التي رقصها الشباب ليلة العرس، وقد رأينا الحفيد "حبيب" يرقص "الدبكة"، وهذه الحالة تصف لنا جزءا صغيرا جدا من الاغاني الفلسطينية التراثية. يوم الاحتلال: هنا رأينا الجد في حالة رعب وخوف شديدين عندما رفع رأسه الى السماء قائلا: "طيارات... طيارات عمتضرب اهربو!!"، لكنهم لم يصدقوه، الى ان تمت عملية الاحتلال. بعد استماع الحفيد "حبيب" الى جميع بطولات اهالي سحماتا، رأينا على وجهه امارات التعجب الشديد والاستغراب، رغم انه اقتنع بما فعلته اسرائيل مع اجداده، لكنه بقي متعلقا بحبيبته "تسيبورا"، "لإنو ضرب الحبيب زبيب"، وكان ذلك عندما سأله جده: "بعد بدك تفوت على الجيش؟!!" لم يجبه "حبيب" بشيء، هذا اول مؤشر على تعلقه "بتسيبورا"، سأله جده ايضا: "بدك تتجوز من تسيبورا؟!!" وأجابه: "لأني بحبها يا سيدي"، هذا المؤشر الثاني والحاسم على تعلقه "بتسيبورا" وقد ادرك جده ان جميع ما رواه لم يأت بنتيجة واضحة، لكنه استطاع تحرير عقليته الاسرائيلية من اسر المدنية، استطاع الجد ان يقضي على دماغوغية كتب التاريخ والتوراة التي تحاول دائما تشويه الحقائق. ان حالة "حبيب" ليست حالة شاذة او مفردة بل انه حال العديد من شباب اليوم "المناضل على امور اهم!!"، يجهل للاسف الشديد او ينكر تاريخ النكبة... يجهل حتى ابسط التفاصيل عن تاريخ بلاده، لكن من خلال مسرحية "سحماتا" استطاعت جمع جميع هذه الاحداث التاريخية، صورت جزءا بسيطا من احداث النكبة برؤية مسرحية واقعية جدا. (شفاعمرو) (صحيفة "كل العرب" 16/4/1999) include ('facebookshare.php'); ?> |
® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com |