![]() |
|
صفحات مشرقة مجيدة من تاريخ فلسطين
بقلم: الياس جبور جبور مهداة الى اهالي سحماتا في كل اماكن تواجدهم
سحماتا قرية فلسطينية وادعة، كانت تنام على سفح جبال الجليل الاعلى كما ينام الطفل على ذراع والديه...
بيوت قليلة متفرقة هنا وهناك تظللها اشجار الزيتون والتين وفي المسالك الضيقة نبتت اشجار الصبّار والزنزلخت، اما في المنحدرات السفلى فقد ربضت شجرات من الزيتون الرومي بكل هيبتها ووقارها كأنها شواهد تاريخية ثابتة تعلن على رؤوس الاشهاد انها باقية هنا ما بقي الدهر.... لم يبق من آثارها الا بقايا حجارة بيوتها المهدومة عام 1948 قد تناثرت هنا وهناك. ولم تزل البقية الباقية من اشجار الزيتون الحزينة تعيش لوحدها وتذكر ايامها الخوالي والى جوانب القرية بضعة الواح مبعثرة من جدار الصبار الذي كان يضرب طوقا حول القرية فيحميها من اعتداء المعتدين... وفي وسط القرية، او بالاحرى ما كان في ذلك الزمان يسمى بمركز القرية، آثار جامع قديم لم يبق منه سوى حجارة قنطرته المهدومة وحائط الكنيسة التي تعود الى مئات السنين، وقبة عالقة بين اكوام خربة تعلوها الحشائش والهشيم وتعشش بين حجارتها البوم والغربان وكأني بامرئ القيس وشعراء الجاهلية اجمعين قد استعانوا بهذه المناظر الحزينة للبكاء على الاطلال... لم يتجاوز عدد سكانها في ذلك الوقت بضع مئات عاشوا دهورا لا يعرفون لها عددا ولم يعرفوا احصاء ولا تسجيلا لا لتاريخ ولا لغيره؛ اللهم الا ما كان يرويه لهم شيوخ القرية عن تاريخها، وقد كانوا يعيشون عيشة هانئة سعيدة، قانعين بما قسمه الله لهم من موقع خلاب ومنظر طبيعي ساحر وطقس معتدل جميل يهب عليه نسيم الصيف العليل حاملا شذا ازهار القندول ورائحة الزعتر والسريس وغيرها من نباتات البر. هواؤها البارد الجاف جعلها مصيفا من مصايف الطبيعة العذراء هبة الله على الارض وعطية الخالق للانسان. كان أهلها يعيشون كأبسط ما يعيش عليه الانسان في ذلك الوقت، زراعة واعتمادا على الارض الطيبة، يعطيها الانسان فتعطيه اضعافا ويكرمها فتكرمه على احسن ما يكون العرفان بالجميل، خيرا وبركة وغلالا تملأ بيادرهم ومخازنهم مؤونة عام كامل تكفيهم الى ان تدور الارض دورتها والى ان يأتي الحصاد الجديد. كانوا يزرعون القمح والشعير والكرسنة والذرة الصفراء وجميع انواع الخـُضَر. وهذه الشجرة المباركة تزودهم بزيت الزيتون النقي فيتم لهم العيش حراً كريماً.... واشتهرت سحماتا في ما اشتهرت به من كرم اهلها وطيب لقياهم وحسن معشرهم، بزراعة التبغ واعواد الدخان التي كانت تنمو على اعلى قمم الجبال المحيطة بالقرية، وسط الصخور وبين اشجار البطم والسريس ذات الرائحة العطرة مما كان يكسب تبغها نكهة ذكية وجودة خاصة لا تضاهيها جودة في كل انحاء فلسطين بلونه الاشقر الذهبي ومشربه الناعم البارد؛ فاصبح شيئا خاصا يعرف به دخانها وتعرف هي بدخانها، وقد تفنن اهلها في فرم الدخان فرما ناعما على هاون خاص حتى كنا نشبهه ونحن اطفال بشعر البنات لرأفته ونعومته ولونه الاشقر الجميل.... كانت المواشي في فلسطين جزءا لا يتجزأ من حياة الفلاح الفلسطيني ولا ابالغ اذ اقول بأنه كان يعاملها كنفسه ولا زلت اذكر بيت الفلاح القديم وقد افرد لبهائمه مكانا خاصا لتنام معه وتحت سقف واحد. كيف لا وهي التي كانت تعمل معه وله، تزوده بلحومها غذاء لجسمه ويستعمل صوفها كساء لبدنه وجلدها حذاء لقدميه؟ وتمر الايام على هذه القرية الطيبة رتيبة، بطيئة طويلة، كما مرت من قبلها مئات الاعوام الى ان حدث ذات يوم ما عكر صفوها وكدر عيشها وظللت سماءها سحابة قاتمة بدلت افراحها احزانا ولياليها ارقا وسهادا. كانوا بضعة شبان في ربيع اعمارهم يرعون قطيعا من الماعز... كانوا يتدربون على رعاية الماشية، "كما يربو من العرب الغلام" يسيرون بأغنامهم وسط صخور الجبال المضمخة برائحة اعشاب الربيع الندية البرية فيتنقلون من موقع الى آخر طلبا للعشب والمرعى وبحثا عن عين ماء، يشربون منها ويسقون مواشيهم العطشى وقد امسك كل منهم بشبابته واطلق لحنا حزينا رددت صداه جنبات الوادي. وما ان اضحى الشمس راد الضحى، حتى وجدوا انفسهم يسرحون في ارض مراح تقع بين قريتهم وقرية البقيعة جارتهم وقريبتهم، وما هي الا لحظات واذا بهم يلتقون مع شبابها وقد جاءوا بقطعانهم الى نفس المورد ونفس المرعى على اعتبار ان الارض ارضهم والمرعى مرعاهم..... وكما يكون الشباب، حمية واندفاعا وغضبا جامحا، يتطور الى جدال صاخب، سرعان ما يتحول الى شجار عنيف فتسرع يد احدهم، وقد كان اشجعهم واشدهم بأسا واخفهم حركة، فيهوى بعصاه على رأس شاب من شباب البقيعة فيخر صريعا مضرجا بدمائه ويبقى ينزف دما في ارض بعيدة وفي حر الصيف اللافح ويتركونه ملقى على الارض.... ويهرع الشباب هربا نحو الجبال القريبة، ويختبئون في المغاور السحيقة، الى ان وصل الخبر الاليم كلتا القريتين، ومع وصول النبأ، وصلت فرقة الشرطة لتعتقلهم ثم تودعهم السجن وتبدأ دورة القضاء دورتها الرهيبة، مع كل مركباتها وجلساتها، وتأجيل قراراتها من يوم لآخر، الى ان صدر القرار الرهيب عن اعلى هيئة قضائية في البلاد يدين القاتل ويفرض عليه عقوبة الاعدام الشنيعة. ولم يكن القاتل سوى عباس ابن توفيق العبد قدورة، سيد القرية وعميد عائلتها، وقد عركته الايام وعلل النفس بالآمال يرقبها لدى ابنه وحبل المشنقة يقترب من رقبته، فأظلمت الدنيا في عينيه وانعقدت المجالس الحزينة في بيته، وقد اخذت وفود القرية تفد بجموعها مواسية علـّها تخفف من حزن هذا الوالد المهموم، وقد اطرق لا ينبس ببنت شفة، وعلاه الوجوم، وشحب لون وجهه وزاغت عيناه وشرد ببصره نحو عالم المجهول... وبينما هو في جلسته هذه، والصمت يخيم على المجلس الحزين بكل ثقله، واذا به يلمح من بعيد، شبح رجل يحث الخطى مسرعاً مهموماً، وقد يمم وجهه شطر صديقه ورفيق عمره، جاء ليعرب لصديقه عن اصدق آيات التعاطف معه، وعن شعوره المخلص مع اخ عزيز في ساعة محنته واوقات ضيقه وشدته. وما ان اقترب الرجل من مدخل داره حتى صاح توفيق بأعلى صوته كمن اصابه مس من الجنون.... "لا تدعوا قيصر سمعان يدخل علي"... وذهل الحاضرون وبهت السامعون ولم يحيروا جوابا، ولم يعلموا لماذا لا يريد عميد عائلتهم ان يدخل عليه صديقه ورفيقه قيصر السمعان. واضطربت الافكار في رؤوسهم.... الا يريد ان يراه صديقه في ساعة محنته وضعفه وقد ناء عليه الدهر بكلكله؟؟ ام ان قيصر السمعان قد اساء اليه بكلمة، ام يا ترى قصر في امر او تأخر في اداء واجبه وهو القيصر لا يقصر؟؟؟ وحار الناس في هذا الامر ولم يحيروا جوابا... كان قيصر السمعان الرجل الوحيد في ديوان الرجال الذي فهم اشارة اخيه، ولم يكن في حاجة الى من يحل له هذا الاشكال، وهو الرجل اللبيب الذي عركته الايام، وجربته السنون، ولم يكد السيد توفيق ينهي كلمته، حتى قفل قيصر السمعان راجعا من حيث اتى، وأسرع نحو ساحة داره، فأسرج فرسه، وامتطى صهوتها، وارخى لها العنان، ورآه الناس ينهب الارض نهبا الى اين يذهب يا ترى... وماذا هو فاعل بعد ان سمع ما سمع؟؟؟... وقفوا بضعة رجال يرون شبحه يغيب عنهم شيئا فشيئأ وقد يمم وجهه شطر الغرب، وما عسى ان يكون هناك؟؟ واشتعلت الافكار في رؤوس الناس وتشعبت آراؤهم، فمنهم من قال انه ذهب الى آل سرحان في الكابري، والبعض الآخر قال بلهجة الواثق: "لن يعود قيصر السمعان الى بلده" وكان هو عنهم في شغل شاغل.... كان متجها الى المدينة الكبيرة، الى عكا، وقد وصلها بأسرع ما امكن، وربط فرسه في خانها المشهور "خان شوردة" وركب اول سيارة اتيحت له، وما هي الا سويعات قصيرة حتى وجد نفسه على باب مطران العرب، كل العرب على باب الحجار (في حيفا) الذي لا يقف على بابه كائن من كان الا وقد حصل على مراده ومبتغاه. وقف قيصر السمعان بباب الحجار مستغيثا، مناديا وهو يصيح بأعلى صوته: "هيه يا سيدنا... هيه" وسمع الحجار من بعيد صوت صديقه قيصر السمعان.... وجاء صوت الحجار رزينا هادئا كعادته وبكل هيبته ووقاره وقد نادى على مساعديه قائلا "دعوا قيصر السمعان يدخل علي حالا". وبادره بالسؤال: "ما الذي جاء بك يا ولدي؟ "قصادك يا سيدنا"... "على الموجود يا ولدي... ماذا تريد؟" "اريد حياة عباس، ابن اخي وصديقي ورفيق عمري توفيق العبد وابن صديقك انت" وما ان سمع الحجار هذا الطلب حتى اطرق واجما واخذت يده تعبث بلحيته البيضاء ومال برأسه مطرقا مغرقا في التأمل والتفكير... ويجري الحجار اتصالاته الكثيرة الكثيفة الخيرة، ومضت ساعات بطولها، خالها قيصر السمعان دهرا بأكمله، والحجار يجري المكالمة تلو الاخرى، يهاتف هذا ويتحدث الى ذلك الى ان نطق الحجار اخيرا: "عد الى صديقك يا ولدي وبشّره بقرب الفرج".... "قل له يسلم عليك المطران حجار ويقول لك انزل الى المدينة واقتن لابنك بدلة جديدة فقد وهبه الله حياة جديدة".... ولم يصدق قيصر السمعان ما سمعت اذناه.... وطار من الفرح... ووجد نفسه في محطة القطار يركب اول قطار عائد الى عكا... وما درى كيف اعتلى ظهر مهرته... وكأني به يناجيها، يستحثها، يستحلفها بالله ان تعجل ما تستطيع... "هذا اوان الشد فاشتدي زيم"... والخيل في تلك الايام، وفية مخلصة، ما خيبت لصاحبها املا، ولا قطعت له رجاء... واخذت تعدو بأربعتها تسابق الريح، تنهب الارض نهباً، "تطوي المسافات طياً"... هكذا عاد قيصر السمعان الى سحماتا.... فشق جموع الناس المذهولين... ووقف بباب صديقه توفيق العبد... وقبل ان يترجل صاح من بعيد بصوت شق اجواء الصمت الرهيب: "ابشر يا توفيق... ابشر"! "لم يرد لك الحجار طلباً ولم يخيب لك املاً، ابشر فقد افرج عن ابنك وما عليك الا ان تنزل الى المدينة وتشتري بدلة العرس وتذبح العجل المسمن.... كان ضالا فوجد، وكان ميتا فعاش" وما ان نطق بهذه الكلمات، حتى علا الهرج والمرج، وهوت الكلمات على رؤوس الحاضرين كما تهوي الشهب المنيرة على الافق، وقطعت الصمت الرهيب، كما يقطع البريق حجاب الظلمة، وتبدل الحزن فرحا في دار توفيق العبد وفي سحماتا بأسرها، وطار السكون الحزين من جنبات البيت، واندفع الناس خارجين الى الساحة الواسعة، واعتلت النسوة اسطح المنازل مزغردة. ودخل قيصر السمعان وارتمى على صديقه معانقاً.... ورآهما الناس يمسحان دموعاً سالت على الخدين... وسمع احدهم يقول: "الا هكذا فليكن الاصدقاء"... وجاءه من بعيد صوت شيخ جليل كان يجلس في زاوية من زوايا البيت الفسيح: "لا بل هكذا فلتكن الرجال".... وانتظم الشباب في صف طويل، وانعقدت حلقات الدبكة الشهيرة، وابتدأت السحجة الفلسطينية والحناجر تشق عنان السماء، هاتفة هازجة بحياة الحجار، مطران فلسطين، ومطران العرب كل العرب. وعادت القرية الطيبة الوادعة، الى سابق عهدها الامين، وعادت اليها طبيعتها الهادئة، وعاد الناس الطيبون الى ارضهم الطيبة، يفلحونها خيرا وبركة. وانقشعت عن سمائها غمامة صيف عكرت صفوها الى حين. (روى لي هذه القصة الجميلة اخي وصديقي ابو العبد كامل قدورة من سكان سحماتا اصلاً ومن سكان الرامة حاليا. صغتها بهذا القالب القصصي لاضعها بين ايدي اجيالنا الناشئة لتكون عبرة وذكرى واملاً لمستقبل افضل). عن كتاب: سحماتا زهرة من رياض الجليل الأعلى include ('facebookshare.php'); ?> |
® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com |