مذبحة الطنطورة: جدلٌ أكاديمي وتاريخي وسياسي مستجدّ - هشام نفاع


تشهد منصات أكاديمية وإعلامية إسرائيلية (محدودة) منذ أسابيع جدلا متجدداً، ومتوقعاً، حول مذبحة الطنطورة التي اقترفها لواء ألكسندروني الصهيوني في القرية الفلسطينية المهجرة جنوبي مدينة حيفا، وفقاً لشهادات الناجين. وما زالت المؤسسة الإسرائيلية بجميع مركباتها، السياسية والعسكرية والأكاديمية والإعلامية، ترفض الاعتراف بها. وفي إثر فيلم وثائقي ("الطنطورة" للمخرج ألون شفارتس، 2022) تنظّمت مجموعة محاضرين جامعيين للمطالبة بإعادة الاعتبار للباحث تيدي كاتس الذي كان كتب أطروحة لنيل شهادة الماجستير حول المذبحة، ونالت علامة التفوّق، قبل أن تحتشد أصوات في مؤسسة الجامعة ضدّه داعية إلى التنصّل من بحثه.

في حينه، قدم أيضاً عناصر من اللواء المذكور المنظّمين في جمعيّة مسجّلة دعوى قضائية ضد الباحث، انتهت بتقديمه "رسالة اعتذار" تبعها قرار من جامعة حيفا بإلغاء درجة الماجستير لكاتس، وهي خطوة لفّتها علامات سؤال. مثلاً، كتب الصحافي ران إدليست (شباط 2022، "معاريف"): "المحامي أفيغدور فيلدمان الذي دافع عن كاتس أمام الجمعية، تمت إزاحته جانباً لصالح المحاميين أماتسيا أطلس وغيورا أردينست، اللذين أمليا رسالة استسلام من خلف ظهر فيلدمان، الذي لم يفهم من أين أطلّ المحاميان ولماذا قُدّمت إلى المحكمة رسالة استسلام بعد أن بذل جهداً في إعداد الملف للمحكمة، التي لم تنعقد بعد ذلك الاستسلام. ويقول: لو كنت هنا لما كان ذلك سيحدث".

المخرج شفارتس أكد أيضاً في مقابلة (شباط 2022، "تايمز أوف إسرائيل") أنه "تم الضغط على كاتس للتوقيع على خطاب تراجُع يفيد بأن المذبحة لم تحدث، وألغت الجامعة شهادته"!

خلفيّة: حمل الفيلم قيمة مضافة في سياق الإنكار الإسرائيلي

حمل الفيلم اعترافات لعناصر من ذلك اللواء العسكري، تتقاطع مع الشهادات التي جمعها كاتس من أهالي القرية الناجين. هذه الاعترافات في السياق الإسرائيلي الملفوف بالإنكار ورفض أي رواية فلسطينية عن أي قضية، هي اعترافات حملت قيمة مُضافة مهمة، فالرواية هنا قدّمها مقاتلون مسنّون صهيونيون 100%.

قال المخرج في المقابلة المشار إليها: "لقد كانوا قادرين على اختلاق الخداع، الأخبار المزيفة، لأنه لم يستمع أحد إلى أشرطة تيدي كاتس. لو كانوا قد فعلوا ذلك، فلن يكون شك في ذهن أي شخص أن شيئاً فظيعاً حدث في الطنطورة. كانت هناك عمليات قتل واسعة النطاق (...) هناك روايات مختلفة [في الشهادات] حول ما حدث، لكن عندما تستمع إلى جميعها، فالأمر مروّع وتحصل على صورة لما حدث هناك. قُتل الناس بطرق مختلفة وفي أماكن مختلفة في القرية. استغرق الأمر ما يقارب أسبوعين لدفنهم. هناك شهادات حول جثث في الموقع لم تُدفن لمدة ثمانية إلى عشرة أيام".

ادعاءات كاتس وشفارتس مدعومة بوثائق من أرشيف الجيش الإسرائيلي وخرائط جوية تاريخية حلّلها خبراء، بعضهم في الجيش، قال شفارتس إنهم يرغبون بعدم الكشف عن هويتهم. (أفادت وكالة "فرانس برس" أن الجيش الإسرائيلي رفض التعليق على الفيلم).

قابل المخرج قدامى المحاربين الذين تخطوا عمر التسعين والذين كانوا في الطنطورة واعترفوا بارتكاب جرائم قتل. وقابل أيضاً بعض الجنود القدامى "غير المرتاحين مع واقع مواصلة إنكار عمليات القتل". وهو يقول إنه عندما توجه ألى المحاوَرين لم يخبرهم بأن الموضوع هو الطنطورة تحديداً بل الحديث عن تاريخ الحرب واللواء. "عند الحديث عن تجربة الحرب، قفز عدد قليل منهم إلى قصة الطنطورة على الفور. لقد كان الأمر صادماً بالنسبة لي. وهو ما يظهر الصدمة التي رافقتهم كجناة"، يضيف.

علّق المؤرخ آدام راز على الفيلم (شباط 2022، "هآرتس") بالقول: عدد من عناصر اللواء يعترفون بأنه وقعت في الطنطورة مذبحة. يصف الجنود مشاهد قتل مختلفة، يتبين منها أن عدد القتلى في القرية أكبر بكثير من العدد الذي أعلن عنه في ذلك الوقت، نحو 20 قتيلا. وينقل أن أحد المحاوَرين "قال باختصار إن الجنود ببساطة لم يتصرفوا مثل بشر في القرية، وعاد إلى الصمت". وحتى القاضية في دعوى التشهير ضد كاتس، لم تطلع على الشهادات التي جمعها. وتقول في الفيلم وهي تستمع إلى تسجيل إحدى المقابلات التي أجراها الباحث: "إذا كان هذا صحيحا، فإن هذا خسارة، إذا كانت لديه أمور كهذه كان يجب عليه الذهاب حتى النهاية" (في دفاعه أمام جمعية ألكسندروني).

المؤرّخ بابه: القضيّة ليست الشهادة أو البحث، بل هويّة أصحابه!

قبل أسابيع قليلة تم عرض الفيلم ضمن ندوة في جامعة حيفا. وقد تحدث فيها المؤرخ إيلان بابه، الذي أجبِر على ترك عمله في الجامعة بسبب ضغوط هائلة ومعاملة عدائية شرسة، وهو اليوم محاضر وباحث في جامعة أكستر البريطانية.

في ما يأتي ترجمة خاصة لكلمته:

"إذا كان هناك شيء واضح قد علّمتنا إياه قضية طنطورة فهو أن هناك علاقة مباشرة بين الأسئلة المنهجية والأسئلة الأخلاقية. القضية الرئيسة هنا ليست مسألة الأدلة الشفوية، بل هوية الشهود، وليس حتى مضمون شهاداتهم. لقد علمتنا أيضاً أن الموضوع ليس مضمون البحث التاريخي بل هوية المؤرخ/ة. لا يعني ذلك أن هذا هو ما يجب أن يكون عليه مصير البحث التاريخي المهني، ولكن هذا كان مصير بحث تاريخي أُجري في مطلع القرن الحادي والعشرين في جامعة حيفا. الجامعة التي استدعت الشاباك، والموساد، وكلية الأمن القومي، لينالوا شهادات أكاديمية سريعة بوصفهم من المحظيين من قبل الدولة، وكذلك لموازنة صورة "بيرزيت الشمال" التي علقت بالجامعة بسبب وجود طلاب فلسطينيين بنسبة مماثلة لوزنهم بين السكان.

"إن من لا يأخذ في الاعتبار هذا السياق لقضية طنطورة سيواصل الاعتقاد بأنه يمكن في جامعة حيفا إجراء أبحاث بشكل مهني وموضوعي، لا سيما في دراسات تاريخ دولة عرّفتها منظمة العفو الدولية بأنها دولة فصل عنصري. ربما أن هذا الشعور بـ"الموضوعية" ينبع أيضاً من الرغبة في الامتناع عن إجراء تحليل أو تقييم أخلاقي لجريمة شخص ضد زميله أو دولة تجاه ضحاياها. ربما يشعر المؤرخ الإسرائيلي بالحماية، إذا كان كل ما يريده هو - كما ظهر في نقد كتابي - أن يعرف ماذا كان لون فستان الفتاة التي اغتصبها الجنود الإسرائيليون، وبأي زاوية فجّر جندي في الدوايمة جمجمة طفل وما هي الأسلحة التي استخدمها من أعدموا شباب الطنطورة على الشاطئ.

"إن الفرشاة التاريخية الدقيقة التي عادة ما يستخدمها المؤرخون لتلميع الخطوط الرقيقة للصورة التاريخية، تحوّلت في قضية الطنطورة إلى الفرشاة الثخينة الرئيسة لرسم الصورة برمّتها. لذلك، في نظر من ينتقدون تيدي كاتس ومن ينتقدونني في المؤسسة الأكاديمية الإسرائيلية، فإن كلمة "مذبحة"، ومثلها مصطلح "تطهير عرقي" الذي اخترته عنواناً لكتابي، هي ليست صوراً تاريخية مشروعة، بل مقولات متطرفة وربما حتى معادية للسامية.

"ولكن حتى يتم الادعاء بأنه من الخطأ وصف السياسة الإجرامية الإسرائيلية العام 1948 بأنها تطهير عرقي، ووصف القتل الجماعي في الطنطورة بأنه مذبحة، يجب على المرء الدخول في نقاش أخلاقي، وليس تاريخياً فقط، حول أدقّ التفاصيل، بعضها مهم وبعضها أقل أهمية. لكن هذا غير كافٍ. يتعلق الأمر بهوية من يقول إنه كانت هناك مذبحة. يمكن الوثوق بالمؤرخ الذي يعتبر صهيونياً عندما يقول إن هناك مذبحة في مكان معين، لغرض إثبات أن الاستثناء - فعل المذبحة - لا يشهد على القاعدة، الجيش الأكثر أخلاقية في العالم. وهكذا أصبح بيني موريس، الذي يأسف لعدم قيام إسرائيل بترحيل جميع الفلسطينيين العام 1948، إلى من يعطي الشرعية للمجازر. وبما أن الطنطورة فاتته، إذاً لم تكن هناك مذبحة. إذا لم يكتب بيني موريس عن الطنطورة فلم تكن هناك مذبحة. فعلاً يتعلق الأمر بهوية القائل. فجأة أصبح المؤرخ الفلسطيني وليد الخالدي، الذي تم شطبه بادعاء أنه موظف في الدعاية الفلسطينية، في نظر ماتي شتاينبرغ، مرجعية تاريخية عليا لأنه لم يكتب عن مذبحة الطنطورة. هل هذه ملاحظة منهجية أم ملاحظة سياسية؟".

خلال نصف قرن قبل 1948، أقيم نظام تعليمي عنصري أفضى للنكبة!

ويتابع بابه: "لكن فوق كل شيء، تبرز قداسة الوثيقة الأرشيفية كسلاح أخير لتحدي رواية تاريخية، مرسومة بفرشاة ثخينة، رواية تربط بين طابع الحركة الصهيونية كحركة استعمارية استيطانية وبين الجرائم التي ارتكبتها ضد الشعب الفلسطيني. حركة لم تكن تستطيع إقامة الدولة بدون تطهير عرقي أو تدمير للسكان المحليين، مثلما حدث في أميركا الشمالية وأستراليا. إنها الحركة التي تمكنت خلال قرابة خمسين عاماً قبل عام 1948، على مدى جيلين، من تشييد نظام تعليمي عنصري، إما احتقر الثقافة الفلسطينية أو تجاهل وجودها. ثم أصبح خريجوها، ومعظمهم في أوائل العشرينيات من العمر، قادة موقّرين للبلماح والهاغاناه العام 1948، حيث قادوا عملية تطهير عرقي شملت تدمير مدن فلسطين وتدمير نصف قراها وطرد نصف سكانها، بما في ذلك بواسطة المجازر والقتل. وكل هذا بعد ثلاث سنوات من الهولوكوست، التي لم تعايشها الغالبية العظمى من هؤلاء الشباب، ولم يكلفوا أنفسهم عناء فهم المسؤولية الأخلاقية التي أخذوها على عاتقهم عندما كذبوا على العالم وادعوا أنهم يمثلون ضحايا الهولوكوست، وذلك من خلال تدمير فلسطين.

"إن الوثيقة العسكرية للعام 1948 كتبها خريجو الحركة الصهيونية العنصريون: العرب، وحتى الأطفال العرب، هم العدو، وقريتهم قاعدة معادية وطردهم هو مهمة قومية. لم يزعموا الموضوعية في الوصف الذي سجلوه في الوثيقة، التي تم كتمها مدة 30 أو 50 عاماً في الأرشيف الإسرائيلي. لم تكن هناك دائما ضرورة أو حاجة للإبلاغ عن مذبحة أو اغتصاب. لأن المشكلة، كما تظهر مذكرات بن غوريون، ليست فعل الجريمة نفسها بل حقيقة أنه تم القبض عليك. ما حدث في العام 1948 يعرفه الفلسطينيون منذ ذلك الحين، ويعرفون لماذا حدث أيضاً. لقد كتبوا عنه منذ ستينيات القرن الماضي، بدون ولو وثيقة إسرائيلية واحدة. طلب العالم منهم دليلا على روايتهم، وقُيّض لي أن أكون أحد أولئك الذين قدموا دليلا. لا يجب أن يكون الأمر على هذا النحو ولكن هذا هو عالمنا وأنا راضٍ بحصّتي".

إدارة الجامعة تعاملت وردّت بتعنّت أشدّ مما سبق

هذا الموقف، وهذا الحدث (الندوة)، وهذه الأدلّة الجديدة على ارتكاب المذبحة، واجهتها مؤسسة الجامعة بتعنّت أشدّ مما سبق. فقد كتب عميد الجامعة غور ألروئي رسالة شديدة اللهجة الى مجموعة طاقم التدريس في الجامعة عاد فيها على ادعاء أن "أعضاءً في هيئة المحاضرين استخدموا كاتس وبحثه لخدمة أجنداتهم السياسية".

وتابع أنه بعد فيلم "الطنطورة"، بدأ جدل جديد "شمل ادعاءات عن الغبن الذي ألحقته الجامعة بكاتس في حينه (...) ويطالب قسم من المحاضرين إدارة الجامعة بإصلاح الغبن ومنح شهادة الماجستير لكاتس". ويقول إنه بعد أن اطلع على جميع وثائق وشهادات البحث توصل إلى استنتاج أن بحث كاتس يعاني من "مكامن خلل جوهرية" متعلقة في منهج البحث، أسلوب الكتابة وتحكيم البحث.

جاءت هذه الرسالة في محاولة لتبرير رفضه المشاركة في الندوة التي بادر إليها محاضرون ومحاضرات في الجامعة بعد الفيلم الجديد الذي اعتمد على بحث كاتس وأضيفت إليه شهادات جديدة. وعبّر منظمو الندوة عن أسفهم لرفض العميد المشاركة وأكدوا: "نحن أعضاء في هيئة التدريس بجامعة حيفا، سابقين وحاليين، ندعو إدارة الجامعة إلى التراجع عن قرار رفض النسخة المحدّثة للأطروحة. ونطالب الجامعة بإجراء أكاديمي لإعادة فحص - لا يشوبه تضارب في المصالح - لنوعية الأطروحة، من قبل محكّمين يحاذي تخصصهم موضوع الرسالة".

أخيراً: بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني وأنصاره فإن الأدلة أكيدة على هذه المذبحة الصهيونية. وبنات وأبناء الطنطورة وسائر الشعب الفلسطيني يعرفون الأدلة على المذبحة من روايات الناجيات والناجين الذين فقدوا أحباءهم، ومن الذاكرة الحية المسجلة تفاصيل أيامها بالدم. وعناصر اللواء العسكري يؤكدون اليوم ما سبق إنكاره وما رواه ويرويه أهل القرية المهجرة. لقد تم التطرق مراراً إلى سياسة منع كشف مئات ألوف الوثائق الموجودة في أرشيف الدولة وأرشيف الجيش وغيرهما، لأنها تلقي الضوء على العتمة التي تحاول دولة إسرائيل تكريسها، بغية مواصلة إنكار النكبة والتهجير وما رافقهما من جرائم وحشية. (ملحق "المشهد الإسرائيلي"، مركز "مدار"، رام الله)

عن الاتحاد
1/7/2022





® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com