|
في مواجهة الهيمنة الأميركية... لماذا تصمد كوبا ولا تصمد مصر؟ - جمال واكيم
كوبا التي ثارت على السياسات الأميركية التي فرضت عليها في الخمسينيات من القرن الماضي استطاعت الصمود أمام محاولات الولايات المتحدة للهيمنة عليها على الرغم من 6 عقود من الحصار.
في العام 2017 وخلال زيارتي لكوبا التقيت بالإعلامية الكوبية الشهيرة أرلين رودريغز ذات الخبرة الطويلة في مجال الإعلام والتي عملت في مرحلة من المراحل كمستشارة إعلامية للزعيم الكوبي فيدل كاسترو. وفي حوار معها فاجأتني بقولها: هل تعرف أن كوبا خلال الخمسينيات شكّلت المختبر الرئيسي بالنسبة للولايات المتحدة لتطبيق نظريات المحافظين الجدد في الاقتصاد والسياسة؟ وتشعّب الحوار ليفصّل كيف قام المحافظون الجدد بتطبيق نظرياتهم في تقليص دور الدولة في إدارة الاقتصاد والمجتمع، وفي خصخصة القطاعات الاقتصادية في البلاد كافة في عهد فولخانسيو باتيستا (1952-1959) خلال الفترة التي حكم فيها كوبا بشكل مباشر، علماً أنه كان الرجل القوي في البلاد منذ العام 1933 وحتى تاريخ الانقلاب الذي قاده إلى السلطة في العام 1952. كوبا خلال الخمسينيات: مختبر للسياسات النيوليبرالية! خلال فترة حكمه المباشر، أقام باتيستا علاقات قوية مع دوائر السلطة في الولايات المتحدة وعلى رأسها الشركات الكبرى ورجال المافيا، وعمل على خصخصة كل القطاعات الاقتصادية التي سيطرت عليها الشركات الأميركية مثل شركة الفواكه الأميركية المملوكة لوزير الخارجية الأميركي آنذاك جون فوستر دالاس ولشقيقه آلان دالاس مدير الاستخبارات المركزية الأميركية، والتي سيطرت على الإنتاج الزراعي الكوبي، وشركة الهاتف الأميركية التي سيطرت على قطاع الاتصالات وشركات النقل الأميركية التي سيطرت على قطاع النقل، إلخ. بل إنّ الخصخصة طالت أيضاً قطاع الصيد البحري إذ منحت شركات صيد أميركية الحق الحصري بصيد أنواع من السمك منها "بلو مارلين" التي تكثر في منطقة الكاريبي، والتي كانت مطلوبة بشكل كبير في منطقة شرق آسيا لاعتقاد الأثرياء اليابانيين والصينيين أن زعانف هذه السمكة تمتلك مواد تعتبر مقويات جنسية. حتى أن رواية الشيخ والبحر التي كتبها الروائي الأميركي، أرنست همنغواي، الذي كان يعيش في هافانا، كانت مستوحاة من حادثة وقعت فعلاً في كوبا. فقد كان صياد سمك كبير في السن يريد إعالة أولاد ابنه المتوفى قد اصطاد سمكة "بلو مارلين" التي كان يشملها الاحتكار، فأوقفه شرطي وأراد مصادرة السمكة، فما كان من الصياد إلا أن قتل الشرطي. هذا كان يدلل إلى أي مدى كانت قد وصلت عملية الخصخصة في كوبا وعملية تصفية الدولة بما يتيح للشركات الأميركية السيطرة على الاقتصاد والمجتمع. كل هذا كان يصب في خدمة استراتيجية الهيمنة الإمبريالية الأميركية وعدم اللجوء إلى التدخل العسكري إلا في حالات المقاومة من قبل الدول لهذه الهيمنة. وهذا ما يفسر اندلاع الثورة الكوبية بقيادة فيدل كاسترو بدءاً من الهجوم على ثكنة المونكادا في 26 تموز/يوليو 1953 وحتى انتصار الثورة في ليلة رأس السنة 1958 – 1959. لقد شكلت الثورة الكوبية ردة فعل بالدرجة الأولى على عمليات الهندسة الاجتماعية التي قامت بها الولايات المتحدة في كوبا خلال الخمسينيات. مصر في ظل النموذج الاشتراكي هذا يقودنا إلى مصر في الستينيات، ففي ظل قيادة جمال عبد الناصر تمكّنت مصر من تأدية دور ريادي عربياً وعالمياً بالاستناد إلى مشروع دولة قاده الزعيم المصري الراحل يستند إلى تدعيم دور الدولة في إدارة المجتمع والاقتصاد. هذا يفسر قيام عبد الناصر بالسعي لإنشاء جيش قوي من جهة وبناء بنية صناعية ضخمة في مصر تمثلت بإنشاء آلاف المصانع. كان من شأن ذلك إقامة قاعدة اجتماعية تحمي الثورة وتشكل رافعة للدور المصري المستقل في العالم. لكسر مصر والسيطرة عليها دعمت الولايات المتحدة أعداءها وخصومها وسعت إلى محاصرتها وصولاً إلى دعم محاولة من قبل الإخوان المسلمين للانقلاب على نظام الحكم والقيام بأعمال تخريبية في العام 1965. وعندما لم تنجح كل هذه المحاولات دعمت الولايات المتحدة "إسرائيل" في عدوانها على مصر والعرب في حرب الأيام الستة في العام 1967. رغم ذلك فإن مصر بقيادة عبد الناصر صمدت وخاضت حرب الاستنزاف ضد "إسرائيل" بين العامين 1967 و1970 ووضعت خططاً لإزالة آثار العدوان اكتملت في صيف العام 1970. إلا أن الزمن لم يمهل عبد الناصر الذي توفي في 28 أيلول/سبتمبر 1970 تاركاً السلطة من بعده لنائبه أنور السادات. خلافاً لعبد الناصر فإن السادات كان جزءاً من التحالف الذي تشكل بين ضباط الجيش والبيروقراطية المصرية وفلول الرأسمالية المصرية والإقطاع. وكانت توجهاته السياسية قد ظهرت جلية بعد أسابيع قليلة من استلامه مقاليد السلطة حين بدأ باتصالات سرية مع الولايات المتحدة مبدياً استعداده لتسوية سلمية مع "إسرائيل". وبعد حرب أكتوبر 1973 التي شنها السادات مكرهاً نتيجة الضغوط التي مارسها عليه الجيش والشعب ونتيجة عدم تجاوب "إسرائيل" والولايات المتحدة مع مبادراته السلمية، استفاد السادات من النجاح الذي حصد ثماره ليخوض سياسات جذرية بدأت بنقل مصر من المعسكر المعادي للولايات المتحدة إلى المعسكر الموالي لها. مصر في ظل السياسات النيوليبرالية وبنتيجة هذا الانتقال الجذري تحت مظلة النفوذ الأميركي فإن السادات ارتضى تطبيق جملة من السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي طالبت بها الولايات المتحدة بذريعة الإصلاح الاقتصادي. وكان من ضمن هذه الإجراءات البدء بخصخصة القطاع العام الضخم الذي تركه عبد الناصر خلفه، إضافة إلى البدء بتقليص دور الدولة في الاقتصاد عبر تحرير الاقتصاد ووضعه في يد القطاع الخاص الذي استحصل على رأسمال من الدوائر المالية العالمية برضى أميركي (مثل حالة عائلة سويرس) عدا عن تقليص الدعم للسلع الرئيسية كالقمح. هذه الإجراءات التي اتخذت على عجل وخلال سنوات ثلاث فقط (1974 – 1977) ستكون لها آثار كارثية على المجتمع المصري ما سيدفعه إلى التمرد وإطلاق انتفاضة ضخمة في 17 و18 كانون الثاني/يناير1977 ما جعل السادات يوقف الكثير من المفاعيل الاقتصادية خشية على نفسه. وقد تواصلت عمليات الخصخصة خلال عهد الرئيس حسني مبارك (1981 – 2011) ولا سيما في العقد الأخير من حكمه على يد رجال أعمال تحلقوا حول ابنه جمال الذي كان يطمح في خلافة أبيه في الرئاسة. وكان هذا أحد العوامل في الانتفاضة التي حدثت في كانون الثاني/يناير2011 والتي أطاحت بمبارك. ولقد شكلت مرحلة حكم الإخوان القصيرة في مصر محاولات لمزيد من خصخصة القطاع العام، وهو ما تواصل في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي وصولاً لبيع مصنع الحديد والصلب والذي كان من أهم المشاريع الاقتصادية التي أقامها عبد الناصر، وطرح قناة السويس للخصخصة وهي القناة التي استعادها المصريون بدمائهم في العام 1956. لقد شكّلت السياسات التي قدّمت لمصر من الخبراء الاقتصاديين الأميركيين والغربيين ومن صندوق النقد والبنك الدوليين مساعي لتقليص دور الدولة في الاقتصاد والمجتمع وجعل الدولة هلامية مفتقدة للبنى والأعمدة التي تحصّنها أمام محاولات الهيمنة الأميركية. هذا جعل مصر خلال المرحلة التي تلت العام 1974 طيّعة بيد الولايات المتحدة ولو كان ذلك على حساب عناصر أمنها القومي. فنجدها اليوم غير قادرة على حماية أمنها القومي في ليبيا أو وادي النيل أو البحر الأحمر أو في بلاد الشام. بل إننا نجدها تسارع لتكون المسهل للسياسات الأميركية في الشرق الأوسط والتي تأتي على حساب الأمن القومي العربي والأمن القومي المصري. وقد اعتمدت السياسات الأميركية للهيمنة على مصر كنموذج يطبّق على أي بلد تسعى الولايات المتحدة للهيمنة عليه. فهذا كان حال لبنان في ظل رفيق الحريري (1992-2005) والأرجنتين في ظل كارلوس منعم (1989-1999) وتركيا في ظل عدنان مندريس (1950-1960) وتورغوت أوزال (1983-1993) ثم في ظل رجب طيب إردوغان (2002-حتى الآن). خلاصة وتكثر الأمثلة حول العالم في تطبيق الولايات المتحدة للسياسات النيوليبرالية القاضية بخصخصة القطاع العام وتقليص دور الدولة في المجتمع لوضع هذه الدول تحت الهيمنة الأميركية. في المقابل فإن كوبا التي ثارت على السياسات الأميركية التي فرضت عليها في الخمسينيات من القرن الماضي استطاعت الصمود أمام محاولات الولايات المتحدة للهيمنة عليها على الرغم من 6 عقود من الحصار التي فرضت عليها. هذه الجزيرة التي لا تتجاوز مساحتها 110 آلاف كيلو متر مربّع ولا يتجاوز عدد سكانها 11 مليون نسمة لا تزال تتحدى واشنطن رغم أنها لا تبعد أكثر من 90 ميلاً عن ولاية فلوريدا الأميركية. وتتميز الدول التي تواجه الهيمنة الأميركية بدور محوري للدولة في إدارة الاقتصاد والمجتمع مثل الصين التي حقّقت خلال عقود قليلة معجزة اقتصادية لتصبح الاقتصاد الثاني في العالم، ومثل روسيا في ظل فلاديمير بوتين حيث استعادت الدولة دورها المحوري في الاقتصاد بعد القضاء على الأوليغارشيين المرتبطين بالرأسمال الغربي. 07/01/2023 عن الميادين include ('facebookshare.php'); ?> |
® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com |