رسالة الأسرى الأخيرة قبل الاستشهاد - د. فايز رشيد

كتب الأسرى الفلسطينيون المضربون عن الطعام لليوم الخامس والخمسين على التوالي (حتى هذه اللحظة) رسالة ً من معتقلاتهم وأرسلوها إلى الخارج، أرّخوها في 8 يونيو/حزيران الحالي. بعثوها إلى الفلسطينيين والأمة العربية وإلى كل من يتضامن معهم على صعيد العالم. الأسرى معتقلون بموجب القانون الإداري، الذي هو من مخلفات عهد الاحتلال البريطاني لفلسطين، ومعمول به في إسرائيل فقط دون كل دول العالم، وبموجبه يتم توقيف المعتقل ستة أشهر قابلة للتجديد إلى مدة غير محدودة، ومن دون توجيه أي تهمة إليه. الرسالة عاطفية، إنسانية، مؤثرة كثيراً ونظراً لأهميتها ننقل فحواها إلى القراء الكرام.

سمّى المعتقلون الرسالة «النداء الأخير» كونها قد تكون الأخيرة قبل استشهاد العديد منهم، ومما جاء فيها «بعد مغادرة الزنازين التي لم تعد تسمح لآلامنا وأمراضنا وأجسادنا المتآكلة. من أسرة المستشفيات التي تقيدنا بها السلاسل والقيود وكلاب الحراسة.. من بين السجانين الذين يراقبون أجهزة النبض المتأهبة لإعلان خبر الموت.. من حافة الموت نوجه نداءنا الذي ربما يكون الأخير للبعض منا.. نوجه وصيتنا التي ربما آن الأوان لإعلانها قبل أن نلقى شهداء شعبنا منتصرين لكرامتنا. نداؤنا صوت، صوتنا، نبضاتنا، وصيتنا، نحن ـ الأسرى الإداريين الداخلين صوب الخلود، الماضين لعناق شمس الكرامة كنهاية لمعركة الكرامة ـ نعلي صوتنا ليصل إلى شعبنا المنتفض».

وصية الأسرى تتركز في المطالب التالية: أولاً تكثيف إسناد إضراب الذين لم يستشهدوا بعد، وهم «الجنود الملتحمون مع العدو الفاشي، وهؤلاء يستحقون وقفة وفاء تمنع استمرار نزيف الدم الذي لن ينضب حتى تحقيق مطالبهم العادلة.

ثانياً: التبرع بأعضائهم الصالحة «فلا بد أن يكون بعضها تالفاً وذلك استمراراً لتضحياتهم التي لن يوقفها الموت، لكل المحتاجين لها من المناضلين والفقراء والمضطهدين. والذين سيبقوا منهم أحياء، هم بانتظار زيارة الصليب الأحمر لهم للتوقيع على هذه التبرعات.

ثالثاً: «وصيتنا لكم بالوفاء لدمائنا ودماء الشهداء الذين سبقونا، فالوفاء ليس كلمات عابرة بل ممارسة ثورية لا تعرف التردد أو الوهن».

رابعاً: التمسك بالحقوق التاريخية وعدم التفريط بذرة من تراب فلسطين من النهر إلى البحر «فالحقوق التاريخية الفلسطينية لا يمكن استردادها من دون لغة القوة التي لا يفهم العدو الإسرائيلي سواها».

خامساً: عدم خذلان من سيتبقى خلفهم من الأسرى الأحياء «فمن قدم حريته ثمناً لحرية شعبه يستحق الحرية لا الموت».

وختم الأسرى رسالتهم بالتوجه إلى شعبهم في الوطن والشتات وإلى أمتهم وإلى احرار العالم ومناضليه بأنهم سيسمعون صرختهم رغم عتمة القبور لأموات العالم أجمع. «إن شعبنا باقٍ على العهد وسينتصر. نودعكم مبتسمين، شهداء مع وقف التنفيذ».

رسالة عنوانها: الوفاء للوطن والشعب، لحقوقه التاريخية ولأهدافه، ولنضالاته المستمرة منذ ما يقارب القرن الزمني. إنها الوفاء للشهداء الذين قدموا أرواحهم في سبيل فلسطين. إن الرسالة تعكس صورة الوفاء العالية عنوانها: التضحية بالنفس رخيصةً من أجل الوطن. تعكس تركيزاً كبيراً على قضية الأسرى المعتقلين خلف قضبان السجون والمعتقلات الصهيونية وعددهم يقارب 5200 معتقل ومعتقلة . الرسالة تعكس التضحية بالنفس للأسير المضرب حياً وشهيداً، ففي حياته لم تنل السجون من إرادته، فالمعتقلون حولوا السجون إلى مدارس نضالية تزيد من انتمائهم لقضيتهم والتصاقهم بها. المعتقلون يؤكدون حقيقة، أن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة، فالعدو لا يفهم لغة سوى القوة، وبها وحدها يحقق الفلسطينيون أهدافهم وينالون حقوقهم. والحق التاريخي للفلسطينيين والعرب يتمثل في فلسطين التاريخية «من النهر إلى البحر» وليس في دويلة هزيلة على جزء ضئيل من الأراضي التي تم احتلالها من العدوان الصهيوني عام 1967. الأسرى الفلسطينيون تجاوزوا العصبوية التنظيمية لصالح القضية العامة الفلسطينية فلا فرق بين هذا الفصيل أو ذاك. الكل مجمعون على نفس الأهداف والمطالب، وهذا ما يذهل العدو الذي يعمل باستمرار على زرع الفتنة بينهم. في المآزق الفلسطينية يخرج صوت الأسرى موحداً، مخاطباً كافة الفصائل يدعوها إلى اللحمة وإلى تحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية وإلى النضال معا في سبيل القضية.

بعد انقسام عام 2007 المشؤوم، تنادى المعتقلون الفلسطينيون في السجون الصهيونية إلى بحث أسس يعيدون بها الوحدة بين الفصائل من جديد، فصاغوا ورقةً من أجل تجاوز الانقسام والوحدة الوطنية وأرسلوها إلى الفصائل الفلسطينية التي كانت تجتمع في القاهرة من أجل المصالحة .الفصائل كافة أجمعت على الموافقة على اقتراحات الأسرى في اتفاقهم الذي تم التوصل إليه، إلا أنه للاسف لم يجر تطبيقه آنذاك. الاتفاق الأخير بين حركتي فتح وحماس اعتمد ورقة الاسرى التي جرى الاتفاق عليها في القاهرة عام 2009.

قريباً، سيقر الكنيست الصهيوني قانوناً يجبر إطعام الأسرى بالقوة، وبالفعل تم نقل ما يقارب 80 أسيراً إلى المستشفيات الصهيونية. الأسرى في المستشفيات مكبلون بأسرتهم، ويتعرضون لضغوطات نفسية من الطواقم الطبية التي لا تمارس رسالتها الإنسانية في التعامل معهم كما تقتضيه الأعراف والحقوق الإنسانية والقانون الدولي. وفي حالة إطعامهم بالقوة ستهدد حياة الكثيرين منهم بالموت. القانون مخالف للقوانين والأعراف الدولية وهو ليس أكثر من وسيلة تعذيبية يرفضها القانون الدولي والأعراف الطبية. التحية لأسرانا في معركتهم، معركة الأمعاء الخالية، وأدنى حقوقهم علينا أن نقف معهم ونسمع صوتهم في كل أنحاء العالم.


كاتب فلسطيني
18/6/2014








® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com