للعنصرية والظلم حدودًا - صلاح دباجة


كشفت الاحتجاجات المتصاعدة في الولايات المتحدة وحول العالم بعد جريمة اغتيال المواطن الامريكي من أصول افريقية على ايدي افراد الشرطة العنصريين عن حقيقة الاعلام الغربي الذي طبل وزمر على مدار عشرات السنين للديمقراطية وحقوق الانسان ودولة الرفاه الاجتماعي في العالم الرأسمالي وزعيمة هذا العالم امريكا التي نصّبت نفسها "مدافعة" عن حقوق الانسان على مستوى العالم ولم تتورع عن فرض العقوبات الاقتصادية على عشرات الدول وحتى ان تخطط للثورات الملونة ضد العديد من الانظمة في اوروبا واسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية بذريعة "الدفاع" عن حقوق الانسان والديمقراطية وها هي اليوم تعيش حالة مشابهة لما شهدته تلك البلدان من ثورات ملونة.

والمثير للاستياء في الاعلام الغربي هو التجاهل شبه المطلق لعمليات الاغتيال والجرائم التي يقترفها الاحتلال الاسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة وفي الداخل الفلسطيني وهي شبه يومية وعلى مدار عشرات السنين لمجرد ان الامر مرتبط بالحليف الموثوق للامبريالية!! فقبل ايام قليلة من اغتيال الامريكي جورج فلويد جرت جريمتا اغتيال الشاب مصطفى يونس في تل ابيب والشاب المعاق اياد حلاق في القدس دون ان يحدث ذلك أي ضجة اعلامية اسرائيليًا او على مستوى العالم وكأن الدم الفلسطيني مهدور!!

والإعلام الغربي، الذي حاول الايهام طوال عشرات السنين بان النظام الرأسمالي نجح في ترسيخ اسس دولة الرفاه والخدمات الى جاء وباء الكورونا لينسف كل هذه الادعاءات من جذورها حيث بدت دول اوروبا والولايات المتحدة على حقيقتها ذليلة وعاجزة عن مواجهة تفشي الوباء الذي حصد ارواح عشرات الألوف في كل دولة من هذه الدول. وأظهر مدى هشاشة النظم الصحي فيها مقارنة مع دول مثل الصين وكوبا وروسيا ودول اوروبا الشرقية التي كانت سابقًا ضمن الكتلة الاشتراكية.

وكم تباكى الاعلام الغربي على حقوق الانسان والديمقراطية أولًا في الاتحاد السوفييتي ودول الكتلة الاشتراكية سابقًا والصين وكوبا والعراق ولاحقًا فنزويلا وبوليفيا وإيران وسوريا ولبنان واليمن وفي عشرات الدول الاخرى ويبدو ان الهدف من ذلك واضح هو اخضاع هذه الدول للهيمنة الامبريالية وابتزاز ما يمكن من ثرواتها الى ان جاء الاغتيال الوحشي العنصري لفلويد وتفجرت الاحتجاجات في داخل الولايات المتحدة وانتقلت بسرعة الى دول اوروبا، بريطانيا وفرنسا والمانيا وهولندا واليونان ونيوزيلندا وكندا. كما طالبت كل من الامم المتحدة والاتحاد الاوروبي الصين وروسيا وايران بعدم الافراط في استخدم القوة ضد المتظاهرين واحترام مطالبهم.

ما يجري في الولايات المتحدة اليوم ليس مجرد تظاهرات واحتجاجات انما ما يشبه ثورة ضد العنصرية الاميركية ضد الغبن اللاحق بالمواطنين من ذوي البشرة السوداء والسمراء.

فصرخات الاحتجاج لم تقتصر على مكان الجريمة مدينة منيابوليس وانما اجتاحت العديد من الولايات وعشرات المدن المركزية منها نيويورك وواشنطن حتى انها وصلت البيت الأبيض. وتم نشِر جنود الحرس الوطني بأسلحتهم الفتاكة في خمس عشرة ولاية وفرضت السلطات المحلية حظر التجوال في عشرات المدن. وهو أمر لم يحدث منذ اندلاع أعمال الشغب التي أعقبت اغتيال مارتن لوثر كينغ في عام 1968

فاحتداد التظاهرات والإصرار عليها واتساعها غير المسبوق وانخراط فئات واسعة من ذوي البشرة البيضاء (من الحزب الشيوعي ومن أنصار ساندرز وغيره من قوى اخرى معادية للعنصرية) وتواصلها على مدار عشرة أيام، على الرغم من تهديدات ترامب الوقحة بقمعها وإنزال الشرطة العسكرية لمواجهة المحتجين والتهديد بإنزال الجيش الى شوارع المدن واستخدم الكلاب الشرسة ضد المتظاهرين تؤكد اننا امام إصرار غير مسبوق للمحتجين على تحقيق مطالبهم العادلة ولاشك ان في مقدمتها الإطاحة بترامب العنجهي والمحرض البغيض على العنصرية والانقسام وذلك على الرغم من شراسة قوى الامن المدججين بمختلف انواع الاسلحة والقنابل المسيلة الدموع واعتقال قرابة 10 آلاف محتج.

اغتيال فلويد لم تكن الحادثة الأولى من نوعها خلال السنوات الاخيرة. فقد سبقها عشرات الحوادث المماثلة وصاحبت هذه الحوادث احتجاجات شعبية على بطش الشرطة وعنصريتها في 2010 وفي 2013 و2014 و2015 و2018.

فعلى الرغم من الاعلان عن تحرير العبيد سنة 1865 إلا أن هذه الظاهرة لا تزال متأصلة في المجتمع الامريكي وتجلت فيما بعد في نظام الفصل العنصري، الذي أسس له البيض بعزل أنفسهم وأماكن سكناهم عن المواطنين من أصول إفريقية. وظهرت قاعات انتظار ومقاهي ومراحيض عامة خاصة بالبيض وأخرى بالمواطنين من أصول افريقية، كما افتتحت جامعات ومدارس مفصولة، وخصصت في حافلات ووسائل النقل أماكن خاصة للّونين.

وفي الثلاثينات من القرن الماضي، حظرت الحكومة الأمريكية على المواطنين من أصول إفريقية السكن في مناطق وأحياء معينة في البلاد، سميت بمناطق الخط الأحمر، الأمر الذي مهد لظهور أحياء ومناطق لسود البشرة وأخرى للبيض، واستمر هذا الفصل حتى سنة 1960. وعندها بدأت إستراتيجية جديدة وهي انتخاب أصحاب البشرة السوداء للمناصب العليا. ففي آذار 1969 كان عدد السود في المناصب الحكومية المهمة 994 رجل و131 امرأة في الولايات المتحدة كلها. أما في آذار 1975، فقد تضاعَفَ هذا العدد ثلاث مرات ليصل إلى 2969 رجل و530 امرأة. ومع تزايد أعداد ذوي البشرة السوداء في المناصب المهمة، كان الحراك في الشوارع يخفت تدريجيًا.

وهذه الاستراتيجية اسهمت باتساع الطبقة الوسطى من أصحاب البشرة السوداء، فأبناء هؤلاء الموظفين الكبار استطاعوا للمرة الأولى اختراق مؤسسات الصفوة التي كانت من قبل مُغلَقة في وجوههم. صار بإمكانهم آنذاك أن يجلسوا على طاولات الشركات العابرة للقارات وأن يعيشوا في أحياءٍ كانت حكرًا على الأغنياء البيض. وبلغت هذه الإستراتيجية ذروة نجاحها بانتخاب باراك أوباما في 2008.

وهذا ما حمل الإعلام الغربي على الترويج بان الولايات المتحدة كمجتمع تجاوَزَ العنصرية. لكن لم يمضِ وقتٌ طويل حتى بدأت تلك الصورة بالتصدُّع. فالامريكيون من أصول افريقية هم الاكثر فقرًا في المجتمع وان الفجوة الاقتصادية بينهم وبين البيض تزداد اتساعًا يومًا بعد يوم وبسرعة مذهلة واذا كانت نسبتهم لا تزيد عن 14% من السكان لكن نسبتهم في السجون زادت عن 40% من مجموع المساجين.

اما الرعاية الصحية التي يحصل عليها ذوي البشرة السوداء فهي أقل من الرعاية الصحية التي يحصل عليها ذوي البشرة البيضاء. أيضاً نسبة الوفيات لدي النساء من أصول افريقية أثناء الولادة هي 3 أضعاف عند النساء البيض. وإنّ ما زاد من تفاقم العنف العنصري المتواصل ضدّ الأميركيين الأفارقة هو تأثير وباء كورونا على فئات الطبقة العاملة من الملونين في كل الجوانب. فهم الذين يلقون حتفهم بمعدلات هي الأعلى بين مكونّات المجتمع الأميركي فـ 70% من ضحايا الكورونا في لويزيانا هم من أصول افريقية مع انهم يشكلون 32% فقط من سكان الولاية!! اما في شيكاغو فحوالي 72% من الوفيات هم أيضًا من أصول افريقية ، الذين يشكلون 30%!! فامتداد النظام العنصري على مدار عقود حالت دون حصول أغلبية العائلات من سود وسمر البشرة على الرعاية الصحية الجيدة والسكن ميسور التكلفة والضمان المالي، وجاءت أزمة الكورونا لتفتح أبواب هذه التفاوتات على مصراعيها. هذه كلها مؤشرات تؤكد وجود مشكلة نظام في الولايات المتحدة وهذا ما أدركه المناضلون من اصول افريقية من أمثال مالكوم إكس ومارتن لوثر كينج. فكتب اكس في العام 1964: "لا يمكن أن يكون هناك رأسمالية بلا عنصرية". أما كينج فقد جادل عام 1967 بأن "شرور العنصرية والاستغلال والعسكرة هي كلها أشياء مرتبطة ببعضها .. لن نستطيع التخلص من إحداها دون التخلص من البقية".

وتوصَّل كلٌّ من مالكوم و كينج إلى قناعةٍ بأن العنصرية هي مرضٌ مزمن مُتوطِّن في الرأسمالية وليست مجرد انحراف يمكن التخلُّص منه بالإصلاح والتعليم، ذلك أن الرأسمالية تعتمد في بقائها على مبدأ فرق تسد.

اما كورنيل ويست، أحد أبرز المثقفين الأمريكيين من أصول افريقية، فاستنكر بشدة دعوة وسائل الاعلام بترك الشوراع واستخدم الوسائل "الديمقراطية بالقول: "لقد جرَّبنا وجوهًا من السود في أعلى المناصب. النظام لا يستطيع إصلاح نفسه. البديل هو الثورة. وما أعنيه بالثورة هو المشاركة الديمقراطية في السلطة والموارد والثروة والاحترام".

من جانبه طالب الملياردير الأمريكي من أصول إفريقية، روبرت جونسون، سلطات بلاده بدفع تعويضات للسكان ذوي البشرة السوداء، بقيمة 14 تريليون دولار، تعويضًا عن فترة العبودية بهدف الحد من عدم المساواة العرقية في البلاد.

ولفت رجل الأعمال الامريكي الى إن أموال التعويضات هذه، ستخصص لتطوير "أعمال السود التجارية" وتحفيز الاقتصاد.

وقال جونسون في هذا السياق: "لقد مرت أكثر من 200 عام على العبودية، ولم يتم دفع أي تعويض عنها".

وبيّن أن قلة المال لدى الأمريكيين من أصل إفريقي في الوقت الراهن، تتيح لهم فرصا أقل للحصول على التعليم، الذي هو بمثابة "القوة الدافعة الرئيسة وراء تراكم الدخل والثروة".

من الواضح ان مثل هذا الطرح يؤكد حقيقة انه لا مجال للتهادن بين المحتجين الآن في شوارع المدن الامريكية في مختلف الولايات وبين النظام الذي يعتمد على القوة المسلحة لقمع المحتجين دفاع عن النظام. وهناك من يحاول ان يصور ان الشرطة العسكرية وقوى الأمن، بما تملكه من أسلحة آلية حديثة وهراواتٍ وقنابل غاز ودبابات، أقوى من أن تُهزم. لكن ما هو مؤكد من التجربة التاريخية، انه مهما عظمت خسائر المحتجين فان الشعب لا يهزم ولثورة الشعب أسلحتها وهي لا تنضب. المدارس والمصانع والمكاتب والمستشفيات ونظام النقل حيث يعمل ملايين الناس، وتوقفهم عن العمل تنهار المنظومة بأكملها. وان المهمة والملحة الآن هي نقل روح المقاومة من الشوارع إلى هذه أماكن. فهؤلاء الملايين الذين دُمِّرَت حياتهم بالعنف الاقتصادي للدولة يجب يعوا أن المنظومة المستعدة للتضحية بهم من أجل الربح هي نفسها التي تستخدم العنصرية للإبقاء على انقسامهم وطحنهم. فالثورة مهمةً لست سهلة، لكننها آتة لا محالة.

عن الاتحاد 5/6/2020




® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com