الحراك في مواجهة الأيقونات المكسورة - واسيني الأعرج


عندما أزيح الغطاء عن الدولة العميقة أو العصابة، كما درج على تسميتها، اكتشف الجزائريون فجأة وبشكل مفجع حجم الفساد الذي كان يتخفى وراء رئيس جمهورية لا يملك من الرئاسة إلا الاسم وكرسيا متحركا لا يشبه كراسي الحكم الأخرى، في حين كانت عصابة مهيكلة في شكل مافيا تستسخف شعبا بكامله، وتنتهك حرمة المال العام، وتحترف الفساد، وتدير شؤون البلاد وفق مصالحها الخاصة جدا. ولم يشذ عن ذلك حتى الذين أوكلت إليهم مهمة تسيير البلاد والحفاظ عليها، بدءا من رؤساء الحكومات، مرورا بما يسمى برجال الأعمال (أصحاب من لحيته، وبخّر له) وانتهاء ببعض الجنرالات الذين تورطوا في الفساد. أي أن النظام برمته، الذي نوّم الجزائريين بخطابات الثورة والشرعيات النضالية الزائفة، لم يكن يؤمن بشيء إلا بنفسه، إذ كان أول من خان شعاراته الثورية. الشعب أدرك ذلك في وقت مبكر، لكن مخياله الثري والغني في رسم التفاصيل لم يكن ليرقى إلى حجم هذا الفساد الذي شمل كل القطاعات بشكل مفجع. عندما سئل رئيس تركيا، الطيب أردوغان، عن سر النجاح الاقتصادي الذي حققته تركيا في سنوات قليلة، أجاب ببساطة: لأننا لا نسرق المال العام.

بلاد بأربعين مليون نسمة، وبدخل وطني يتجاوز المائة مليون دولار سنويا، دون الحديث عن دخل المعادن الثمينة الأخرى كاليورانيوم الذي يباع سريا، والذهب الذي لا نعلم عنه الشيء الكثير، والثروات النادرة، ينتهي أبناؤها طعما للبحار؟ إلى اليوم، لا يعرف الجزائريون أين تذهب خيراتهم خارج النفط مثلا؟ كيف يستورد القمح بكميات تضعنا في الرتب العالمية الأولى وخيرات الأراضي الزراعية التي لا تحصى تترك حتى تتعفن؟ الحبوب والبقول والطماطم والبطاطس والتمور تفسد في أمكنتها، بالخصوص بعد استصلاح أراضي الجنوب، ويتم استيراد المواد الزراعية نفسها، بجودة أقل، من جهات عالمية مختلفة. تتحكم عصابات الاستيراد والموانئ في السوق الوطنية كليا.

ولم يفكر النظام الفاسد من أساسه إلا في بناء السجون والمحاكم الجديدة، بنظم حديثة وجد متطورة، «اللي يحفر حفره لخوه يطيح فيها»، يقول المثل الشعبي. ولم يكن النظام يعلم أنه كان يبني سجونا ستكون عصاباته السرية والمعلنة هي أول من يدشنها. كثير من رموزه ينامون اليوم فيها بعد تهم قضائية، عسكرية ومدنية، ثقيلة ضدهم تتعلق بنهب المال العام مباشرة وتحويله إلى ريع ثابت يستفيدون منه، وبتفكيك العقار للانقضاض عليه خارج حتى القوانين التي وضعها النظام نفسه. ملايين الهكتارات، وملايير الدولارات استقرت بين أيدي مجموعات الدولة العميقة. مافيا منظمة تعودت على أن تستفيد ويحمي بعضها ظهور بعض، بقوانين الجمهورية المفرغة من أي معنى.

لا شيء سوى مجموعات المصالح، تتآكل فيما بينها، ومتفقة في الوقت نفسه، على إسكات الشعب بضخ المال وكذبة نفخ الرواتب التي تتوازى مع التضخم الذي وصل إلى درجات خطيرة، على حساب العمل كقيمة عليا. الأكثر فداحة من هذا كله، فقد تم قتل المرجع التاريخي للسلطة بعد امّحاء أغلبية الأيقونات الرمزية المتبقية ومسخها لدرجة أن تسطح كل شيء، وكأن عهد الثورة كمرجع انتهى بشكل تراجيدي، ولفظت الأيقونات الثورية أنفاسها الأخيرة، وآن لها أن تصمت نهائيا حفاظا على ما تبقى من ميراثها. فقد اجترت تاريخها واقتيدت نحو مذبح النهايات الفجائعية. حروب السنوات الأخيرة، التي خاضتها جميلة بوحيرد مع رفاق ورفيقات السلاح، حجمتهم جميعا كليا. الأخطاء التي ارتكبتها هزت صورتها، فأصبحت جزءا من المنظومة العامة، وحل الإنسان العادي محل الأيقونة القريبة من القداسة.

تحاول جميلة بنية طيبة، أعتقد، أن تسترجع الأيقونة مع حراك تعرف قوته وجبروته. لكنها تظل أيقونة مخدوشة، إذ لا يمكنها أن تكون أيقونة لزمنين مختلفين جوهريا. جميلة عفوية وليست مسيسة، اختارت ثورة وطنها كما الملايين، دفعت الثمن غاليا، ثم انتمت إلى الحراك، وهذا حقها. لكن حربها مع رفاق الأمس الذين جردوها من كل شيء، لأسباب سياسية وشخصية، جعلت الأيقونة تصبح جزءا من التمزقات السياسية بدل أن تكون فوقها عاليا. على العكس مما حدث للأيقونات العالمية. ماذا فعل مانديلا الذي احترق بنار الأبارتيد سوى أنه جمّع المواطنين، سودا وبيضا، حول مشروع بناء وطن للجميع؟ وظل فوق الصراعات الصغيرة على أهميتها، ولم يصف أي حساب، ضد أصدقاء الأمس، ولم يصطف مع أي جهة مهما كانت قوتها. ظل كبيرا وانتهى كبيرا محفوظا في الذاكرة الجمعية لإفريقيا الجنوبية، والعالم بعد أن وضع اللبنات الكبرى للمجتمع الجديد، قبل أن يغادر الحكم على الرغم من إلحاحات مواطنيه بالبقاء. منذ أن أثار الجنرال الدموي أوساريس قضية معركة الجزائر وشكك في بطلها ياسف سعدي، والكتابات لم تتوقف.

فقد صغّره أوساريس وصوره خائنا وجبانا بحجة أنه وشى بالعربي بن مهيدي، وعلي لابوانت، وحسيبة، نازعا عنه أي بطولة. يمكننا طبعا أن نشكك في رواية أوساريس، إذ من مصلحته أن يكسر الأيقونة الوطنية. لكن الأمر تطور بشكل سلبي وهذه المرة مع رفاق السلاح، مثلا المعركة بينه وبين زهرة ظريف بيطاط، التي كانت تابعة له تنظيميا، مثلها مثل الجميلات الأخريات. وصلت الخلافات حد التهم الخطيرة بالتواطؤ مع الاستعمار في مقتل الشهيدين على لابوانت وحسيبة. إذ تم الكشف عن وثائق كتب عليها سري للغاية باللغة الفرنسية، مأخوذة من أرشيف الاستعمار الفرنسي؟ بتاريخ الـ 8 من أكتوبر/تشرين الأول 1957 في الجزائر العاصمة، وتكشف تعامل ياسف سعدي وزهرة ظريف مع السلطة الاستعمارية، وتقديم معلومات خطيرة عن كبار قادة الثورة ومجموعة الـ 22.

قبل ذلك، فضيحة مقتل عبان رمضان من طرف رفاقه بشكل تراجيدي، عقل الثورة المفكر؟ كأننا في عالم ينهار فيه زمن، ويقوم من داخل رماده، زمن آخر جديد، بكل جراحاته وأسئلته القلقة. مقتل أحد رموز الثورة أمام أكثر من ثلاثين مليون جزائري، الرئيس محمد بوضياف الذي لم تتحمله العصابة والمافيا المالية أكثر من مائة يوم، لم يزد الأمر إلا تعقيدا في العلاقة مع التاريخ المقدس؟ وأخيرا اعتقال قائد الولاية الرابعة الرائد لخضر بور?عة، في عز الحراك؟ بعد تجريده من أي صفة نضالية واتهامه بانتحال صفة وتقمص اسم «سي لخضر» نسبة إلى رابح مقراني القائد الحقيقي للناحية الرابعة التاريخية؟ فجأة اكتشف الجزائريون، بالخصوص شباب الحراك، أن زمنا توقف نهائيا بكل رموزه، وينشأ مكانه اليوم زمن بديل، لم تتضح ملامحه بعد، لكنه لن يكون شبيها لما مضى أبدا، ولن يكون شرعية للآتي.

عن القدس العربي
13/8/2019




® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com