|
الحوار المسيحي – الإسلاميّ: مصيرٌ مشترك - الارشمندريت أغابيوس أبي سعدى
زيارة تضامنية لشخصيات دينية مسيحية إلى المسجد الأقصى، في وجه اقتحامات أوباش المستوطنين
قبل الحديث عن نشأة الدّيانتين المسيحية ومجيء الإسلام لا بدّ لنا من اعتماد مبادئ الحوار الأخويّ والتّفاهم بين أتباع الدّيانتين والمستويات الشّعبيّة والرّسميّة كافّة لتكريس أسس الوفاق والتّقارب ومدّ جسور المحبّة والأخوّة والعيش المشترك وقبول الآخر وتبادل الثّقة في وطنٍ واحد ليكون قاعدة المواطنة ومبدأ سيادة القانون والمساواة من أجل بناء وطنٍ يضمن للجميع العيش بحريّةٍ وكرامة. علمًا بأنّ الحضور المسيحيّ في معظم البلدان العربيّة يعود إلى نشأة الدّيانة المسيحيّة في بداية السّنين الأولى الميلادية، ويشهد التّاريخ بكلّ مراحله على وجود جماعاتٍ مسيحيّةٍ عربيّةٍ في مختلف مناطق الشّرق، وبمجيء الإسلام بداية القرن السّابع ميلاديًّا بدأ تاريخٌ مشتركٌ جَمَعَ بين المسيحيّين والمسلمين في الشّرق العربيّ وحضارةٌ مشتركةٌ ورثت جميع الحضارات السّابقة في هذه البلاد، حيث كانت حضارة بابل والحضارة الفرعونيّة أولى حضارات التّاريخ. ولقد أدّت خبرة وتجارب الماضي بالمسيحيّين والمسلمين إلى الانصهار في بوتقةٍ واحدةٍ هي الحضارة العربيّة، مع احتفاظ كلٍّ منهم بأصالته الدّينيّة وخصوصيّاتِ عاداته وتقاليده، ويشكِّل هذا التّراث الحضاريّ المشترك ضمانًا لاستمراريّة التّفاعل الّذي يواجه اليوم مستجدّاتٍ لا بدّ من استيعابها، وإمكانيّاتٍ لا بدّ من بلورتها، وتحديّاتٍ لا بدّ من مواجهتها، وهذا كلّه يفتح الأبواب واسعةً أمام مستقبل هذه الخبرة بكلّ حيويتها وأصالتها. إنّ استمرار التّعايش الإيجابيّ في الغالب الأعمّ من الدّول العربيّة، وتمتُّع المسيحيّين بحريات العبادة والنّشر والكتابة واستخدام القنوات الإذاعيّة والتّلفزيونيّة في معظم الدّول العربيّة بما فيها بلدنا الحبيب فلسطين، وتضاؤل القيود أمام وصول المسيحيّين إلى معظم وظائف الدّولة ومراتبها، وخصوصًا في فلسطين والأردن ولبنان وسوريا، وحسن العلاقة بين المراجع الدّينيّة المسيحيّة والإسلاميّة في جميع الدّول العربيّة، وقيام هذه المراجع بتطويق أيّ حادثٍ سلبيٍّ يطرأ على مسيرة العلاقات بين المسيحيّين والمسلمين وتعمِّق القناعة لدى الشّريك المسلم بأنّ المسيحيّة العربيّة شريكٌ أساسيٌّ في العيش والمصير، وجسرُ حوارٍ مع الغرب يمكن للإسلام العربيّ أن يستفيد منه إيجابًا. أمّا أهمّ نقطةٍ سلبيّةٍ والّتي يجب العمل على تجاوزها بتعاونِ وتضافرِ الطّرفين فتكمن باستمرار الجهل الواسع لدين الآخر في عقائده وممارساته ونمط حياة أبنائه، وهذا الجهل، يغذي تصوّراتٍ مغلوطةً ويُصوِّر الآخر على نحو قاسٍ ومخالفٍ لصورته الحقيقيّة. ولتجاوز هذه الظّاهرة، علينا أن نبلغ كمسيحيّين ومسلمين مرحلة المواطنة الكاملة، المواطنة الّتي تستلزم مساواة في الحقوق والواجبات، مساواة أمام القانون وفي الواقع، بحيث لا يشعر المسيحيّ العربيّ بأنّه من "أهل الذّمة"، بل مواطنٌ له كامل الحقوق كأخيه المسلم؛ في المواطنة تنتفي فكرة الأكثريّة والأقليّة، وتنتفي فكرة القوة والضّعف، فكرة الأصيل والوافد؛ في المواطنة، يعيش الجميع كرامتهم ويُسهمون في نهضة بلادهم والدّفاع عنها؛ في المواطنة تعود كرامة الإنسان ككائنٍ رفعه الله تعالى على جميع الكائنات وأودع فيه روحه، وأقامه سيّدًا على الأرض. إنّ ما يعانيه المسيحيّون العرب يعني، في الوقت نفسِه، المسلمين العرب، وإنّ هذه المعاناة أيًّا تكن أسبابها، تشكّل حافزًا لعملٍ إسلاميٍّ مسيحيٍّ مشتركٍ يحافظ على الحضور المسيحيّ العربيّ في النّسيج الاجتماعي العام، ويحافظ على ما يتميّز به من تنوُّعٍ وتعدُّديّةٍ على أرضيّة مصالح الوطن ووحدته. إنّ المتابع والمدقِّق في تطوّر العلاقات الإنسانيّة وتوجُّهات أتباع الدّيانتين المسيحية والإسلام يرصد تصاعد الاهتمام بالحوار الإسلاميّ المسيحيّ كضرورةٍ لتخفيف التّوتّرات في بقاعٍ كثيرةٍ من العالم، بالتّوازي مع تنامي اتّجاهاتٍ تركّز على أهميّة استحضار الرّؤية الدّينيّة للقضايا التّنمويّة واستخدامها في سبيل التّوعية وتطوير الخطاب الدّينيّ داخل كلّ دينٍ عبر مؤسّساته ومنابره وامتداداته وتوظفيها أيضًا في تطوّر الأداء الاجتماعيّ والاقتصاديّ، وتشكيل الرّأي العام المحليّ والدّوليّ الفاعل في الخدمة والتّنميّة الإنسانيّة. وعلى ضوء ما ذكر أعلاه، فإنّ الحوار المسيحي – الإسلامي، أصبح على المستوى الحياتي والمصيري المشترك، حتميا نظرا للأحداث والتّغيّرات في المنطقة. فالقضايا واحدة لأننا نحيا في وطن واحد، يحدونا أمل في مستقبل مشرق واحد، كما أنّ الحوار يؤصل المواطنة والهُوية العربيّة للمسيحيّين والمسلمين على حد سواء في الشرق الأوسط، وأنّ المنطقة الّتي خرجت منها المسيحيّة إلى العالم كلِّه وما زالت هي المكان الّذي يقصده مسيحيّو العالم أجمع لزيارة الأماكن المقدّسة، ومن هذه المنطقة أيضًا خرج الإسلام إلى العالم وما زالت هي المكان الّذي يقصده مسلمو العالم لأداء فريضة الحج. لذا، فإنّ أكبر مثال على التعايش المسيحي الإسلامي كانت القدس وما تزال كسابق عهدها قبلة للأنظار وملتقى الحضارات ومهبطًا للأديان السّماويّة الثلاث (اليهودية، المسيحية والإسلام) وتتجلى مظاهر الإخاء الدّينيّ في فلسطين بتعانق الجوامع والكنائس في مظهرٍ ساحرٍ قلّ نظيره في العالم، فمن يقصد فلسطين يسمع امتزاج أصوات المؤذنين مع قرع أجراس الكنائس، حيث يعيش المسيحيّون مع المسلمين جنبًا إلى جنب في جوٍّ أخويٍّ فريدٍ من نوعه. علينا أن نعمل جاهدين دون مللٍ أو كللٍ، لبناء إنسانٍ جديدٍ بعقليّةٍ جديدةٍ وذهنيّةٍ جديدةٍ وثقافةٍ جديدةٍ مبنيّةٍ على قبول الآخر باختلافه وغَيريّته، إذ إنّه يُعبِّر عن حضور الله عزّ وجلّ في هذا الكون؛ علينا أن نُدخل في عقول أبنائنا هذا التّعايش المشترك وهذه الأخوّة الإنسانيّة، وعلى الكنيسة أن تُعلِّم أبناءها ما هو مشتركٌ مع الإسلام، وعلى المسجد أن يُعلِّم أبناءه ما هو أيضًا مشتركٌ مع المسيحيّة، مبعدين عنهم مفهوم التّعبئة الدّينيّة الّذي ستكون نتائجه كارثيّةً على الجميع، مسيحيّين ومسلمين. لا نريد من المسلم أن يتسلّح ليُدافع عن نفسه خوفًا من الآخر، ولا نريد من المسيحيّ أن يتسلّح خوفًا من الآخر، نريد أن نتسلّح بالسّلاح الأقوى والأنجع: المحبّة، خاتمًا كلمتي هذه بآيةٍ من الإنجيل المقدّس تقول: "أيّها الأحبّاء، ليُحِبَّ بعضُنا بعضًا فإنّ المحبّة من الله، فكلُّ مَن يُحِبّ هو مولودٌ من الله ويعرف الله" (1 يوحنّا 4: 7). (الرَّئيس الرُّوحيّ لرعيَّة مار الياس للرُّوم الملكيِّين الكاثوليك في حيفا وممثِّل الرَّهبنة المخلِّصة في الأراضي المقدَّسة) 10/2/2014 include ('facebookshare.php'); ?> |
® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com |