فؤاد خوري.. المعلم الأول! - فتحي فوراني


*خمسون عامًا على رحيل القائد فؤاد خوري.. أنتم جيل المستقبل.. صونوا لغتكم واعشقوها! (1919-1968)*

ما زال الدخان يتصاعد من بين خرائب النكبة.. وفي زوايا المشهد.. شعب أعزل تآمر عليه ذوو القُربى وذوو "البُعدى"!.. فقد خرج للتوّ من حرائق الفاجعة.. وما زال يلعق جراحه النازفة الموجعة والمروعة.

نار النكبة تكظم غيظها.. وتتململ تحت الرماد.. إنها تتوثب لتتفجر وتفجّر الكون!

تلتقي حشود من الطلاب الصغار في مدرسة أبو جميل -يوسف خليل جدعون- (بناية بلدية الناصرة اليوم). تتفاوت الأعمار ويُحشر في الصف الواحد طلاب من مختلف الأجيال. كنتَ تجد طالبين الأول في الثانيةَ عشرةَ من عمره والثاني في التاسعة!.. يجلسان جنبًا إلى جنب على مقعد واحد!

المشهد المدرسي يغصّ بطلاب من الناصرة المثخنة بالجراح.. وآخرين ممّن اقتلعتهم يد التشريد من قراهم ومدنهم.. وتركتها ركامًا من الخرائب السياسية!

المشهد صورة مصغرة للجرح الكبير الذي يمتد من الوريد إلى الوريد!

****


يقوم مربّو الصفوف بجولة تفتيشية سريعة لفحص أحوال النظافة..

أولا.. تفتيش الأظافر.. بحثًا عن الجيوب السوداء في الأظافر الطويلة والقذرة..

وثانيًا.. ضرورة أن يكون مع الطالب منديل نظيف.. يضعة على ظاهر يديه..

ويكون التفتيش .. فحص الأظافر والمنديل في "مشوار" واحد!

لا للثياب "المُمزّعة"!.. ولا بأس أن ترتدي الثياب المُرقّعة.. شريطة أن تكون نظيفة!

هكذا يكرر المدير.. أبو جميل..

"صفدي".. انتظم في الصف.. كفى ثرثرة!

وينتظم عبد الله.. ويكفّ عن الثرثرة!

الدرس الأول!

يدخل إلى الصف معلم جديد.. نتعرف عليه لأول مرة..

قامة منتصبة أبيّة.. ووجه أبويّ سمح يبعث الثقة والطمأنينة في نفوس الطلاب الصغار..

ومنذ اللقاء الأول.. يستحوذ على قلوبنا.. ويكهرب مشاعرنا!

شخصيته الوقورة.. حضوره المهيب.. كلماته الهادئة.. ملامح وجهه التي تشع طيبة ومحبة.. ما زالت محفورة في الذاكرة والوجدان..

وصدى صوته الأبويّ الدافئ.. ما زال يتردّد في الآذان.. منذ عقود وحتى الآن!

وما نكاد نتعرف عليه ونعتاد حضوره الأبويّ.. حتى يختفي المعلم الكبير عن المشهد اليومي.. وتمتلئ اللوحة فراغًا يكتنفه الضباب وعلامات السؤال!

فما عدا مما بدا!؟

إن وراء الأكمة ما وراءها!

يزخر المشهد بعلامات السؤال ويكثر الهمس واللغط بين الصبية الصغار.. وتكثر الأقاويل والروايات والتحليلات.. وتنبت لها أجنحة تحلق في عالم الخيال!

وما تلبث جهينة أن تأتينا بالخبر اليقين!

المعلم الكبير لم يعجب "الأخ الكبير"!

يتناهى إلى مسامعنا فيما بعد أن المعلم الكبير فؤاد خوري (أبو جابر) لم يعجب "الأخ الكبير".. القابع وراء الكواليس السوداء.. والذي يَرى ولا يُرى!

يقرر الجنرال أن يضطلع بـ"واجبه القومي".. ويضع حدًّا "للانفلات الفكري" الذي يهدد أمن الإمبراطورية الفتية!

الذريعة جاهزة.. وسيف الفصل مُصْلَت فوق رؤوس مربّي الأجيال.. يتأهب لارتكاب حماقته الحمقاء!

وما تلبث الذريعة أن تطل برأسها من جحرها.. وتطلق فحيحها وسمّها الزعاف!

يتلقى المعلم القائد والمربي الفذّ رسالة من "الأخ الكبير".. "يبشره" فيها بالفرمان الصادر عن "الباب العالي".. الفصل من الوظيفة "لأسباب تربوية"!!!

****


ويُفصل المعلم القائد من وظيفته..

لأنه أحب شعبه وأخلص له..

ولأنه أحب وطنه وعشق ترابه..

ولأن آراءه السياسية تشكل خطرًا على أمن الجنرال!

ولأنه منارة عملاقة تهتدي بها الأجيال الصاعدة في طريقها إلى شواطئ الحلم!

أنتم جيل المستقبل.. صونوا لغتكم واعشقوها!

ونشعر بحزن عميق!

ما زالت كلماته الدافئة تحتضن الطفولة الحافية التي ترتعد بردًا.. والتي تهيم على وجهها.. في صحراء الصقيع السياسي!

وما زلنا نحسّ بحنانها الغامر الذي يحتضن عالمنا رغم مرور عقود ستة..

ولن ننسى عبارة.. أنتم جيل المستقبل.. كلكم أبنائي!

أحبّوا لغتكم.. واتخذوا الكتاب صديقًا.. فخير جليس في الأنام كتاب..

وفي مرحلة متأخرة.. نتعرف على لامية ابن الوردي..

"في ازدياد العلم إرغام العدى".. وجمال العلم إصلاح العمل

فنمسك بالخيط الرفيع الذي يوصل بين ابن الوردي وبين المتنبي الذي يجالس خير جليس في هذا الزمن الرمادي!

وأحبوا وطنكم!

ويستحضر المعلم الأول قصيدة الشاعر اللبناني حليم دموس، فنحفظها غيبًا وتصبح النشيد الوطني الذي نتغنى به ويملأنا عزة وعشقًا لأرض الوطن.

أرض أجدادي

عليك مني السلام       يا أرض أجدادي

ففيك طاب المقام      وطاب إنشادي

عشقت فيك السمر       وبهجة النادي

عشقت ضوء القمر       والكوكب الهادي

والليل لما اعتكر       والنهر والوادي

والفجر لما انتشر       في أرض أجدادي

****


يا قوم هذا الوطن       نفسي تناجيه

فعالجوا في المحن       جراح أهليه

إن تهجروه فمن       في الخطب يحميه

يا ما أُحيلى السكن       في أرض أجدادي

****


أهوى عيون العسل أهوى سواقيها

أهوى ثلوج الجبل ذابت لآليها

سالت كدمع المُقل سبحان مُجريها

ضاعت كرمز الأمل في أرض أجدادي

****


أما "الأخ الكبير" فيقضّ المعلم مضجعه.. ولا ينام الليل.. إنه يرتعد خوفًا من هذا العشق.. فينصب شراكه ويضرب طوقًا من الحصار على "الفاكهة المحرّمة"!

لمثل هؤلاء الرجال الرجال.. تنصب التماثيل!

وعندما نشبّ عن الطوق.. نتعرف على كتاب القائد فؤاد خوري "أسس الاقتصاد السياسي أو الماركسية اللينينية".. فيحتل في مكتبتنا وفكرنا أعزّ مرتبة!

لقد احتفظت بهذا الكتاب النادرعقودًا.. إلى أن كان يوم!

فقد غادر الكتاب "موطنه" الكرمليّ.. ملبيًا نداء المنادي النصراويّ.. وشدّ الرحال إلى مكان ما في مدينة البشارة.. لكي يساهم في نفض غبار النسيان عن الذاكرة.. وما زال يقتله الحنين لكي يعود إلى أهله في عروس الكرمل.. الذين لن يرضى عنهم بديلًا!

إنه يتوق للعودة.. إلى قواعده الأولى سالمًا غانمًا!

ويترك لنا أبو جابر ذكراه العطرة التي ما زلنا نتنشق شذاها.. ونملأ رئتنا من عطرها الفوّاح..

ويترك لنا أفكاره الخالدة وميراثه الذي يضيء دربنا ويشكل معالم بارزة على الطريق الفكريّ نحو الربيع الحقيقي المشتهى!

لمثل هؤلاء الرجال الرجال.. تنصب التماثيل!

* من كتاب "بين مدينتين"- سيرة ذاتية

في سطور

ولد فؤاد خوري عام 1919 في قرية يافة الناصرة.

أنهى دراسته الابتدائية في مدرسة كفر كنا، حيث كان والده يعمل مديرًا لهذه المدرسة.

إنتقل إلى الناصرة ليكمل دراسته الثانوية.

إنتقل إلى كلية سانت لوكس الإنجليزية في حيفا وسميت على اسم مديرها "سامبل"، وتعلم في المدرسة طلاب عرب ويهود.

أختير للتعلم في دار المعلمين في القدس لتلقي علومه العالية. وبعد تخرجه علم في المدرسة الثانوية في الناصرة.

بعد عودة فؤاد نصار من العراق تعرف إليه فؤاد خوري وعاشا معًا في غرفة واحدة. ودرسا معًا كتاب رأس المال والاقتصاد السياسي.

بسبب ميوله السياسية نفي إلى الخليل وانتمى إلى عصبة التحرر الوطني عند تأسيسها.

كان معلمًا قديرًا ومثقفًا سياسيًّا. أحب مهنة التعليم وآمن أن "التعليم فن". وكانت أول محاضرة له أمام جمهور المعلمين في أواخر السنة الدراسية 1949 تحت عنوان "التعليم فن".

في عام 1951 قام فؤاد خوري مع المحامي حنا نقارة بتأليف لجنة من الذين صودرت أراضيهم في يافة الناصرة، وبفضل القيادة الحكيمة والنضال المثابر تم تحرير الأراضي التي صودرت وأعيدت إلى أصحابها الشرعيين.

قاد معركة الانتخابات للبلدية عام 1954، وقاد مع الرفاق والأصدقاء العمل في جبهة واحدة منذ 1954 حتى رحيله عام 1968.

عن موقع الجبهة
10/3/2018






® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com