الحلم والحجر.! - يوسف جمّال

رفع رأسه عن المخدة، ونظر الى وجه زوجته، فوجدها تغوص في بحر هادئ من الأحلام، سحب جسمه من تحت الحرام، وانزل رجليه عن السرير حتى لامستا الأرض، وفصل نفسه عن السرير، ومشى حافيًا باتجاه باب غرفة نومها.

مد يده الى مقبض الباب وانزله الى الأسفل، وسحب الباب الى الداخل مرسلًا كل أحاسيسه اليه كي يبقى "نائمًا" متجمدًا، بحيث لا يصدر، أصواتًا تقطع شريط أحلام زوجته وأولاده النائمين في الغرفة المجاورة، أغلق الباب خلفه بكل "حنان"، ومشى في الممر الذي يربط بين غرفة نومها وغرفة الاستقبال، وعندما وصل بابها فتحه ودخل وأشعل النور فيها.. توجه الى الصندوق الخشبي الموضوع على ظهر الخزانة، انزله ووضعه على الطاولة.. فتحه وبدأ يقلّب الأوراق الموجودة فيه.

كان يبحث عن ورقة معينة، كان قد رآها قبل سنوات.. أوراق كوشان أرضهم في يافا. كانت هذه الأوراق تغور في خلطٍ عجيب من الوراق، التي تسجل لحظات كثيرة من تاريخ العيلة.. حملها جده معه من بيته في يافا، وأخذها معه الى بلاد الشتات،وانتقلت معه من غربة الى غربة.

وأخيرًا وبعد بحث خاله الدهر، وقعت في يديه، فك طياتها وبسطها أمامه على الطاولة "أرض مسجلة في الطابو على اسم جده سالم محمود العجمي..." كان اسم جده يزين رأس الصفحة.. قرأ الأرقام والحدود وفحص الخارطة المرفقة..كلها كانت تثبت وتؤكد ما شاهده. لقد كانت أمس في أرضهم، وهذا ما يؤكد ما كان مخطوطًا على الحجر الذي وجده في المكان الذي اشتغل فيه، وتركه مغروزًا في الأرض..الأرض التي تركوها في الأسر، وأُجْبِروا على الرحيل منها الى بلاد المنافي!

رجع الى غرفة النوم "ورمى" بجسمه تحت الغطاء محاولًا عدم إيقاظ زوجته، وأغمض عينيه،وبدأ يراجع الشريط الذي كان هو بطله أمس.. هناك في يافا!

يومه الأول في هذا العمل، بدأ عندما تسلل وهو ورفاقه من العمال، من بين فتحات الجدار الذي بنته اسرائيل حول رقاب الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية، كي يخنقهم بالطريقة البطيئة. واستطاع ان يفلت من أنياب "ثعابين" الدولة، التي تنتظرهم لاصطيادهم،عند خروجهم الى إسرائيل من هذه الفتحات، فالتقطه "معلم" عربي من الطيبة وطار به الى يافا.

عاش على روح يافا، وتنفس عبقها من أحاديث والديه...

رسمت جدته ذكريات يافا- صورة ساحرة بجمال الوانها، على صفحات خياله البيضاء صورة : الطابية والقلعة في البلدة القديمة... والحارة الجبلية، والعجمي، شارع إسكندر. وشارع النزهة والساعة. لقد تواجد في يافا قبل ذلك مرات عديدة، ولكنه لم يشعر أنها تشبه بشيء،صورة يافا القديمة المرسومة في خياله.

رماهم "المعلم" وهو ورفيقه في مكان العمل، فتسلمهم مسؤول عمل يهودي شرقي من اصل مغربي، فناولهم الفؤوس والطواري وغيرها من أدوات العمل، وطلب منهم العمل مع التركتور، الذي كان يحفر أساسات لعمارة بدأوا بنائها.

وعندما بدأت قطرات العرق تتصبب من أجسامهم، تقدم منهم المسؤول الشرقي وسألهم: "هل معكم تصاريح!؟" فأجابوه رافعين سباباتهم وعيونهم الى السماء: ( معنا تصاريح من رب السماء!)

فاتفق معهم على إشارة صوتية، إذا سمعوها هربوا الى البيارة المجاورة واختبأوا فيها، وإذا سمعوها مرة أخرى، فعليهم الرجوع الى العمل. لقد كانت الإشارة تعلن: (جاءت أو انصرفت الشرطة!).

استمر هو و زملاءه في رفع التراب، بالرفش من القنوات التي كان يحفرها التراكتور، الى ان اصطدم رفشه بحجر، عجز عن قلعه.. ان هذا الأمر عادي. فما عليه الا ان يطلب من سائق التركتور بالإشارة، كي يرجع الى الخلف ويقلعه، ولكن الحجر في هذه المرة كان أملس يتزلق عنه الرفش بسهولة، فقرر أن يستطلع امره.

جلس على ركبتيه، ومد يده وأزاح التراب عن الحجر، فاصطدمت عيناه بحروف عربية ترتسم عليه..أخذ الطورية وأزاح المزيد من باقي التراب عن سطح الحجر، فظهرت كلمات بحروف عربية فقرأ : ((بيت سالم العجمي - شارع جمال باشا!)).

أصابه ذهول غريب، وسرت في جسمه قشعريرة شلت أطرافه، وقعد مكانه ولم يعد يقوى على الوقوف، فانتبه سائق التركتور الى ما أصابه فصاح به: "محمود..! محمود ماذا حدث لك!؟".

"محمود..! محمود! هل تسمعني!؟ هل أنت بخير يا محمود!؟ استمر السائق بمناداته،فتذكر انه سُمي على اسم جده، الذي انتقل الى جوار ربه،بعد الشتات بثلاث سنوات قضاها يعيش في يافا.. وتعيش فيه!

" لا شيء.. لا شيء.. اني بخير! " صرخ باتجاه سائق التراكتور، واستمر في عمله مبتعدًا عن الحجر. سحبته موجات من الذكريات: "هذا الحجر يحمل اسم جدي..معنى ذلك إنه كان بيتنا.. هذا هو البيت الذي عاش جدي في الشتات، وهو يعيش على ذكرياته، هذا البيت "بطل " قصص جدتي وأطياف خيالي!".

ها هي حزم الظلام السوداء، بدأت تنسحب من أمام ناظريه،اللذين تنصبان على زجاج شباك مغلق، على حائط مطلي باللون الرمادي الفاتح أمامه. وبدأت الشمس ترسل ضوءها الخفيف، لتجلو زجاج النافذة، لتمكن ناظريه من اختراقه، ورؤية أوراق شجرة الليمون المزروعة بالقرب من الشباك..قام من مكانه، وتوجه الى الحمام كي يحضر نفسه للصلاة. وبعد ان صلى كانت زوجته قد حضرت له الشاي وشيئًا يأكله معه، ووضعت له زوادته على الطاولة، وجلست على الكرسي تراقبه، كما تفعل كل يوم،كي تودعه، قبل ان يخرج ليقاتل "الدنيا"، من أجل ان يعود اليها ولأطفالها، وهو يحمل ما يسد حاجاتهم الضرورية.

كلمة واحدة كانت تقولها كل يوم :"اللهم سلمه من اليهود!"

حمل زوادته وخرج.. رافقته الى البوابة، رغم الحاحه عليها أن تتوقف عن فعل ذلك! ومشى في الطريق، يحمل في رأسه ثقل همومه من جدار، وجيش، وأصحاب عمل، وخوف. وزوجة وأطفال، يتقلبون طوال النهار على جمرات نار الانتظار.

كان كأنه يموت كل يوم في الصباح، ويحيا من جديد في المساء، عندما يعود الى حضن عائلته!

ولكن منذ الأمس زاد الى كل هذا هم الحجر.. أصبح يحمل في رأسه المثقل،هم حجر بيت جده، الذي ما زال مغروسًا في قاع قناة أساس العمارة التي حفروها، وانه ان لم ينقذها، سوف تقبر تحت الباطون الذي سيصب عليها! ولكن كيف!؟ كيف سيقتلعها ويخلصها من أسرها، ويحملها مخترقًا شوارع يافا، حتى يصل الى محطة السيارات،التي ستقلها الى حافة هاوية الجدار، ومن يضمن له انه لن يصطدم بالجيش أو الشرطة وهو يمر في كل محطات الطريق!؟

إنه لا يعرف حتى الآن مقدار ثقل الحجر، وإن كان يستطيع ان يحمله كل مسافة الطريق!

ولا يعرف إن كان سائق السيارة التي ستقله، سيقبل بتحميل هذا الحجر في سيارته!

لقد كان كل هذا السيل من الأفكار يجتاح تفكيره، مكونة حوامًا، بدأ يتعالى داخل رأسه، و يدق على رأسه مهددًا بتفجيره والإندفاع الى الخارج!

جلس تحت زيتونة على جانب الطريق،ومن ثم إفترش ترابها وأغمض عينيه، وبدأ يقرأ ما تيسر من آيات قرآنية، يستعين بها في مثل هذه الحالات لتبرد رأسه، وعندما شعر أنه في حالة يستطيع أن يتمالك نفسه، ويستمر في مشواره.. مشوار حياته المضني!

قام وتابع السير الى فتحة الجدار،وبعد كر وفر ومراوغة مع الشرطة، تمكن من الخروج منها، والالتحاق بسيارة المعلم التي تقله الى يافا.. الى موقع العمل.

كان يعرف أنه هو وزملاءه، سيصلون الموقع قبل العمال اليهود، لأنهم يخرجون من بيوتهم قبل الفجر، كي يستطيعوا إختراق الجدار،تحت جناح أواخر الليل، وعندما وصلوا عالجوا الحجر بأدوات العمل، ولم يأخذ منهم مدةً طويلة، حتى استطاعوا إخراجه من تحت التراب.

حمله وتوجه الى البيارة،وخبأه فيها، ورجع الى ورشة العمل،ليقضي نهاره بالعمل فيه. وفي المساء عندما أنهى عمله لذلك اليوم،توجه الى البيارة، وأخذ الحجر ولفه بقميص العمل، وتوجه الى المكان الذي سيلتقطه به المعلم الطيباوي، وعندما سأله المعلم عن هذا الشيء الذي يحمله قال: "انه حجر أعجبني ولي فيه حاجة!"

قال المعلم الطيباوي مازحًا: "إنكم أهل الضفة "سحبتم " كل شيء من إسرائيل، وها أنتم "تُلحِقون "على الحجارة!"

بقي محمود صامتًا.. ولم يبتسم او يضحك كما توقع الطيباوي..

واصلت السيارة سيرها المعتاد اليومي، الى المكان الذي ينزلهم به، والذي يبعد عدة مئات من الأمتار عن الجدار، والذي كان العمال مجبرين على قطعها مشيًا على الأقدام..

هذه المسافة قطعة من عذاب جهنم، فأنت تسير بها تحت وابل من ضربات الخوف والهلع.. تشعر وكأنك تسير بين انصال سيوف حادة مدلاة من السماء، فإن لم تتحاشاها، فإنها ستغرز في لحمك الحي، وتطعمك لأفواه جنود الجيش، التي تنصب شراكها على فتحات الجدار!

نزل من سيارة الطيباوي، ومشى الطريق.. الطريق التي توصله الى الجدار.. كان يشعر وكأنه يتسلق جدار بئر سحيق، تحيطه أنياب وحش ستطبق عليه في كل لحظة.. كان يخطو ببطء شديد، ويجول بعينيه في كل الإتجاهات، تاركًا لأُذنيه مهمة التقاط كل صوت يخرج من حوله..كان يعرف ان الجنود في هذا الوقت، يجولون الطريق على طول الجدار، بحثًا عن ضحايا، يصبون عليها، كل ما يحملون من كراهية وحقد!

أصبحت المسافة بينه وبين الجدار خطوة واحدة، حنى قامته تاركًا ليده ان تحضن الحجر مستعينة بصدره، واستعان باليد الأخرى كي يضعها على فتحة الجدار، ليتمكن من الخروج الى الجانب الآخر، ويتخلص من الكابوس الذي يمسك بخناقه، وإذا بصوت يحطم كل ما في داخله من أحاسيس ومشاعر، ويحولها الى شظايا تطايرت الى كل خلية من جسمه:

"قف..! قف مكانك لا تتحرك! سنطلق عليك النار إذا تحركت! إرمِ الشيء الذي تحمله بيديك، وارفعهما الى الأعلى، وتقدم باتجاهنا!" تابع الصوت تهديداته...

استطاع بعد جهد جهيد ان يستدير باتجاه الصوت، وفتح عينيه ليلتقط صورة مصدره، فرآههم أربعة او خمسة جنود بجانب سيارة، يصوبون باتجاهه بنادقهم، فعرف من خبرته معهم، انه لو خالف أمرهم، سوف يطلقون عليه النار ويردونه قتيلًا!

برقت في ذهنه فكرة، بأن يرمي بنفسه الى الجانب الآخر من خلال الفتحة، الا انه تراجع، بعد ان تأكد انه لو حاول فعل ذلك، فإن رصاصهم سيسبق عبوره الجدار، وسيتحول الى جثة هامدة!

تقدم منهم ببطء رافعًا يديه، وعندما وصل انقضَّ عليه اثنان منهم، ورمياه أرضًا،وقيداه بيديه. وعندما وقف صرخ به أحدهما متوعدًا:

" ما هذا الشيء الذي كان في يديك!.. قل سريعًا!.

إنه حجر..! أحضرته من مكان العمل..!

حجر..! حجر..! صاح احدهم من بين فكين،انطلقت منهما ضحكة هستيرية،ملؤها الهزء والسخرية.

حجر!؟ حجر!؟ حجر من تل ـ أبيب!؟ حتى حجارة تل أبيب تريدون نهبها يا غجر!؟

إرتفع صوت آخر ليشترك في "حفلة" تقطيع ما تبقى من كيان هذه الفريسة التي وقعت تحت رحمة أنيابهم!

ماذا تريد أن تفعل يا وغد بهذا الحجر..!؟ تابع الأول أسئلته...

أعجبني شكله! أخرج ردًا استطاع ان يخرجه من بين أثقال الخوف والهلع، التي كانت تطبق عليه من كل جانب.

أين كنت!؟ سأله احدهم بغيظ مسموم...

في يافا..إني أعمل هناك.. في شركة أولشتين، نطق اسم الشركة متعمدًا لعلها تساعده.

هل معك تصريح لتدخل به الى اسرائيل، أيها الوغد الحقير..!؟

لا..! لا..! لا أحمل تصريحًا! حاولت ورفض طلبي! قال بعد ان بدأت أحاسيس الحياة تسري في جسمه.

الا تخاف أيها الحقير من ان يقبض عليك " وتروح فطيس"!

إن خمسة أفواه تنتظر الحليب أجبرتني على ذلك..! والذي يأتي به ربنا مقبول لدي!

قال بشيء من التحدي...

ربي! ربي مرةً اُخرى! صاح جندي آخر من بعيد، متوجهًا الى زملائه بسخرية ملؤها الحقد المسموم.

ماذا سنفعل به!؟ سأل القائد الجنود الذين كانوا يقفون بقربه.

إن سلطة السجون، ابلغت قائد المنطقة، أن سجونها ملآنة، ولا تستطيع ان تستقبل سجينا آخر! رد عليه جندي آخر.

وإذا بالقائد يصرخ بهم:

“كديما”... الى الهدف.!؟

تقدم الجنود الأربعة من محمود، وبدأوا يكيلون له الكلمات البذيئة، والركلات من كل جانب، أسالوا الدم من رأسه من أنفه أوقعوه أرضًا، داسوا على رأسه وبطنه وأرجله.

وبعد أن أنهوا "مهمتهم" أمروه بالوقوف... فوقف بعد ان لاقى معاناة فوق الخيال، وأمروه بالتوجه الى الفتحة الموجودة في الجدار.

بعد أيام رجع وعبر الجدار، وأخذ الحجر الذي تركه هناك.. الحجر الذي يحمل اسم بيته في يافا.

(عرعرة)
عن موقع الجبهة
21/2/2017





® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com