إصرار على الركض وراء السراب - نعيم الأشهب


على فرض أن إدارة أوباما جادة هذه المرة في تسوية النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي، باعتبار ذلك قد غدا شرطا ومقدمة لا غنى عنها لبناء استراتيجية تستهدف تشكيل تحالف سني – إسرائيلي ضد محور إيران – سورية – حزب الله، فما هي طبيعة هذه التسوية وما هو مقدار ما تحققه من الحد الأدنى لمطالب الشعب الفلسطيني الوطنية، في الظروف الجارية فلسطينيا وإقليميا، وبالإشراف الأميركي المنفرد؟

فلسطينيا، لم يحدث منذ وقوع الاحتلال الإسرائيلي لبقية الأرض الفلسطينية، في حزيران 1967، أن كان الوضع الفلسطيني بهذا المستوى من التردي والسلبية، حيث حالة الانقسام ووجود سلطتين متنافستين في كل من رام الله وغزة تترسخ كحالة دائمة، وحيث تتشكل في كل من حماس وفتح الحاكمتين دوائر معنية باستمرار هذا الانقسام، بينما تتفاقم مظاهر عجز التنظيمات الأخرى في الساحة الفلسطينية.

وإذا كان الوضع العربي واعدا على المدى المتوسط والبعيد، بدعم نوعي للقضية الفلسطينية، فان تركيز الحراك الجماهيري الهائل، اليوم، منصب على الوصول إلى سلطة تعكس طموحات الملايين التي تنزل إلى الشوارع طلبا للعمل والعدالة لاجتماعية والحرية.

أما فيما يتعلق بالولايات المتحدة، الوصي الأوحد والمزمن على عملية التسوية، فهي اليوم أكثر تحيزا لإسرائيل من أي وقت مضى للسببين التاليين: الأول – تضعضع قدراتها في المنطقة كنتيجة للإنهاك الذي أصابها بسبب حربي أفغانستان والعراق؛ والثاني – أن الحراك الشعبي المستمر في العالم العربي منذ أكثر من عامين وتداعياته، حتى الآن، أقنع واشنطن بأنه لم يعد في المنطقة من نظام يمكن الرهان عليه لحماية مصالحها في المنطقة، عدا إسرائيل، ولا سيما بعد انهيار رهانها على حركة الإخوان المسلمين التي لم تحتمل أكثر من عام واحد؛ وبالتالي تزداد حاجة واشنطن لخدمات إسرائيل أكثر من أي وقت مضى. وهذا ما يدركه حكام إسرائيل جيدا، وبناء عليه يرفعون سقف مطالبهم من واشنطن، ولا سيما على حساب القضية الفلسطينية. ولعله لا يخلو من مغزى ومؤشر، في هذا الصدد، تعيين مارتن ايندك، مشرفا على عملية التفاوض الجديدة. لقد تساءل داعية السلام الإسرائيلي، أوري أفنيري بخصوص هذا التعيين: ألا يوجد بين الثلاثمئة مليون أميركي لتعيينه لهذه المهمة غير ايندك اليهودي؟ ولم يقل الصهيوني لا أقل من نتنياهو!

وإذا كانت إسرائيل ليس فقط ترحب بهذه الوصاية الأميركية المنفردة على العملية التفاوضية هذه، بل تشترطها، فان قبول الطرف الفلسطيني بها، بدلا من مؤتمر دولي أو حتى المشاركة الفعلية لأطراف اللجنة الرباعية الآخرين، ليس له من تفسير إلا الرضوخ المؤسف للضغوط الأميركية – الإسرائيلية، وبالتالي الاستعداد للتراجع عن الثوابت الوطنية التي تمثل إجماعا وطنيا ملزما بما في ذلك لحركة فتح.

وإذا كانت الشروط والظروف التي تتم في ظلها عملية التفاوض هذه، تمثل حالة مثالية للطرف الإسرائيلي، وهو ما يفسر قبول أكثر حكومة يمينية في تاريخ إسرائيل بهذه المفاوضات، فهذا يعني أن نتائجها محصورة سلفا بأحد احتمالين لا ثالث لهما: اما فرض المشروع الإسرائيلي للتسوية، أو تكرار نتائج جولات المفاوضات السابقة، والتي جنى ويجني منها المحتل المزيد من الوقت لمواصلة تغيير المعالم على الأرض.

ومن المفارقات أن القيادة الفلسطينية إذ تقبل بالعودة إلى عملية التفاوض هذه، وتتراجع عن شروط الإجماع الوطني المدعومة بالشرعية الدولية، وفي مقدمتها الاعتراف بحدود 1967 كأساس لعملية التفاوض وإيقاف عملية الاستيطان الكولونيالي المدان دوليا في الأراضي الفلسطينية فانها، في الوقت ذاته، ترضخ لتجميد أي توجه إلى الأمم المتحدة ومؤسساتها المختلفة.

أكثر من ذلك، فالقيادة الفلسطينية تقبل بالعودة إلى مصيدة المفاوضات العبثية دون شروط أو ضمانات دولية يمكن الثقة بها، في وقت راح يتشكل بديل مضمون، بعد أن فتح اعتراف الجمعية العمومية للأمم المتحدة بفلسطين كدولة مراقبة الطريق للانضمام إلى بقية مؤسسات الأمم المتحدة، بما فيها محكمة الجنايات الدولية، وما يترتب على ذلك من إمكانية جلب المحتلين أمام هذه المحكمة لتقديم الحساب على احتلالهم وجرائمهم ضد شعبنا، وهذا ما لا يخفون فزعهم منه، هذا من جانب؛ ومن الجانب الآخر ما تحقق من انجازات مرموقة في ميدان مقاطعة إسرائيل وعزلها على النطاق العالمي، وكان قرار الاتحاد الأوروبي الأخير بمقاطعة منتجات المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة مؤشرا واضحا على المدى الواعد الذي بلغته هذه العملية وآفاقها.

ولعل أخطر القضايا التي من المتوقع أن يركز التحالف الإسرائيلي - الأميركي عليها هي المطالبة بالاعتراف بـ "يهودية" دولة إسرائيل، وهو من ابتكارات نتنياهو ويحظى بالدعم الأميركي، رغم أنه لم يطرح حتى في اتفاقات أوسلو التي تضمنت الاعتراف المتبادل بين منظمة التحرير ودولة إسرائيل. فهذا المطلب الاستفزازي يعني أولا: التخلي مسبقا عن الحق التاريخي للاجئين الفلسطينيين بالعودة وفقا لقرار الأمم المتحدة رقم 194، وثانيا: يحمل أخطارا جدية بتعميق الهجمة الشرسة على شرعية وجود فلسطينيي 1948 وحقهم في وطنهم، والترويج الفاشي لفكرة ترحيلهم إذا لاحت فرصة مؤاتية، أو تبادل أقسام منهم مع المستوطنين، في إطار تبادل الأراضي الذي قبلت به القيادة الفلسطينية سلفا. وجدير بالملاحظة، في هذا الصدد، أن المسؤولين الأميركيين، بمن فيهم أوباما، راحوا يرددون، مؤخرا، بشكل لافت للنظر اصطلاح "يهودية" دولة إسرائيل. ويبدو أن هذا تعبير عن قناعة لديهم بأن إسرائيل دون ان تكون يهودية، بل صهيونية، لن تستطيع الوفاء بالخدمات المطلوبة أميركيا.

وفيما يتعلق بذلك الجزء الأصيل من الشعب الفلسطيني الذي بقي داخل إسرائيل ومصيره، ينبغي التذكير والتنبيه بأنه جرى منذ فصله قسرا عن بقية شعبه لدى وقوع النكبة، نشوء قيادة تاريخية له، تمثله وتنطق بلسانه، وتحظى بثقته، لدفاعها دون هوادة عن حقوقه وفي المقدمة منها صموده في أرض وطنه.

أما التنظيمات الفلسطينية المعارضة لهذه المفاوضات الخطيرة على القضية الفلسطينية، فلا يمكن الاعتقاد بأنه يكفي منها، الآن، إصدار البيانات أو القيام بفعاليات متواضعة ومنفردة، تحت راية العصبية الحزبية الضيقة، بل المطلوب ودون تردد أو إبطاء التخلي عن هذه الراية الأنانية والعمل الموحد تحت راية الوطنية الفلسطينية، لتعبئة الشعب المعارض والقلق على مصير قضيته المهددة أكثر من أي وقت مضى.

13/8/2013







® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com