بدّيش اكون كديش - د. حاتم عيد خوري
إبان فترة عملي في إدارة بلدية حيفا، في تسعينات القرن الماضي ومطلع الحالي، بادرتُ الى إقامة صندوق منحٍ تعليمية لدعم الطلاب العرب الحيفاويين المنضوين تحت عنوان "جديرون علميا ومستحقون ماديا". اردتُ لهذا الصندوق ان يُرفد بمصدرين اساسيين: تبرعٍ من خيّرين عرب من حيفا و/أو يعملون فيها، ودعمٍ ماليٍّ مماثلٍ مضمون من بلدية حيفا.

توجهتُ شخصيا الى العشرات من معارفي الذين كنتُ اعلم جيدا ان امكاناتهم المادية تسمح لهم بالتبرع وكنت اسمع منهم تصريحاتٍ مضمخة بالغيرة على مجتمعنا والرغبة في دعمه، مما جعلني اتوسّم بهم خيرا، وبالتالي شجعني على دعوتهم للتبرع للصندوق المنشود. فمنهم من طلب ان يفكر في الامر ويبدو لي انه ما زال غارقا في التفكير حتى يومنا هذا، ومنهم من رفض طلبي قائلا لي: "عندما تعلمتُ انا في الجامعة لم اجد من يساعدني"!!، ومنهم من ادّعى فقرا يدحضُه الواقعُ الملموس وكأن هؤلاء لم يسمعوا مقولة "مِنْ نِعَمِ اللهِ عليكم حاجةُ الناسِ اليكم". اما الآخرون، وهم الغالبية لحسن الحظ، فلقد تجاوبوا مع طلبي شاكرين إيّاي على ثقتي بهم، كما إستوحيتُ منهم مقالا نشرتُه آنذاك في "مجلة الكلمة" بعنوان "الناس اجناس"، تضمّن فيما تضمّنَهُ، الفقراتِ التالية:

"هناك أناسٌ كوتْهم نارُ الحاجة اثناء دراستهم الجامعية، فحرقت مشاعرَهم نحو الناس. وهناك أناس آخرون جعلوا من تلك النار التي كوتهم إبان دراستهم، ينبوعَ دفءٍ وتشجيعٍ ودعم لطلابنا الجامعيين حاضرا ومستقبلا".

"هناك أناسٌ متعلمون ينزوون في برجهم العاجي، وهناك متعلمون آخرون يجعلون من علو برجهم مطلا لرصد معاناة الناس كمنطلق للتفاعل معهم".

"هناك أناسٌ كلامُهم ينقصه العملُ المميز، وهناك اناسٌ عملُهم مميَّزٌ دونما كلام".

لهذه الكوكبة الخيّرة التي انتظمت في هيئةٍ أطلقتُ عليها اسم "رابطة الاصدقاء العرب"، يعود كل الفضل في نجاح صندوق المنح التعليمية وفي إنكشافي على نواحٍ انسانية هزّت مشاعري. لقد نجح فعلا صندوقُ المنح التعليمية ان يقدم خلال عشر سنوات متتالية (1994-2003) نحو الف منحة تعليمية لطلاب عرب حيفاويين مستحقين(حسب معايير علمية ومادية حددتها الرابطة) بقيمةٍ إجمالية مقدارها نحو مليوني شيكل، أي بمعدل 100(مائة) منحة سنويا معدلُ قيمة كلٍّ منها هو 2000(الفا) شيكل. كما قدم هذا الصندوق اربعين الف ساعة عمل تطوعية في خدمة المجتمع العربي الحيفاوي، ذلك لان كل من فاز بمنحة تعليمية التزم بتقديم اربعين ساعة عمل تطوعية باشراف ومتابعة دائرة التطوع في بلدية حيفا.

اما بالنسبة لانكشافي على النواحي الانسانية، فلعلَّ هذا يتضح من خلال قصّتين: قصة الاستاذ عيد وقصة رجل الاعمال ناجي (اسم مستعار). الاستاذ عيد هو صديقي المرحوم الاستاذ عيد سويطات ابو نايف الذي كان قد توجه اليّ بعد ان فقدَ، وفقدْنا معه، ابنَه البكر نايف رحمه الله، في حادث طرق مروع، قائلا لي: "فتحْنا في حينه، زوجتي وانا، مشروع توفيرٍ لدراسة نايف الجامعية. تجمّع حتى الان في هذا المشروع مبلغٌ معين من المال". توقّف ابو نايف عن الحديث برهة، ثم ما لبث ان تابع كلامَه بعِباراتٍ كادت تخنقُها العَبراتُ، قائلا: "أمّا الان وقد راح نايف، فبودنا ان لا نتصرف بهذا المبلغ لامورنا الخاصة، إنما ان نصرفه في مشروع يخلّدُ ذكرى نايف". اقترحتُ عليه ان ينضمَّ الى "رابطة الاصدقاء العرب"، فاصبحَ احدَ اعضائها البارزين المتبرعين لصندوق المنح التعليمية دونما شروط مسبقة. الرابطة من جهتها، حرصت بمبادرتها، ان تكون احدى المنح السنوية على اسم المرحوم نايف سويطات.

أما بالنسبة للقصة الثانية أي قصة رجل الاعمال ناجي، فلا بد من التنويه اولا، أن ناجي كان من اوائل المنتسبين للرابطة ومن اكثرهم غيرة عليها وحرصا على رسالتها ودعما لمشروعها. فوجئتُ يوما باحد اصدقائه المقربين يفشي لي سرا بأنَّ ناجي يمرُّ في ازمة إقتصادية حادة نتيجة لامور خارجة عن إرادته. حاولتُ ان ارفع عن كاهل ناجي مسؤولية التبرع للرابطة، فسارعتُ الى لقياه بذريعة معينة. قلتُ له في معرض حديثنا انه قد "كفّى ووفّى" ولا حرج عليه إن توقف عن التبرع. فهِمَ ناجي قصدي، فانتفض قائلا لي "ان التبرع ينعش انسانيتي ويرضيني عن نفسي ويذكُّرني دائما بباقة الورد في حكاية المكاري". لم يمهلني ناجي لأساله عن هذه الحكاية، فتطوع ليرويها لي:

يُروى ان يعقوب ابو المجيد، كان يُستأجَر قبل عهد السيارات في بلادنا، لينقل على ظهر كديشه (اي حصانه غير الاصيل) البضائعَ والامتعةَ من مكانٍ الى آخر في منطقة الجليل بصورة عامة وبين مدينتي عكا وصفد بصورة خاصة، فاكتسبَ لقبَ المكاري الذي غطّى على اسمه الحقيقي واصبح معروفا به. ذات مساء وصل المكاري الى خان العمدان في عكا بعد سفرة طويلة من اعالي الجليل. كان منهكا وجائعا. اراد ان يشتري طعاما له وعلفا لحصانه الكديش، لكنه لم يجد في جرابه سوى ثلاثين متليكا(عملة تركية نحاسية). ذهب الى السوق فاشترى طعاما بعشرة متاليك وعلفا لحصانه بعشرة متاليك اخرى. أمّا بالعشرة الاخيرة من رصيده، قرّر ان يشتري باقة ورد ليضعَها امامه اثناء تناوله طعام العشاء.... هذا المشهد أضحكَ كلَّ من كان حوله من نزلاء الخان، وربما اثار استهزاءهم، أو في احسن الحالات شفقتَهم. وعندما سأله احدُهم، كيف يتناغم هذا مع ذاك؟ اجاب المكاري بعفوية مشبعة بحكمة من تتلمذ في جامعة الحياة، أنه عندما قارن بين نفسه وبين حصانه الكديش باحثا عما يميزه كإنسان، لا سيما ان كليهما كائنٌ حيٌّ يأكلُ ويشرب ويشتغل ويعرق ويتوالد ويتكاثر، قرّر ان يشتري باقة الورد ليُبرِز كونَه إنسانا أو، على الاقل، ليُنعِش إنسانيتَه، وكأنه اراد ان يقول لنا جميعا "بدّيش اكون كديش".

15/7/2016





® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com