الشاعر وديع البستاني عاشق فلسطين - د. سميح مسعود

هوعلم من أعلام الأسرة البستانية اللبنانية المعروفة بكثرة علمائها وأدبائها من مشاهير طلائع النهضة الحديثة، الذين ساهموا في إحياء اللغة العربية في الحقبة العثمانية، وانفردوا بأعمال كثيرة في شتى المواضيع الأدبية والثقافية، صاغوها بطريقة مبتكرة، وحازوا بها شهرة لم ينازعهم فيها أحد.

ولد وديع البستاني في عام 1886 في بلدة الدبية اللبنانية معقل البستانيين في قضاء الشوف، تلقى فيها دروسه الابتدائية ،وأكمل دراسته الثانوية في مدرسة سوق الغرب ،لينتقل منها إلى الجامعة الأمريكية في بيروت، من أجل متابعة تحصيله العلمي حيث نال إجازتها في العلوم والآداب عام 1907، ليبدأ مشواره العملي فيها لمدة سنتين كمدرس للعربية والفرنسية، ثم تولى بعد ذلك منصب كبير المترجمين في القنصلية البريطانية في مدينة الحديدة باليمن،وعمل لفترة قصيرة في مصر، وزار انجلترا، وأقام في الهند سنتين ومثلهما في جنوبي افريقيا.

انتقل بعد ذلك إلى فلسطين عام 1917 والتحق بوظيفة ادارية لدى حكومة فلسطين، فاقام في يافا، ثم في حيفا، واستقال من وظيفته عام 1920 احتجاجا على سياسة بريطانيا عندما ظهرت على حقيقتها ضد العرب، وانضم الى الحركة الوطنية الفلسطينية مساهما في مقاومة الانتداب والمخططات الصهيونية، وبقي حتى آخر أيامه مدافعا عن عروبة فلسطين دون توقف، وهو يقبض على مبادئه الوطنية التي آمن بها كمن يقبض على الجمر.

التحق بمعهد الحقوق الفلسطيني في مدينة القدس، وبعد تخرجه نال شهادته وإجازة ممارسة مهنة المحاماة عام 1930، وتفرغ في ممارسته العملية لقانون الأراضي مكرسا جهوده للدفاع عن أراضي العرب في فلسطين، والتصدي لمحاولات السلطات الانتدابية في اهداء الأراضي العربية للوكالة اليهودية، ومنها الأراضي المسجلة باسم السلطان عبد الحميد الثاني، وتولى الدفاع في هذا المجال عن ملكية العرب لأراضي غور بيسان وربح لهم دعاوى تاريخية ضد السلطة الانتدابية، ثبت بها حقوق أهالي بيسان في أراضيهم، وكذلك كان موقفه المشرف بالنسبة لأراضٍ في الحولة والمدورة وأراضٍ اخرى كثيرة غيرها، وساهم بهذا بتشبث الناس بالأرض التي آمن أنها جوهر الصراع بين العرب وأعدائهم.

وثمة إنجازات أخرى كثيرة حققها تُفصح عنها سيرته النضالية، تتجسد في مساهماته الفعالة في نشر الوعي السياسي من خلال مطالبه وآرائه السياسية التي أبرزها في شتى المناسبات بكل ما فيها من مبادئ، تقوم على "تآخي الدين مع القومية واتلاف الوطنية مع العقيدة"، استند عليها في تأسيس "الجمعية الإسلامية المسيحية" التي عرفت فيما بعد بـ " اللجنة العربية التنفيذية للمؤتمرات العربية" التي استمرت في نشاطها حتى حلت محلها "اللجنة العربية العليا".

وتم له بفعل هذه الانجازات التفوق على أقرانه من الفاعلين في العمل العام، وأصبحت له في غضون سنوات قليلة شعبية بارزة في كل أرجاء فلسطين، مكنته من القيام بمهام وطنية كثيرة،من أبرزها تعيينه في عام 1923عضوا وأمينا عاما للوفد العربي الفلسطيني الثالث إلى لندن ، وهو الوفد الذي كانت مهمته الحيلولة دون إبرام المعاهدة الانجليزية العربية : "الحسين- كرزن".

واللافت أن نضاله السياسي قد اقترن بعطائه الشعري، بث من خلال قصائده صرخات وطنية حماسية بحس عروبي عبر فيها عن توجهاته النضالية، ومن مآثره الشعرية ديوانه الموسوم بديوان "الفلسطينيات" الذي صدر عن دار البشائر في بيروت عام 1946، وقد قدمه الناشر بقوله: "إنه ديوان بلبل الأرز الشادي الذي غنى لفلسطين وعاش لها، ونبض بحبها قلبه وفاضت بانشادها شاعريته، وواكب نضال شعبها، وسجل بطولاته وثوراته شعرًا ونثرًا".

ويعبر الشاعر وديع البستاني عن حبه لفلسطين في تقديمه لديوانه ببيت الشعر التالي:

ومن ورائي فلسطين أعيش لها        حتى أموت وفي عيني لبنان

ويقول في مجال تعريفه لهذا البيت: "وبهذا البيت ما به من الروح العربية الجامعة بين لبنان وفلسطين وطنًا واحدًا لمن كان مثلي لبناني المولد والعشيرة وفلسطيني الإقامة والتوطن".

ولعل خير من يُعرّف ديوانه الشيخ حسن تميم بقوله: "إن ديوان الفلسطينيات باختصار سجل صادق لأبرزأحداث عصر وديع البستاني، وإن شئت قول الفصل فقل انه: تاريخ النضال القومي، وتدوين لحركة الثورات العربية الفلسطينية منذ الإحتلال إلى ظهور مقدمات النكبة".

اطلعت مؤخرا على نسخة قديمة من ديوان الفلسطينيات حصلت عليه من حفيدته نورا نعمان البستاني، وجدته يعج بلوحات شعرية كثيرة ، تظهر فيها ملامح شاعرنا الكبير بأجلى صورة وأحلى مفاهيمه الوطنية، ومن تلك اللوحات قصيدته المؤرخة في تشرين 1922التي يناجي فيها حبيبته فلسطين، ومطلعها:

وجب الحب، وقَلبي وَجَبا        يا بلادي وقَضى ما وَجَبا

أين ليلى؟! فأنا مجنونها        وشبابي في هواها ذَهبا

وفي لوحة أخرى يرى فلسطين بمنظاره وطن العرب كلهم، والكوكب الارضي:

يا فلسطينُ بلادَ الله يا        كوكبًا شَرَف هذا الكوكبا

ويراها جنة العرب دون غيرهم يرتعون فيها:

وأنتِ لنا إن شاء ربُك جنةً        وَيهْنئُنا دون الأنام خَصيُبها

وتتسع مواضيع قصائد الديوان فتشمل كل ما يتصل بالقضية الفلسطينية، بما في ذلك مقاومة الاستعمار، وفضح العملاء الذين يعملون ضد مصالح الأمة ، ومنهم الشاعرالمتصهين معروف الرصافي، الذي امتدح المندوب السامي هربرت صموئيل بقصيدة نظمها خصيصا لتلك المناسبة في حفل افتتاح الجامعة العبرية عام 1925، الذي قاطعته الحركة الوطنية الفلسطينية... بإحساس وطني أدان الرصافي بقصيدة له امتزجت بتعبير صادق عن مبادئه،وانحيازه الكامل إلى الشعب الفلسطيني وتطلعانه الوطنية.

إن اشعاعات وديع البستاني لا تنحصر بديوانه السابق ذكره، بل تظهر أيضًا في أعمال أدبية أخرى كثيرة، منها : رسالة في الألف والهمزة والياء وكتابتها، ومجاني الشعر، وذكرى الفراق، والى ذي عبقر (قصائد وحواشٍ مهداة إلى الشاعر شفيق معلوف صاحب ملحمة عبقر)، ورباعيات الحرب بالانجليزية، ورباعيات أبي العلاء بالانجليزية أيضًا، إضافة إلى كتابه " الانتداب الفلسطيني باطل لا محال" الذي وضعه باللغتين الانجليزية والعربية وطبع في بيروت عام 1936، وأجازته اللجنة العربية العليا بكل ما فيه من حجج ووثائق وحقائق في حل المشكلة الفلسطينية، وقد تم توزيع نصه الانجليزي في كثير من الدول الاجنبية، ونصه العربي في كل الدول العربية.

ومما خلفه وراءه من آثاره النثرية ترجمته لكتاب "خمسون عامًا في فلسطين" من اللغة الإنجليزية الى اللغة العربية ، الذي يتضمن مذكرات صديقة العرب الشهيرة نيوتن،فرنسيس إملي ، وقد طبع في بيروت عام 1947، وله في مجال التعريب انجازات اخرى كثيرة، منها مؤلفات اللوردإيفري المشهورة وهي أربعة وعناوينها:معنى الحياة، السعادة والسلام، ومسرات الحياة، ومحاسن الطبيعة.

وتجدر الإشارة إلى أنه اهتم مبكرًا بالتعريب، ونقل المعرفة الى قراء اللغة العربية، ويُجمع النقاد على أنه قاد حركة الترجمة والتعريب في الدول العربية في النصف الأول من القرن العشرين، وكانت بداياته في عام 1911عندما سافر الى لندن بإجازة قضاها في مكتبة المتحف البريطاني، تعرف خلالها على آثار عمر الخيام،وقرأ كل ما يتعلق به، ثم ترجم له الرباعيات شعرأ من الإنجليزية إلى العربية، وكان أول من عرب الخياميات، وذكر جورجي زيدان ترجمته في كتابه "تاريخ الآداب العربية"مؤكدا على أهميتها ، كما أنه أصدر دراسة للخياميات أي الرباعيات المنسوبة إلى عمر الخيام وترجماتها الاجنبية والعربية، وضمنها كل ما جاء في شعر أبي العلاء المعري من شعر مماثل للخياميات أو مناقض لها.

ولاهتمامه الزائد بالتعريب سافرإلى الهند في عام 1912 وأقام فيها عامين، تعرف خلالها على الشاعر الهندي الشهير طاغور، وأقام بضيافته وترجم له مجموعة شعرية من مجموعته الغزلية في صور شعر منظوم ونثر وتعليقات كثيرة أطلق عليها اسم "البستاني".

ومن أعماله التي يشار لها بالبنان ترجمته من اللغة السنسكريتية مباشرة إلى اللغة العربية مجموعة من الآثار والملاحم الهندية الخالدة ، التي تشتمل على:ملحمة "الرميانا" المقابلة لملحمة "الأوديسة" لهوميروس، وعدد أبياتها العربية 3950 ، وملحمة " المهبراتا" المقابلة لملحمة "الإلياذة" لهوميروس، وعدد أبياتها العربية 3472، وقصة " نالا ودامينتي" وهي جزء من المهبراتا ، وعدد ابياتها العربية 1256، وتعريب عدة أبواب من "كليلة ودمنة" من أصلها السنسكريتي، ومسرحية " شاكنتلا" أو الخاتم المفقود وعدد أبياتها العربية 745،إضافة إلى تعريبه مجموعة من الأساطير الهندية.

وهكذا ترك شاعرنا للثقافة العربية آثارًا خالدة، شعرًا ونثرًا، بتكوينات عذبة الإيقاع، تُغري بسماعها وقراءتها بكل ما فيها من مشاعر إنسانية وأفكار نبيلة، بها كان حصاد حياته خصبا ثمينا، أضاف به شيئا جميلًا إلى الحياة.

وترك لنا أثرا عن عشقه لفلسطين وأهلها لن تزيله الأيام... ناضل من أجلها بقلمه ولسانه، وشعر بحسرة شديدة يوم نكبتها، لم يغادرها مع من رحل من أهلها، آثر البقاء في بيته بعد احتلال حيفا، بقي فيه عرضة لضغوط الاحتلال خمس سنوات قبل أن يرحل الى بيروت... تألم عند مغادرته حيفا التي أحبها بكل جوانحه طيلة عمره، وقال قبل وفاته معبرًا على لسان حاله مع العروبة:

غنى العروبة عمرًا        وعاش حتى رثاها

لو كنت نحاتًا لأقمت له تمثالًا لا يقهره الزمن، ولكتبت على قاعدته بأحرف كبيرة " باقٍ في حيفا " نفس الكلمات التي أوصى بها الراحل الكبير إميل حبيبي أن تكتب على ضريحه، ولوضعت التمثال أمام بيته الذي ما زال شامخا حتى الآن في وادي الجمال على رمال الشاطئ الأزرق، لكي تتعرف الاجيال المقبلة عليه، وتقتفي أثر مسيرته بكل ما فيها من صفاء ونقاء وطهر.

عن موقع الجبهة
9/4/2016







® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com