|
الناصرة الفلسطينية مدينة البشارة والمسجد الأبيض - وديع عواودة
الناصرة ـ «القدس العربي»: الناصرة المدينة الفلسطينية الوحيدة التي نجت من زلزال نكبة 48 ولم يتجاوز تعدادها وقتها 12 ألف نسمة ورغم خصوصيتها الدينية التاريخية لم تكن بمصاف المدن الفلسطينية الأولى كالقدس وبيت لحم ويافا وحيفا. لكنها اليوم هي عاصمة فلسطينيي الداخل كونها المجمع السكاني الأكبر لديهم وتعد نحو 90 ألف نسمة ومركز الفعاليات السياسية والثقافية والاجتماعية. الناصرة المتربعة على جبال الجليل تمتاز أيضا بكونها مدينة كونية الطابع وملتقى الشرق والغرب منذ قرون بفضل موقعها وارتباطها بمعتقدات دينية مسيحية وإسلامية لاسيما أنها المكان الذي بشرت السيدة العذراء بأنها حامل رغم عذريتها وفيها كنيسة عملاقة تحمل اسم البشارة. ويؤكد باحثون كثر ذلك ويشيرون إلى اهتمام المسيحيين والمسلمين في العالم بها كما يتجلى في عمارتها، تراثها وتاريخها.
include ('facebookshare.php'); ?>
هذا الأسبوع زارت «القدس العربي» المدينة وتجولت بين أسواقها وحواريها وتوقفنا عند كنيستها ومسجدها الأبيض أهم معالمها الحضارية. لم تشهد الكنيسة من قبل تراجعا بأعداد الحجاج والسائحين الذين جاؤوا للناصرة من أقاصي المعمورة لزيارتها كما هو حاصل هذه الأيام منذ شهور. مسؤول الحراسة في الكنيسة أنيس فاخوري يقول إنه لا يذكر منذ عقود مثل هذا الانقطاع عن الكنيسة. وتعتبر كنيسة البشارة في الناصرة واحدة من أبرز كنائس العالم ويؤمها آلاف الحجاج والزائرين من أقطاب الدنيا كل يوم بسبب قداسة المكان المرتبط بذات المستوى مع القدس وبيت لحم وطبريا وقانا الجليل بالنسبة للمسيحية والمسيحيين. كنيسة البشارة التي تستقبل يوميا آلاف الحجاج والزائرين من كل الدنيا باتت تستقبل العشرات أو المئات في أحسن حال كل يوم منذ تفجر المواجهات مع الاحتلال في القدس. ويتابع «حتى بمثل هذه الأيام ونحن عشية عيد الميلاد فلك أن تتخيل تأثير الأوضاع السياسية والأمنية». لكن فاخوري يشيد بحجاج الهند، سيرلينكا وبولندا «لأنهم لا يخافون» وظلوا يزوروننا بأعداد كبيرة. نظرة واحدة على الجدران المرصعة باللوحات الجميلة تظهر كم هي مهمة كنيسة البشارة لمسيحيي العالم فهناك عشرات الدول التي بعث كل منها لوحة ثمينة جدا تزدان بها جدران ساحة الكنيسة الضخمة. سوق يتيم وإذا كانت هذه أحوال الكنيسة اليوم فالسوق المجاور لها وهو سوق تاريخي عمارته على الطراز العثماني يكابد الهجران وتجاره يصارعون من أجل البقاء فالحياة التجارية هنا طبعا متعلقة بالسياسة والأمن. «أملك وأدير هذا المطعم وأقدم فيه الحمص والفول بأسعار شعبية أنا وشقيقي منذ 41 عاما وقد شهدنا بالعصر الذهبي أياما لم نبرح المطعم إلا بالليل أما اليوم فيفتح الله». يقول أبو أشرف وهو يلتمس صندوق سجائره بحثا عن تنفيس غضبه المتراكم. لكن الأزمة في السوق التراثي التاريخي لهذه المدينة الجميلة ليست وليدة الأزمة الأمنية الراهنة فعمرها سنوات منذ أن انتقل الجمهور للمجمعات التجارية كما هو حاصل في العواصم الكبرى أيضا فهذا هو وقت الكينيونات. كما أن «العيال كبرت» يقول جاره بسام بائع الورد موضحا أن بنات الناصرة أي القرى المجاورة كبرت وباتت بلدات كبيرة فيها كل ما يحتاجه أهلها فانقطعوا عن زيارة السوق منذ سنوات. ويتابع بلهجة فيها سخرية سوداء: «بعد صلاة العصر لا تجد هنا في السوق عصفورا واحدا». وفعلا حل موعد العصر ونحن في السوق وكانت حالته كما وصف بائع الزهور بل إن محاله التجارية نصفها مغلق منذ سنوات بعدما عجز أصحابها عن مواصلة المشوار لشح الزبائن. وقد أغلقت المئات من المحال التجارية القائمة داخل عقود وقناطر وهي مبان تاريخية جميلة من العصر العثماني بعضها كان يحتضن حرفا نادرة كمبيض الأواني النحاسية والقردحجي ومصلح الساعات وغيرهم. نصف قرن مع موس الحلاقة لكن الحلاق أبو وجدي (73) الذي يملك محلقة ويعمل فيها منذ 55 عاما فلا يبرح محلقته رغم أن تعداد زبائنها لا يتجاوز الإثنين أحيانا. أبو وجدي وهو مهجر من مدينة طبريا قادر على حلاقة رأس الزبون وهو مغمض لتجربته الطويلة، يوضح أنه بذلك يتشبث بالحياة لأن إغلاق المحلقة يعني إغلاق أهم صفحة في حياته ويخشى أن لا يصمد بعدها. «على الأقل هنا أبقى مع جيران وأصدقاء العمر» يقول أبو وجدي وهو يحلق بمقص ومشط شعر أحد زبائنه داخل محلقة باتت أشبه بمتحف لوفرة ما فيها من أدوات قديمة ورسومات وصور وحتى طاقم البلدية من العهد الانتدابي. ورغم انحسار الزبائن لكن أبا وجدي راض تماما ولا يبدو شاكيا. «لكل زمان دولة ورجال وحلاق» قال مبتسما وهو يقول حتى لو فتحت محلقتي داخل الكانيون الأهم فالشباب يبحثون عن تسريحات حديثة لا أتقن صنعها. ويتمنى أو وجدي أن يحفظ الله مدينته التاريخية وتآخي أهلها. ظاهر العمر ويوضح المؤرخ المختص بالتاريخ الفلسطيني د. محمود يزبك أن ظاهر العمر، حاكم فلسطين في القرن الثامن عشر، أسس مدينة الناصرة الحديثة كمدينة إسلامية وما لبث أن دعا مسيحيين عرب للسكن فيها وبناء كنائسهم ومؤسساتهم ولذا يعتبره الفلسطينيون رمزا للتسامح والاعتقاد بنعمة التعددية. وتراجع عدد المسيحيين في الناصرة بسبب الهجرة الممتدة منذ مطلع القرن العشرين وباتت نسبتهم نحو 35? فقط لاسيما أن الخريطة الديموغرافية قد تغيرت عام 1948 بعدما انتقل لها آلاف اللاجئين المهجرين من قراها المحيطة. مريم العذراء ويؤكد يزبك، المحاضر في جامعة حيفا، أنه لا يمكن حشر الناصرة في المربع المسيحي من الناحية الدينية لافتا لصلتها بالموروث الديني والحضاري الإسلامي. ويشير لما جاء في القرآن الكريم من آيات حول تبشير السيدة مريم العذراء بأنها حامل دون أن يمسسها بشر، ولبناء كنيسة البشارة في الموقع الذي بشرت به داخل المدينة ويضيف»لذا فإن موقع البشارة يتسم بالقدسية إسلاميا أيضا لارتباطه بالرواية القرآنية حول مريم العذراء». وينوه يزبك لسلسلة مواقع دينية وتراثية إسلامية في المدينة ومن أبرزها المسجد الأبيض الجميل المبني من القرن التاسع عشر، مقام «النبي سعين» ومقام شهاب الدين اللذين وردت شروحات عنهما في كتب الرحالة المسلمين والأجانب بدءا من الحقبة الأيوبية. الطابع المسيحي كما يشير لمقام الشيخ عامر المجاور لدير راهبات مار يوسف وخان الباشا التاريخيين ويتابع «بعد منتصف القرن التاسع عشر بدأت الحركة التبشيرية الأوروبية ببناء مؤسسات كنسية في الناصرة حتى صارت تميل للطابع المسيحي». ويشير أن الناصرة اليوم مدينة إسلامية- مسيحية تحمل موروثا حضاريا إنسانيا جامعا منوها أنها ملتقى للأديان والحضارات. وحضرت الناصرة في كتب تاريخية كثيرة ومن بين الجغرافيين العرب الذين كتبوا عنها الهروي، أبو الحسن، علي بن بكر (ت 611هـ/1214م)، رحالة عربي، صوفي، ولد في الموصل وأصله من هراة، اهتم بجغرافية البلاد المقدسة، وزار مدن وقرى فلسطين، واهتم بإبراز البعد الديني المسيحي والإسلامي لها. وتشير الدراسة أن الهروي في كتابه «الإشارات إلى معرفة الزيارات» تناول موقع الناصرة ومكانتها، وأهميتها الدينية في الفكر الديني المسيحي وتقاطعها مع الموروث الإسلامي. ظاهر العمر من جهته يؤكد الجغرافي الفلسطيني د. شكري عراف أن الناصرة ما زالت ملتقى الشرق والغرب منذ نشأتها وينوه أن حاكم فلسطين ظاهر العمر الزيداني هو الذي طور المدينة وكفل حقوق السكان المسيحيين العرب فيها. وردا على سؤالنا يلفت د.عراف أن الأديرة والكنائس تملك اليوم ثلث أراضيها بفضل سياسة التسامح المنتهجة من قبل ظاهر العمر وورثته. ويتابع «الناصرة رمز مسيحي بارز محاطة بمواقع مسيحية مقدسة هامة جدا مثل قانا الجليل موقع العجيبة الأولى للسيد المسيح، وجبل الطور لكن المدينة تقع في الشرق ورمزيتها الدينية المرتبطة بالبشارة حظيت بإشارة هامة في القرآن الكريم». كنسية البشارة ونجت الناصرة من فتنة كادت أن تأتي على الكثير من مكتسباتها بمنتصف تسعينيات القرن الماضي يوم نشب خلاف حول بناء مسجد في ساحة شهاب الدين بجوار كنيسة البشارة. الخلاف الذي نشب بين لجنة الوقف في الحي وبين البلدية سرعان ما نجمت عنه توترات طائفية أججتها تدخلات إسرائيلية (ودولية) عملت وفق «فرّق تسد». المدينة التي لعقت جراحها عدة سنوات استعادت عافيتها من جديد لأن طريق الانقسام غريبة عن تقاليد أهلها وهي «طريق كلها أشواك» كما يقول الشيخ ناصر دراوشة إمام المسجد الأبيض. ويتابع «فقط من برأسه نصف عقل يتعاون مع أفكار طائفية فقد كنا وسنبقى هنا إخوة ومتحابين ومختلفين وكل من على دينه الله يعينه». مطران طلياني عاشق للعربية وهذا ما يتبناه بالكامل جاتشيندو باولوس ماركوتسو (74) طلياني الأصل، مطران ونائب بطريرك اللاتين في القدس لكنه عاشق للغة العربية ومعجب بالنصوص القرآنية. يشغل ماركوتسو اليوم وظيفة مطران طائفة اللاتين في الناصرة ومهتم بالتقارب بين الطوائف ويعرف باسم عائلته (ماركوتسو) بعدما « تنازل» عن النصف الأول من اسمه الشخصي لصعوبة لفظه على لسان العرب. على فنجان قهوة معه داخل منزله المتواضع بجوار «البشارة» يكشف المطران الذي ينشط في مجال تعزيز الراوبط بين المسيحيين والمسلمين أنه ختم قراءة القرآن وأبهرته لغته المتينة ويتابع «فوجئت أيضا بجمال وقوة وتأثير لغة القرآن المشحونة برسائل كبيرة وأعجبت بوفرة الآيات عن السيدة مريم العذراء». مجتمع الناصرة في سياق حديثه حول قرائته القرآن الكريم يبدي المطران إعجابه بلغته وبوفرة آياته عن السيدة مريم العذراء. ويرى أن اللاهوت يباعد بين المسلمين والمسيحيين لكن السيدة العذراء تجمعهم وتقربهم خاصة في الناصرة مدينة البشارة. ويضيف جازما «لا أستطيع أن أفهم خلافات أو الانشقاقات بين المسلمين والمسيحيين في الناصرة كونها مدينة الـــعـــذراء التي تحدث عنها القرآن بهذه الغزارة والمسيحي يكرمّها بهذه المحبة وبهذا العمق». ويقول المطران إنه يرى في الناصرة مدينة للحوار العالمي بين الثقافات والحضارات كونها ملقى الأرض والسماء وفيها التقى العهدان القديم والجديد داعيا أهاليها للتشبث بهذه الروح وحماية العيش المشترك. وهل أنت قلق على المستقبل؟ «أنا متفائل لأن أهالي الناصرة استطاعوا اجتياز محنة والتغلب على أزمة شهاب الدين لكنني أخشى أن تتكرر التجربة المريرة ولذا علينا أن نبقى ساهرين متيقظين حتى لا نقع في هذا الفخّ فنحن معرضون في كل لحظة للوقوع به رغم تحلي علاقات الطوائف بصلات عميقة كما يتجلى في الحياة الاجتماعية كل يوم». ويستذكر الأب ماركوتسو كيف شكلّت الأزمة صدمة بالنسبة له لافتا «أن هذا الطحين لم يأت من ذاك القمح». وهل لديك روابط اجتماعية وصدقات مع أبناء طوائف أخرى؟ «طبعا. لا أميّز فكل إنسان هو أخ لي وهذا ليس شعارا أو مجاملة. لم أحضر من إيطاليا للقيام بتمثيلية أو لعب دور ما أو للقيام بشغل بل جئت لخدمة كل إنسان في الديار المقدسة. ككاهن فإن أبناء الرعية بطبيعة الحال هم أقرب الناس لي لكنني متمسك برؤيتي الأشمل بأن كل البـــشـــر إخوتي. وبحسب الأب ماركوتسو فإن الدين هو القلب أي التسامح والمعاملات». 19/12/2015 |
® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com |