ناظم الغزالي… "قل لي ياحلو منين الله جابك" - نصير شمه

في الثالث والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول 1963وبعد وصوله من بيروت لبغداد براً طلب قدحاً من الماء الساخن لحلاقة ذقنه، وقبل وصول الماء سقط مغشياً عليه، ثم فارق الحياة والنَّاس ومحبيه.

صرخات من هنا ومن هناك تجمع الجيران، وما هي إلا دقائق حتى أصبح الخبر منتشراً في كل أرجاء بغداد، بشكل ربما غير مسبوق.

لأسباب عديدة؛ أهمها أنه نجم العراق الأول حينها وبلبله العذب، كان يتمتع بطّلة وحيوية لشخص في كامل عافيته ولياقته، ولم يكن يشكو من أي أمراض أو أعراض، بل على العكس تماماً، كان متوهجاً جداً في حفل بيروت، وحين عاد مع فرقته بعد حفل ناجح كان بصحبته طيلة الطريق الى البيت الفنان الكبير عازف القانون سالم حسين، الذي يعيش حالياً في بلجيكا، وحدثنا عن تلك الرحلة قائلاً، لم أتخيل ولم أستطع أن أصدق أن المتحدثة على التلفون من بيت الفنان الذي أوصلته منذُ نصف ساعة الى بيته تقول لي الحقنا أستاذ سالم، لقد سقط ناظم ولم يتحرك.

بعد دقائق كنّا مجموعة من فرقته وأصدقائه وعائلته في لحظة ذهول فقد هوى النجم الجذاب.

لم يصدح صوته ثانية، لم نعد نتمتع بحضوره الجميل والتلقائي على المسرح، انتهىت قصة نجاح مغن منح المقام العراقي والأغنية حضوراً غير مسبوق، حضوراً متجدداً في حفاظ على جوهر المقامات العراقية مع لمسة حداثة في الشكل والإتقان.

ظهرت أقاويل كثيرة عن سبب رحيله المباغت، لكن لم يكن أيها صحيحاً، سكتة قلبية أودت بحياته بدون مقدمات وأنهت حياة إنسان جميل وفنان نادر.

قطعت الإذاعة العراقية بثها لتعلن خبر رحيله، الذي أصاب العراق والعالم العربي بالحزن والذهول لفقدانه المبكر.

ما قدمه الراحل ناظم الغزالي للأغنية والمقام العراقي يُعد مساراً غير مسبوق مع جمال وعذوبة صوت وحنجرة تستقبلها الأسماع بجاذبية وقبول من دون تكليف.

جاء للغناء عبر مسرح فنان مسرحي وقطب ثقافي عراقي اسمه حقي الشبلي، وفي مسرحية مجنون ليلى للشاعر أحمد شوقي، الذي منح له حضوراً وإطاراً يجعل ضمان وصول صوته الصّداح إلى جمهور ذواق وكبير من صفوة محبي إبداع حقي الشبلي وفرقته التي سماها «الزبانية»، لكن حلم الفنان كان أكبر، فقد قرر هجر المسرح ليؤسس مشروعه الغنائي الذي كان يراه في أحلام يقظته، لم يكن يريد أن يكون ظلًّاً لكبير، كان يريد أن يكون كبيراً صاحبا لظل او ظلال.

لكن عناصر الصورة لها أبعاد، وكلما كانت متعددة ومدروسة بعناية تكون الصورة أجمل، لذلك استعان ناظم الغزالي بأهم الملحنين والشعراء والعازفين، ومع ان صوته وقدرته على التلوينات في المقامات والانتقال من مقام إلى آخر ببراعة كانت أسبابا كافية للنجاح، إلا أنه لم يتكئ على هذا فقط، بل تعداه إلى العناية بكافة التفاصيل، صغيرها قبل كبيرها، كان معنيا بكل ما يتعلق بالأغنية منذ لحظة ولادتها حتى لحظة غنائها على المسرح وأمام الجمهور.

لم يكن ناظم الغزالي فنانا عراقيا وحسب، بل تجاوز المحلية بسرعة الى العربية ومنها إلى العالمية، فقد كان ذكيا في خياراته ويعرف تماما كيف يرضي جمهورا مختلف الأذواق، من دون أن يتخلى عن خياراته الأولى في الجودة والأهمية.

حقق للمقام العراقي انتشارا واسعا داخل وخارج العراق، وأصبحت كلمة «مقام عراقي» تدلّ عليه حتى من قبل جمهور غير متخصص، هكذا التصق اسمه بالمقام كما التصق المقام به.

في صوت الغزالي التينور يستطيع اللعب على مساحات صوتية محببة للأذن وسلسة في الوقت نفسه، واعتمد على صيغ غنائية قد تبدو في سطحها سهلة لسلاسته، ولكن العارفين بالموسيقى يعلمون تماما ان هذا السطح البسيط يحتاج الى قدرة عالية في الأداء والتلوين والقرب من الناس، كونها سهلة الحفظ وانتشرت بسرعة بين الجمهور العربي. سلاسة الغزالي في الأداء ارتبطت أيضا بخياراته الشعرية، لدرجة أن كلمات بعض أغانيه أصبحت كالأمثال متداولة بين أشخاص مختلفين، كما أن أغنياته حفرت لنفسها أمكنة مختلفة، خصوصاً أنه غنى لمناسبات متنوعة.

لم يعتمد الغزالي على الشعر المتوارث لأكثر من ألف عام من عمر المقامات العراقية، بل فور ظهوره كان قد حسم أمر تجديد مفاصل المقام وأخذ منه خلاصته، وأظهره قريباً من المستمع في كل الوطن العربي.

ولم يأبه لكل منتقديه المحافظين على شكل المقام التقليدي وعدم المساس به، اختصر كثيراً في المقام، اختار قصائد عربية جميلة لأهم الشعراء الكبار، فرقة موسيقية جديدة، ملحنين كبارا، شعراء معاصرين أيضاً لكتابة الأغاني التي تغنى بعد المقام وتسمى (بستة) ولأول مرة أيضاً تصاحب مغني المقام مجموعة كورال وكانت جيدة جداً.

اهتم بصورة الفرقة وديكور الاستديو والمسرح الذي يظهر عليه، وكان يدفع تكاليف كل ذلك لحرصه الشديد وحبه لعمله.

في منتصف الخمسينيات بدأت الأسطوانات الحجرية تنتشر في العراق ومنطقة الخليج العربي. وقامت (شركة جقمقچي) بتسجيل أغاني الفنانين العراقيين، وفي مقدمتهم ناظم الغزالي.

وظهرت الأغاني في أسطوانات مثل «طالعة من بيت أبوها» و»ماريده الغلوبي» و»يم العيون السود» و»عيرتني بالشيب وهو وقارُ» وغيرها من الأعمال الرائعة من ألحان ملحن عظيم اسمه ناظم نعيم ويشرف على توزيعها الموسيقي الفنان الراحل جميل بشير.. وبهذا بلغت شهرته ذروتها وبدأت تتوالى الشهادت بقدرته الغنائية من قبل عمالقة الغناء.. ولم يتأخر الموسيقار محمد عبد الوهاب عن إظهار رغبته في التلحين لناظم الغزالي.. وتم الاتفاق على ذلك فعلاً في صيف 1961، غير أن رحيل الغزالي كان أسرع ولم تكتمل فرحته في تحقيق هذا الحلم.

أما قصة زواجه بسليمة باشا، وهي أهم مغنية عراقية فقد كان لقاؤهما في سنة 1952 عندما اشتركا معاً في حفلة غنائية، وفي سنة 1953 تم زواجهما وعاشا معاً حتى رحيله، وعلى أثر وفاته أصيبت سليمة مراد بانتكاسة واعتزلت الغناء حتى وفاتها.

كانت تكبره بـ(20) عاماً لكنه أحبها وظل متمسكاً بها ويشاركها حفلاتها. جمعت بينهما حبهما للمقامات والبستات العراقية. كانت معلمته في الحياة وفي حفظ ألوان الغناء العراقي وزوجته وصديقته.

ناظم الغزالي كان ويبقى حالة عالية في سجل الغناء العراقي والعربي وكلما مَّرَّ الزمان عليه زاده جمالاً وعمّق حبنا له.

* موسيقي عراقي

27/8/2015






® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com