المعماري العراقي محمد مكية يرحل عن عمر تجاوز الـ100 عام - صفاء ذياب

بغداد ـ «القدس العربي»: «بغداد أيها الأحبةُ جوهرة من جواهر العصر، ربما تمرض، تتعب، تئن، لكنها لا تشيخ، فزمن المدن العظيمة مغاير لتفسيرنا للزمن… المدن تمتلك روحها، وهي روح يمكن تلمّسها، شمها، الشعور بها، بكل مكان».

في نيسان/إبريل من العام الماضي، دعا شيخ المعماريين العراقيين محمد مكية للعودة لروح بغداد، ضمن حديثه عن تجربته الإبداعية في احتفالية خاصة لبلوغه العام المئة من عمره في لندن. مضيفاً في الكلمة التي أثارت شجون العراقيين عن الخراب الذي حلَّ بمدينته الأثيرة (بغداد): بغداد عزيزة وغالية.. عندما غادرناها مضطرين قبل عشرات من السنوات عرفنا أن شيئا من ذواتنا علق هناك على ضفاف دجلة.. في الأزقة.. والمقاهي.. والشناشيل.. والساحات.. عرفنا أن شيئاً من بغداد كان معنا.. نما معنا كأبنائنا. كبرنا.. وشخنا.. وهذه المئة تمضي.. لكن ذلك الشيء، ذلك الجزء من بغداد لا يكبر.. لا يشيخ.. يتوحد بأحلامنا.. بلهجاتنا.. بطريقة تفكيرنا.. يتسلق جدران منازلنا.. يتحول إلى شمس عراقية حانية ودافئة في أيام الشتاء القاسية.. وإلى نسمة من دجلة في أيام الصيف.

مكية الذي رحل ليلة الأحد عن عمر تجاوز المئة عام في لندن، أنجز في حياته أعمالاً معمارية لا يمكن أن يتجاوزها الزمن، فمن أولها جامع الخلفاء في شارع الجمهورية في بغداد، الذي يعد تحفة معمارية أعادت بغداد لزمن كانت قد فارقته منذ مئات السنين، فضلاً عن تصميمه لجامعة الكوفة (1969) إلا أن نظام البعث حال دون تنفيذ هذا المشروع الكبير الذي استعد له مادياً ومعنوياً، فضلاً عن بوابة مدينة عيسى في البحرين، والمسجد الكبير في الكويت، وجامع إسلام آباد في باكستان، وجامع قابوس الكبير في عمان، وجامع تكساس في الولايات المتحدة الأمريكية، وجامع روما في إيطاليا، ومكتبة ديوان الأوقاف العامة ببغداد1967، ومبنى مصرف الرافدين في الكوفة 1968، ومسجد الصديق في الدوحة 1978، وتصميم الجامعة العربية في تونس 1983.. وغيرها الكثير.

يرى أن المدينة التي يصمم فيها مبنى ما هي التي تعطيه عطر هذا المبنى وتفاصيله، فـ»المدن تشارك فينا.. وتختم على أرواحنا بصمتها. لكن ليس كل المدن تفعل ذلك، بعض المدن فقط، وبغداد منها». مبيناً أن العمارة في جوهرها تنتمي إلى تلك العلاقة الحميمية مع المكان والتاريخ والوظيفة والبشر، ذلك المكان الذي يمنحنا جزءاً منه… يحتاج دائماً إلى أن نفكر من أجله، أن نبدع من أجله، وأن نفتخر بانتمائنا إليه.

وفي ختام كلمته في لندن، يأسف مكية لأن بغداد تتعرض إلى تشويه لذاتها وصفاتها منذ عقود، «من المؤسف أن العمارة لم تكن دائماً تنتمي إلى تلك العلاقة الأصيلة مع النهر والضفة والروح الساكنة بينهما… أوصيكم ببغداد، استمعوا إليها، أصغوا إلى صوتها كثيراً، ستكتشفونه في حركة الشجر والنخيل، في دفق ماء النهر، في الضحكات الصافية، تأملوا لونها، تجدونه في الطابوق.. في الخشب.. في زرقة الماء.. في سمرة الأهل».

وهو بهذا يؤكد أن لكل مدينة هويتها، ولوُ طلب منه تصميم جامع في لندن لأعطاه ملامح إنكليزية. و»في نظري أن الجغرافيا أكثر صدقا من التاريخ. ويرى مكيّة أن المصمم المعماري يحمل مسؤولية كبيرة تجاه البيئة والكرة الأرضية ككل، وفلسفته في هذا الجانب تنبع من جذور دينية وإيمان بتعمير وصيانة الأرض حسب إرادة الخالق سبحانه وتعإلى. ويستذكر بدايات اهتمامه بالمعمار قائلاً: وجدت منذ وقت مبكر أن تفكيري وغاياتي في التخطيط العمراني تنسجم مع النصوص القرآنية، وكان تفكيري ينصب دائما على الهدف العام قبل الخاص، أي مراعاة المصلحة البيئية العليا عند التخطيط لأي مشروع». مضيفاً: دائما أضع في اعتباري حقوق الإنسان والمكان والزمان. فهذه العناصر الثلاثة تشكل أساس نظريتي في التصميم المعماري.

كان مكية يحلم بإعادة إعمار بغداد التي دمرها الاحتلال، وبشغف يتحدث عن شارع المتنبي والحيدرخانة والباب الشرقي وشارع الرشيد وأبو نواس، وبحب كبير وقدرة ذهنية استثنائية يطل على رؤاه الكونية الكبيرة، هو الذي آمن بأن العالم قطعة واحدة مترابطة، وكان سباقاً في الدعوة إلى حماية البيئة من خطر التلوث الذي يهدد الأرض اليوم أكثر من أي يوم.

في عام 1914، ولد مكية في بغداد (محلة صبابيغ الآل، وأنهى في عام 1935 الثانوية المركزية في بغداد، ليتخرج في عام 1941 بالهندسة المعمارية من مدرسة العمارة في ليفربول في المملكة المتحدة، وفي عام 1942 حصل على دبلوم في التصميم المدني من ليفربول، ليحصل على الدكتوراه بعد ذلك بأربع سنوات من (كينج كولج)، جامعة كامبريدج عن أطروحته «تأثيرات المناخ على التطور المعماري في منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط».. غير أن عام 1959 كان تأسيساً آخر لحياة مكية، إذ أسس مع معماريين عراقيين آخرين أول قسم معماري في العراق في كلية الهندسة جامعة بغداد، وأصبح رئيساً لهذا القسم منذ تأسيسه لغاية 1969، وأستاذ العمارة الإسلامية فيه، في حين ترأس في عام 1967 جمعية المعماريين العراقيين، ليؤسس بعد هذا التاريخ بعشرين عاماً ديوان الكوفة في لندن.

حصل مكية على عدة جوائز عربية وعالمية، منها جائزة (تميّز) الممنوحة لمعماريّ على منجزاته طوال حياته، وفي شهر شباط/فبراير من العام الماضي حصل على وسام التميز من ملكة بريطانيا.

كان لرحيل محمد صالح مكية أثر في الوسط الثقافي العراقي، فقد تحدث لؤي حمزة عباس عن حادثة كانت مع أحد رواد القصة العراقية، قائلاً إنه مع أول مظاهر وقوع القاص البصري محمود عبد الوهاب (1929- 2011) في المرض الذي أدى إلى وفاته، وفي الأوقات التي كان ما يزال بإمكانه أن يسير فيها، وأن يتحدّث حديثاً مختلفاً عن سائر أحاديث بهجته، كنا نتمشى معاً، في مرّات نادرة وليدة المصادفة لا الاتفاق والتخطيط، بدأت بذرة شعور تنمو في نفسي، مع ولادة الفكرة التي تقول إن الناس الذين ينتمي لهم عبد الوهاب لم يقتلهم وهن آخر العمر أو تسلل المرض إلى أجسادهم مثل بقية الخلق، إنما قتلهم الشعور بالخسارة الفادحة، خسارة آمالهم التي ضاعت في بلد لم يؤمن بأن له مستقبلاً جديراً بأن توهب من أجله الحياة كاملة، وقد وهبوا من أجله حيواتهم. واليوم، مع رحيل مكية (1914- 2015) يعاودني الشعور بأن ما يقتل أبناء جيل التأسيس الذين عملوا من أجل بلورة الوجه الحضاري لما يمكن تسميته بـ(الهوية العراقية) هو إحساسهم بفشل الرهان وقد خلّف في أرواحهم مرارةً لا تنتهي. ليس هناك ما هو أقسى وأمرّ من موت الوطن.

الكاتب رشيد الخيون يرى أن لسبب ما يعاني العراق وما ننتظر من أمل.. قبل سقوط النظام السابق، شككت بموت الجواهري (1997)، فقلت حينها: (أنا شكيت بمماتك جي قوافيك نهرين بوطن)، واليوم أشعر بالشعور نفسه، فاسمحوا لي أن اشك بموت محمد مكية. أكثر من عشرين عاماً عرفته، العراقي الأصيل، وقبل نحو شهرين لا أكثر سألني عن المعمار رفعت الجادرجي كيف حاله؟ مازحته بالقول: رفعت سني وأنت شيعي كيف توافقتما؟ فقال لي نصاً/ هذه لغوات (من اللغو) تنتهي المهم ماذا عن المستقبل! وعندما أزوره حتى قبل يومين يسألني ما الجديد؟ أجيبه ببيت الجواهري: وقائلةٍ أما لك من جديد/ أقول لها القديم هو الجديد. يا محمد مكية وهل هناك جديد أجد وأحدث «مما تفكرت أو حدثت أو كتبا!». الشاعرة ورود الموسوي تؤكد أن مكية ماتَ وفي قلبه حلمٌ بأن يرى بغدادَ كما رآها بخياله الهندسيّ، مات وخلَّفَ خلفهُ خرائطَ رسمها لبغداد الحلم، ماتَ وخلّفَ وراءه تركةً عظيمة تحمل اسم العراق في كل أنحاء العالم…

أما الناقد علي حسن الفواز فيشير إلى أن موت المهندس محمد مكية الذي عاشر قرناً كاملاً يكشف، موت ذاكرة المدينة، وعن بداية محتملة لعصر التصحر المديني، إذ تعيش المدينة العراقية منذ عام 1980 عصرها الانحطاطي، حيث التحول إلى التعسكر، والتبدّي والتريّف. محمد مكية جزء من تاريخ الانتقال إلى عمران الحداثة، وإلى عقلنة النظام التأسيسي للمدينة، وشواهده المتروكة بشحوب في بغداد تؤكد وعيه التصميمي على صناعة العمران المديني وعلى المواءمة ما بين الروح الإسلامية التاريخية والعصرنة التصميمية… قد يضعنا موت محمد مكية أمام موت حلم عراقي آخر، لكننا نودّ أن نعمل معاً على تشكيل جماعة أو جمعية تطالب بإحياء فكرة المدينة، واعتبار محمد مكية رمزها العراقي.. لأن الإهمال الذي تعيشه مدينة تاريخية مثل بغداد يُنذر بخطر داهم لموت تاريخي، وموت ثقافي يمسّ المكان والذاكرة والوعي والإنسان… المدن تصنع أبناءها، وموت المدن سيميت حتما الكثير من الأبناء.

ويرى الكاتب علي حسين، أن مكية لم يكن شاعراً، لكن أعماله أرفع من لغة الشعر والنثر، كل بناء إيقاع ، كل فكرة قصيدة، كل انحناءة حجر قافية لبيت شعر مميز، ظل يعزف لمدينته عزفاً منفرداً على الفن وعلى الحياة. عاش في قلب بغداد وطياتها وأزقتها، لم يتنازل من أجلها عن شيء، ولم يساوم معها على شيء، كانت زاده وعدته في مواجهة مصاعب الحياة، تسحره بفوضاها ويومياتها وسرعة تقلباتها من حال إلى حال، كأنها مفكرة أراد أن يكتب على حجارتها أحوال هذه البلاد. مضيفاً: تلك كانت مرحلة ازدهار الفن والثقافة في العراق، وبدء عصر النهضة الجديد، في المسرح والأدب والغناء، وقد تصدر محمد مكية ورفاقه بجدارة هذه الحقبة الجميلة والغنية التي عاشتها بغداد في الخمسينيات، وعاشها العراق حتى بداية الستينيات. أعذب علاماتها كانت صوت عفيفة اسكندر وناظم الغزالي ، وأبرز ملامحها جدارية جواد سليم، ومعمار مكية والجادرجي، وأرق صفحاتها قصائد نازك والسياب.. وأنصع عباراتها كلمات غائب طعمة فرمان وفؤاد التكرلي.


20/12/2015






® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com