![]() |
|
قراءة في كتاب: مارغاروش (ومضات من حيفا):
وجهًا لوجه مع حيفا في علياء عرشها - د. سميح مسعود ![]() سكة الحديد في حيفا 1929
من أجل ان تبقى تلك الحكايا عالقة بنفوس قرائه، تحفر في ذاكرتهم لقطات تذكارية من حيفا قبل النكبة، تشكل بمجموعها لوحة بانورمية لكل ما كان فيها من مآثر، وتزيدهم تعصبًا للجذور والانتماء.
include ('facebookshare.php'); ?>
هذا كتاب قديم للكاتب د. ماجد الخمرة، صدر عام 2004، أهداني صديقي مؤلف الكتاب نسخة منه قبل أيام معدودة فقط، قرأته بعناية فائقة، وأجد الآن رغبة شديدة للكتابة عنه بعد فترة طويلة من صدوره، لأنه من الكتب التي قرأتها مؤخرًا وتركت في نفسي أثرًا، لما فيه من ومضات ساحرة من حيفا مدينتي التي أنسبُ لها، وأشك في قيمة الحياة بعيدًا عنها. يؤكد هذا الكتاب على صحة العلاقة الجدلية التي تؤسس مع الأيام ما بين الإنسان والمكان، علاقة حب أسطوري تتضح مع بداية كل يوم جديد، تجعل صلته بالعالم عميقة، واحساسه بالناس والوجود رحيبا، يرى مدينته التي يعيش فيها من خلال كوة واسعة باتساع فضاءات الكون كله، ينسج من خلالها لوحات مرئية متآلفة متصلة عن كل شيء فيها، عن الناس وحركاتهم وخطواتهم وعن البيوت والاشجار وحتى عن ذرات التراب ذرة تلو ذرة. تستوعب لغة ماجد الخمرة الأدبية تلك العلاقة الجدلية مع حيفا بعاطفة عميقة أصيلة، يعقد في تشابكاتها أواصر قربى حميمة مع مدينته بنفسية حية، ويتحسس فيها ماضيها قبل النكبة، يستمده من ذاكرة مليئة بالأحداث والصور والشخصيات والحكايا والعلاقات الإنسانية، ينتقيها من خبايا واقع الأمس بدقة وعمق، ويُسطرها على بياض الورق بكلمات ساخرة سخرية سوداء، واضحة ومنظورة بتفاصيل وجزئيات كثيرة، يسيطر عليها إحساس كاتبها بالحزن وتداعيات مآسي النكبة المريرة، ورغبته الدائمة بادخال عنصر الفكاهة في حشايا السطور كلما اشتدت حدة المأساة. في إطارهذا الخط الذي التزم به المؤلف، يضم الكتاب بين دفتيه مجموعة مقالات نُشرأغلبها في جريدة "الإتحاد" من قبل، تعتمد في حبكها على اتساع الذهن والعاطفة، لتعريف المتلقي من الزمن الحالي بحيفا كما كانت بالأمس، قبل النكبة والهزيمة، وهذا ماعبر عنه الشاعر الكبير حنا أبو حنا في تقديمه للكتاب بتأكيده على مساهمة المؤلف في الجهود الساعية إلى "تأثيث الوجدان الفلسطيني بالذكريات الحيفاوية الحية". وضمن هذا التصور، يجد القارئ نفسه وجهًا لوجه مع حيفا في علياء عرشها، تدفع به الكلمات إلى آفاق مزدحمة بنصوص تُلامس الواقع على امتداد فصول الكتاب، أراد بها المؤلف "التأكيد على ثلاثة أمور اساسية ، هي: محاولة إعادة صياغة الذاكرة والتذكير والتذكر، و إعطاء جيل النكبة حقه من التاريخ (الجيل الذي ما زال يعيش نكبته يوميا داخل مدينة حيفا المختلطة)، ودعوة الأجيال القادمة لأخذ دورها قدر المستطاع لاستنطاق من يحمل الذاكرة". يستهل الكتاب نصوصه بسياق سردي في بُعدين، أولهما البعد المكاني وثانيهما البعد الزماني، وفي إطارهما يعطي المؤلف مشاهد كثيرة عن الحياة في حيفا ما قبل النكبة، ينقلها عن أمه أقرب الناس اليه، التي دأبت منذ يفاعته على التحدث معه بقالب حكائي عن الناس والأحياء والشوارع والبنايات والعائلات، وعن التآخي الاسلامي المسيحي، وعن أهوال المجازر والمعارك وسقوط حيفا والهجرة القسرية لأغلبية السكان. هأنذا أتجول مع المؤلف في مختلف أحياء ومواقع وأسواق حيفا، إنها تحمل أسماءً جديدة في الزمن الحالي، حيث تبدلت الأسماء التي كانت تحملها لكنها بقيت كما كانت من قبل في نفس المكان: ساحة الخمرة (التي تحمل اسم عائلته) وحارة الكنائس والوادي والسعادة والقشلة والحليصة ووادي الصليب والخضر وبوابة الدير والشوافنة وسوق الشوام ونزلة الكلداوي وشارع البرج الذي تقع فيه مدرستِي (مدرسة البرج) التي أغلقت أبوابها في نيسان 1948 وما زالت تنتظر طلابها حتى الآن. في سياق ذكره للبيوت القديمة يتحدث المؤلف عن أطلال وادي الصليب المهدوم، وعن بيت آل الخوري الواقع في حي درج الأنبياء مقابل بيوت آل توما والخمرة وحبيب وبدران، وفي سياق هذا التجوال بين البيوت المهجورة ، تثيره حجارة البيوت، وفي لحظة لا يحتمل رؤية الواقع المحيط، وينتهي به الأمر بدافع إثبات حقه ووجوده ومظاهر حياة أهله في حيفا قبل النكبة، إلى الصراخ بصوت عالٍ: "انطق ايها الحجر"! ومن ثم وجه المؤلف انتباه القارئ الى نتيجة مفصلية مؤداها: "حجارة المباني تجعلك ملحاحًا لتستنطقها لتأتيك بالأخبار من سفر الدهور، أخبار ظاهر العمر الزيداني، رشيد الحاج ابراهيم، الزعبلاوي، عبد الرحمن الحاج، صنبر،عوض،الحجار، القط، حوا، عابدي، مصطفى الخليل، و القسام، وغيرهم من الاسماء التي تعجز ذاكرة الجيل الثاني بعد النكبة عن احتوائهما، وتزودك الحجارة بكل حدث وتؤكد لك أحداث نيسان من ذلك العام - 1948". لم يقف الأمر في حدود استنطاق الحجارة فحسب، بل تم استنطاق الأموات أيضًا، من خلال رسالة وصلت المؤلف عبر الانترت من جده الراحل قاسم بن ديب، ورسالة منه الى جده أيضًا، يؤكد له جده في رسالته أنه يحمل نكبته على كتفيه في الدار الآخرة، ويحمل حيفا معه، وأنه ما زال على معرفة بكل حجر في بيوتها، ويخبره في جانب آخر من الرسالة عن أسماء كثيرة من أهل حيفا الراحلين الذي يلتقي معهم، ونجد في رسالة الحفيد الى جده كلمات مثيرة في آخر رسالته، مفادها: "أطلب منك يا جدي أن تقف يوم الحساب على قدميك متينًا شامخًا أمام الملاكين الرحومين اللذين سيسألانك: ما اسمك وما دينك ؟ فقل لهما بلا جزع أو خوف: حيفا مدينتي، وحاراتها مرتعي، جوامعها أذاني، وكنائسها أجراسي، أناسها إخوتي، كرملها جبلي، وإنني ولدت وعشت ومت على أنني باقٍ في حيفا". وفي إطار الحديث عن الراحلين يأتي ذكر المرحوم رشيد الحاج ابراهيم، وهو من كبار رجالات حيفا، كان رئيس "اللجنة القومية في حيفا" ومسؤولًا عن الدفاع عن المدينة في عامي 1947و1948، تمكن المؤلف بالصدفة البحتة أثناء تجواله في البيوت القديمة أن يحصل على وثائق كثيرة كانت مخبأة في بيت الراحل الكبير، تفيض بكم هائل من المعلومات حول مقومات حيفا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وصفها بكونها أقرب ما تكون إلى "نصبٍ تذكاري لجيل النكبة وجيل ما بعد النكبة" تشتمل على "كتب مدرسية باللغتين العربية والتركية كالجغرافيا والرياضيات، وتقارير مالية وصفقات مالية كان يديرها رشيد الحاج ابراهيم، بالإضافة إلى سجلات عمل ممن عملوا في حيفا يظهر فيها أسماء العمال وأسماء قراهم ومدنهم، مثل بيروت وصيدا وصور والناصرة وطرعان وكفر كنا ونابلس وجنين والعديد من القرى الأخرى التي لم يعد لها ذكر." هكذا نطق الحجر في بيت رشيد الحاج ابراهيم، وأظهر ما كان مخبّأً خلف الجدران من وثائق حيفاوية ثمينة، وفي سياق ذكره لهذه الوثائق يُعبر المؤلف عن فرحه بهذا الكنز الثمين، بقوله: "نعم هذا هو بيتك يا رشيد الحاج ابراهيم، هذا هو برجك، هذه وثائقك بخط يدك التي لم تعد ملكًا لك ولنكبتك، بل أصبحت لنا ولنكبتنا، هذه حياتك التي أصبحت حياتنا، فاعلم أن جيلنا يعرف كيف يدافع عن حقوقه... فنم قرير العين في أرضك وسمائك لأننا سنكمل الكفاح." واللافت للانتباه أن المؤلف إلى جانب اهتمامه برجالات حيفا الكبار، يهتم أيضًا بنماذج أخرى من عامة الناس، تم ذكرهم في كتابه في سياق حكايا متشابكة بإيقاع سردي جميل، منهم: "فاطمة الزعرة" و "زينب القرعة" و "زينب الهدروس و"ماري الشورا" و "مدام كلير" و "الشيخ نايف" وزوجته "حليمة " و "أبو جميلة" وشخص مجهول الإسم كان يحث المارة في ساحة الخمرة (الحناطير) على السفر "ع الناصري" بسيارات الأجرة، كما خصص فصلا مهما عن الجن الشهير "مارغاروش" وحكايات أهل حيفا الخرافية عنه وعن شروره، كل ذلك من أجل ان تبقى تلك الحكايا عالقة بنفوس قرائه، تحفر في ذاكرتهم لقطات تذكارية من حيفا قبل النكبة، تشكل بمجموعها لوحة بانورمية لكل ما كان فيها من مآثر، وتزيدهم تعصبًا للجذور والانتماء. وخلاصة القول، هذا كتاب نادر في عمق تناوله لحيفا ما قبل النكبة، تألق وأجاد فيه مؤلفه، فأمتع وانعش نفوس أهل حيفا المتعطشة إلى معرفة ماضي مدينتهم، بتفاصيل دلالات كثيرة عن إرثها الأصيل. 29/5/2014 |
® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com |