من ينسى راشيل كوري؟ - وليد قدورة


لماذا تركتِ دارك و حديقتك بعصافيرها الصغيرة و شجيراتها الجميلة و حملت نفسك من وراء المحيط قادمة إلينا ؟

هل كنا نستحق عناء رحلتك الشاقة و نهايتها المفجعة ؟ و هل كان مصير هذه الأكواخ الصغيرة و بيوت الصفيح و الطين جديراً بأن تمنحيه و تهبيه جسدك و روحك و ضميرك الغاضب ؟ صدقيني أن كثيرين منا لازالوا حتى هذه اللحظة لا يستوعبون الأمر . و لا يدركون ما الذي يجعل صبية أميركية في الثالثة و العشرين من عمرها تترك حجرتها المزينة بشتى أنواع الصور ، و التي تتسلق حيطانها و تتدلى من نوافذها ألوان عدة من الورود و الزهور. و يتساءلون ما الذي يجعلها تدير ظهرها لكل هذه المباهج و المتع التي يتشوق أغلبنا و يحلم بالحصول عليها مستخدماً كل الحيل القانونية و اللاقانونية ، و التوسل و الرجاء ، و الإنتظار لساعات أمام أبواب السفارات؟ فلماذا تركت ذلك أيتها الصبية ذات الشعر الأشقر و العينين الزرقاوين و الجسد الصغير النحيل و جئت إلينا و عشت بين ظهرانينا حيث تتكدس الأسرة في غرفة صغيرة واحدة ليست بمساحة حجرتك في ولاية واشنطن طبعاً ، غرفة تتسع لكل شيء يصنعه البشر ، حيث يلهون و يأكلون و يقرأون و يمارسون الحب و ينجبون.

حدث ذلك في 16 مارس 2003 ، فيما كانت الشمس تكاد تغطس في بحر غزة . تقدمت الجرافات الإسرائيلية بفولاذها الصدئ و مخالبها الحديدية صوب مجموعة من البيوت الفلسطينية في حي السلام بمخيم رفح من أجل هدمها فتصدى لها مجموعة من المتطوعين الأجانب القادمين من بريطانيا و كندا و أمريكا و حاولوا بأجسادهم الطرية أن يردعوها . عشرات الأمتار تفصل بين القسمين . الأول يمشق سواعده المرفوعة و هتافاته المنددة بهذا العمل الأحمق ، و دعوته إلى سلامٍ عادل . و الثاني يزحف ببطء بكتله الحديدية و قناصته المسربلين بالسلاح .نحو ضحاياه الجدد أمتار قليلة تفصل بينهما ، فيتنحى دعاة السلام بعدما أيقنوا أن قادة الجرافات مصرون على إقصائهم و إلغائهم كشهود على ما يحدث . راشيل كوري التي أصبحت الجرافة على بعد أشبارٍ منها تظل واقفة ، رافعة مكبر صوت بيديها النحيلتين ، رافضة أن تتراجع ، غارزة عينيها في الزجاج المصفّح الأمامي لجرافة يقودها سائق أعمى البصيرة . لا تلبث أن تطمر جسد الصبية في التراب و ليبدأ فصل جديد من روايةٍ إسمها " راشيل كوري".

ليس مهماً أن نشير أن راشيل ودعت بينما كانت ترتدي جينزاً و تي شيرتاً بسيطاً ، و ليس ذات قيمة أن نعرف أنها كانت طالبة بجامعة كولومبيا و أنها كانت على أبواب التخرج في عامها الدراسي الأخير . و لا أن الإسرائيليين صرحوا أن موتها كان حادثاً عرضياً لم يكن مخططاً له . إن من الأهمية بمكان أن نعرف أن كل أصناف الزعتر و الميرمية و الخبيزة و الهندباء قد نبتت و نشبت في البقعة التي احتوت جسدها الصغير ، و أن خصلاتٍ من شعرها الأشقر مازالت الريح تعبث بها حتى الآن ، و تتطاير في هواء ذلك المكان . خمسة أعوام على استشهاد هذه المواطنة الأميركية ذات الضمير الحي التي غابت في بدايات الربيع ، و في الشهر نفسه ، الذي تحتفل فيه البشرية بعيد الأم و يوم المرأة العالمي ، فمن دلك علينا يا راشيل ؟ و هل كنا نستحق وقفتك التي تعيدنا إلى استذكار الفرسان الذين لا يطيب لهم الموت إلا واقفين؟



وليـد قـدورة
صيدا - جنوب لبنان

16/10/2009






® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com