![]() |
|
محطات على طريق السيرة الذاتية "بين مدينتين"- فتحي فوراني
![]()
الكلية الأرثوذكسية العربية هنالك مشهد عزّ نظيره!
إنها حديقة غنّاء تغطي سماءها العصافير والفراشات الملونة.. فيتراءى أمامنا مشهد يثير في النفوس العزة والإباء! الطلاب خليط من جميع أنحاء الوطن.. فالمشهد الطلابي يغطي مساحات شاسعة تمتد من أقصى شمال الوطن إلى أقصى جنوبه. يؤمّ طلاب العلم والمعرفة عروس الكرمل.. من الجش ومعليا وفسوطة وعبلين وسخنين وطمرة والناصرة مرورًا بعسفيا ودالية الكرمل.. ثم يواصل الطريق مسيرته إلى زلفة وأم الفحم ومصمص وعارة وعرعرة وكفر قرع وباقة الغربية وطيرة بني صعب والطيبة وقلنسوة وجلجولية وكفر قاسم.. ويحط رحاله في لقية قديرات "الصانع" في بئر السبع. ففي الكلية الانتماءات كافة التي تنتسب إلى شجرة مباركة.. جذورها تضرب عميقًا في رحم الأرض.. وفرعها يطاول السماء.. تنتصب المنارة عالية على خارطة الوطن الواحد.. وترسل أضواءها إلى جميع أبناء شعبنا الباقي في وطنه. طلاب العلم يتوافدون على عروس الكرمل من أكثر من خمسين قرية ومدينة.. ويصبّون في الكلية العربية الأرثوذكسية! وأثناء عملنا في ورشتنا التربوية.. نواجه تحدِّيًا كبيرًا.. يتطلب منا أن نضطلع بأقصى درجات المسؤولية! قف.. ضوء أحمر.. أمامك واجب! ونتوقف أمام أيقونة مضيئة: علينا أن نصهر ألوان الطيف كافة في بوتقة واحدة.. لإبداع شكل نهائي متجانس متناغم ومتآلف.. قائم على قاعدة عريضة مشتركة.. تظللها سماء واحدة.. تحنو على جميع طلاب الكلية! ويصدح صوت عبد الباسط.. في الكلية الأرثوذكسية!* هي تجربة! في درس الأدب العربي للصف العاشر.. يجب أن ندرّس بعض النصوص القرآنية من سورة "إبراهيم" أو سورة "المؤمنون".. وهي من ضمن النصوص المقررة التي يطلبها منهاج الأدب الرسمي. تمهيدًا لهذا الدرس أطلب من الطلاب أن يحضروا مادة قصيرة تعرّفهم بالقرآن الكريم. ترفع سوزان إصبعها.. فتسأل وبراءة الأطفال في عينيها: أستاذ! ما هو القرآن!؟ يتوقّف المعلم برهة.. ويطلب من سوزان حصرًا أن تحضّر المادّة وتقدم كلمة موجزة عن القرآن الكريم.. ماهيته.. نزوله.. جمعه.. السور المكية.. السور المدنية.. ويعطي المعلم الإشارة.. الطريق مفتوح إلى كتاب "تاريخ الأدب العربي" لحنا الفاخوري أو أي كتاب آخر. تحضّر الطالبة المطلوب وتقدّم كلمة موجزة عن القرآن الكريم.. وتبدو على ملامحها أمارات الرضا عن النفس.. فقد سقطت علامات السؤال والتعجب.. وانقشع الضباب.. وصحت السماء الزرقاء.. فازدادت الطالبة معرفة.. وذاقت متعة الاكتشاف. عدد من المصاحف يحتل مكانه على مقاعد الطلاب.. بعض الطلاب يرونه لأول مرّة! النص القرآني من سورة الـ"المؤمنون" محور الدرس.. في الدرس القادم.. وبطلب من المعلم، تحضر الطالبة "مسجلًا" - Taperecorder -.. مشحونًا ببعض السور للمقرئ المبدع عبد الباسط عبد الصمد. ويصدح صوت عبد الباسط في الكلية الأرثوذكسية العربية.. بما تيسر من آيات الذكر الحكيم. يخيّم على الطلاب صمت وخشوع.. وتشحن مشاعرهم بمتعة روحية تسامت بهم إلى أعلى سماء. لم يعتدْ معظم الطلاب على مثل هذا الجو في حصص اللغة العربية.. فقد اكتشفوا شيئًا جديدًا! ورأيت علامات الرضا والمتعة النفسية في عيونهم! المطلوب تربويًّا وضميريًّا!* كان يمكن أن نطوي الصفحة.. ونفتح صفحة جديدة.. كان يمكن أن ننتقل إلى نص أدبي آخر عن الشعر السياسي في العصر الأموي. وكان الله بالسر عليمًا! لحظة.. إن المَهمّة لم تكتمل بعد.. ولم تبلغ الرسالة غايتها! ينتصب أمامنا جدنا المتنبي.. وينبهنا قائلا: ولم أر في عيوب الناس شيئًا كنقص القادرين على التمام يجب أن نكمل المشوار.. ونستكمل الرسالة! نحن قادرون.. وعلينا واجب! في انتظارنا مادّة أخرى.. تنتظر دورها! يأتي دور المادّة غير المقررة وغير المطلوبة.. منهجيًّا! وقد يكون هذا التوجّه نوعًا من السباحة عكس التيار.. يتبعه سين وجيم! غير أن القافلة يجب أن تواصل المسيرة! إنه واجب الساعة.. ومطلوب تربويًّا.. وضميريًّا.. وثقافيًّا! فيروز تصلي للسيد المسيح.. نحن في معبد!* - الدرس القادم سيكون عن "الإنجيل" المقدس.. ولا تنسَوا أن الإنجيل والقرآن صديقان حميمان.. يجب أن نعتزّ بهما.. إنهما مُلك لشعبنا كله! من سيحدثنا عن الكتاب المقدس؟ أحمد طالب يعشق اللغة العربية ويهتم بالتعرف على الكتب السماوية.. ويعشق مصارعة الأمواج واكتشاف البحار الضائعة. يرفع أحمد إصبعه.. ويبدي استعداده للتحضير عن الإنجيل! فالوالد مثقف متنور.. وفي مكتبته يحتل القرآن والإنجيل.. مرتبة رفيعة. يقول المعلم: - نحن بحاجة إلى عشرين نسخة من الإنجيل.. لتوزيعها على عشرين مقعدًا وأربعين طالبًا وطالبة. وتبدي رائدة، وهي طالبة أخرى، حماسها في إحضار العشرين نسخة. فقد كان والدها عضوًا نشيطًا في جماعة دينية تنشط في مجال التبشير.. ولديه عدد وافر من نسخ الإنجيل. ** يقدم أحمد كلمة قصيرة عن حياة السيد المسيح وعن تلامذته وعن الأناجيل الأربعة. بعدها.. نروح نسلط الضوء على بعض المقتطفات من إنجيل "متّى" (التطويبات- الإصحاح السابع) هذه المقتطفات تتضمن تعاليم أخلاقية ونقدًا اجتماعيًا.. وتتطرق إلى أنماط السلوك المزيفة التي يمارسها بعض المخلوقات البشرية ولا سيما بعض رجال الدين. ويكتشف الطلاب عالمًا جديدًا يعرفهم على "الآخر" من أبناء صفهم.. وأبناء شعبهم. ** أما الخطوة التالية.. فكانت إحضار المسجل مشحونًا بصلوات سيدة الغناء فيروز وصوتها الملائكي في جناز السيد المسيح. الهدوء تام.. والإصغاء سيد الموقف. "إرم الإبرة .. تسمع رنتها"! أنظرُ في عيون الطلاب.. فألمحُ خشوعًا غير عادي.. نحن نصلي في معبد مقدس! الهدوء.. الخشوع .. والمتعة الروحية! ** جميع الطلاب على مختلف انتماءاتهم الدينية والمذهبية.. استمتعوا بدرس "الأدب" المميز وغير العادي.. هذه اللحظات حطّمت الكثير من الحواجز المصطنعة.. وعزّزت لدى الطلاب الشعور بالانتماء الوطني والقومي.. وتعزّز في وعيهم معنى العبارة "الدين لله والوطن للجميع"! واكتشفت ما معنى أن تكون مربِّيَ أجيال.. يحمل رسالة!* بعد أكثر من ثلاثين عامًا ألتقي شبابًا وصبايا تخرّجوا من معطف الكلية.. فيصرحون لي أن "تلك الحصة" كانت من أحسن الحصص التي تعلّموها في دروس اللغة العربية.. وأكثرها متعة وثقافة! فكيف لا أشعر بالرضا؟ وكيف لا أكون سعيدًا؟ لا أخفي عليكم أنني استمتعت بهذه التجربة التربوية ذات الأبعاد والدلالات البليغة. ولا أكون مخلصًا للحقيقة إذا قلت غير ذلك. لقد اكتشفت ما معنى أن تكون مربّيَ أجيال.. يحمل رسالة! (نصّ من السيرة الذاتية "بين مدينتين") 15/11/2013 include ('facebookshare.php'); ?> |
® All Rights Reserved, Wajih Mbada Seman, Haifa.
WebSite Managed by Mr. Hanna Seman - wms@wajihseman.com |